مفهوم الفساد البيئي في الإسلام

فيصل الحضرمي

تتعدَّد وجوه وأنواع الفساد التي نهى عنها الإسلام، وحثَّ أتباعه على تجنبها، والقضاء على الأسباب المفضية إليها. ويأتي الفساد البيئي في مُقدِّمة هذه الأنواع التي تشكل خطراً جسيماً على الإنسان وكافة ما يحيط به من عناصر وكائنات حية وغير حية. ويسلط الباحث سامي عطا عبدالرحمن المزيد من الضوء على هذا الموضوع، عبر بحثه المنشور في مجلة "التفاهم" تحت عنوان "الفساد والأمن البيئي في الإسلام".

ويستهلُّ الكاتب مقاله بالآية الكريمة: "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة"، ليدلل على استخلاف الله للإنسان في الأرض؛ أي تفويضه بإعمارها وإصلاحها، وما يستتبع ذلك من ضرورة أن يستغل الإنسان ما في الكون، وأن يفيد منه خير استفادة لتأدية مهمة الاستخلاف المنوطة به على أحسن وجه. وفي سبيل تحقيق هذا الأمر، حرصت الشريعة الإسلامية على محاربة جميع أشكال الفساد والانحراف، وعلى صون مصالح الإنسان المختلفة، وعلى رأسها مقاصد الشريعة الكلية الخمسة؛ وهي: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال.

وهنا.. تتضح جليًّا أهمية مسألة الحفاظ على البيئة؛ إذ تكاد تمثل مقصداً شرعياً كلياً؛ لما لها من ارتباط وثيق الصلة بمقاصد حفظ النفس وحفظ المال وحفظ النسل؛ فإفساد البيئة ينجم عنه إزهاق الأرواح، وتبديد الموارد، وحالات العقم والإجهاض والتشوهات الخلقية. وقد حض الإسلام على حسن استغلال الأرض وعدم تخريبها، ونهى عن إفسادها وعن الفساد بشكل عام. قال تعالى: "ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها". وقال أيضاً: "والله لا يحب المفسدين".

ويقدِّم الكاتب عدداً من التعريفات اللغوية والاصطلاحية للفساد؛ فالفساد لغةً عكس الصلاح، كما أن المفسدة ضد المصلحة، والاستفساد ضد الاستصلاح. وتفاسد القوم: أي قطعوا الأرحام. فالفساد إذن مرادف للعطب والتلف والاضطراب، ويفيد الخروج عن الاعتدال. أما في الاصطلاح، فهو الخروج عن منهج الله تعالى. ويشير الكاتب إلى وجوه الفساد الثلاثة التي ورد ذكرها في النص القرآني، وهي: الكفر بالله، والنفاق، وإثارة الفتن والحروب. كما يشير إلى أنواع الفساد وصوره المختلفة حسبما ورد في القرآن الكريم، وتتمثل في الفساد العقدي، أي اعتقاد الباطل والعمل به، والفساد الأخلاقي، والفساد الوظيفي، والفساد الأمني، والفساد المالي، والفساد البيئي.

ويتوقَّف الكاتب عند المفهومين اللغوي والاصطلاحي للبيئة. فكلمة بيئة مشتقة من الجذر "بوَّأ"، ومنه الفعل باءَ: باء إلى الشيء، بمعنى رجع إليه، وباء بذنبه، أي احتمله وصار المذنب آوياً للذنب. وبحسب الكاتب، فإن الجذر "بوأ" ومشتقاته المختلفة تحيل إلى عدة مفاهيم، أهمها: الرجوع والعودة، والنزول والإقامة، وإصلاح المكان وتهيئته، وحُسن الحال. وجميعها تدل على الارتباط بالمكان، رجوعاً إليه، أو نزولاً فيه واصلاحاً له. وقد ورد ذكر هذا الجذر في القرآن الكريم، والسنة المشرفة، كما في قوله تعالى: "والذين تبوؤوا الدار والإيمان"، أي الذين سكنوا في المدينة قبل الهجرة، واطمأنت قلوبهم إلى الإيمان بالله. وكما في قوله صلى الله عليه وسلم: "من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار"، أي فلينزل منزله من النار.

أما فيما يخص المفهوم الاصطلاحي للبيئة، فإنَّ تاريخ استعمال المفاهيم البيئية في الإسلام يعود لعهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وإن لم تكن لفظة "البيئة" قد عرفت الاستعمال يومها. فقد وردت كلمة "الأرض"، كمرادف للبيئة، في مائة وتسعٍ وتسعين آية، للدلالة على مفهوم أماكن سكنى الإنسان وبقية الكائنات، وطبيعة العلاقة التي ينبغي أن تحكم تعامل الإنسان معها. قال تعالى: "ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معائش قليلاً ما تشكرون". وقال أيضاً: "هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها".

وعرف القرن الثالث الهجري بداية الاستخدام الاصطلاحي لكلمة "البيئة" من طرف العلماء المسلمين. وكان ابن عبد ربه الأندلسي سباقاً إلى طرح المعنى المفاهيمي للبيئة؛ وذلك في كتابه "العقد الفريد"، للدلالة على الوسط الجغرافي والمكاني الذي يستوطنه الكائن الحي، وعلى المناخ السياسي والأخلاقي والفكري الذي يعيش فيه الإنسان. كما أولى العلماء العرب عناصر البيئة اهتماماً كبيراً تمثل في العديد من المؤلفات التي عززوها بالكثير من المعلومات القيمة، وعرضوا فيها مختلف المفاهيم البيئية. ومن ضمن هؤلاء العلماء: الأصمعي، والجاحظ، والمجريطي. والأخير هو أول من أدخل كلمة "البيئة" في عنوان أحد كتبه، وذلك في كتابه "الطبيعيات وتأثير النشأة والبيئة على الكائنات الحية".

بعد ذلك، ينتقل الكاتب للحديث عن الأمن البيئي، والتشريعات الإسلامية التي رمت إلى تحقيقه. ويتمثل الأمن البيئي في ضمان سلامة البيئة، وحمايتها من مختلف أسباب التلوث. ولما كان مفهوم البيئة شاملاً للإنسان والحيوان والنبات والأرض والماء، فقد دعا الإسلام إلى تحقيق الأمن البيئي لكل واحدٍ من هذه العناصر. ويتجلى حرص الإسلام على تحقيق الأمن البيئي للإنسان من خلال المقاصد الخمسة المذكورة آنفاً. كما يتجلى اهتمامه بتحقيق الأمن البيئي للحيوان في عديد الأحاديث النبوية التي تحث على الرفق بالحيوان، والامتناع عن تعذيبه وقتله تسليةً وإفساداً. كما دعا الإسلام إلى تحقيق الأمن البيئي للنبات عبر زراعة الأرض، وصون الأشجار، والنهي عن قطعها عبثاً أو اعتداءً. ودعا إلى تحقيق الأمن البيئي للماء عن طريق النهي عن الإسراف فيه، والنهي عن تلويثه بالبول والغائط وغيرهما. أما دعوته إلى تحقيق الأمن البيئي للأرض، فتمثلت في النهي عن الإفساد فيها، وتلويثها، وإلحاق الضرر بها.

وفي خاتمة مقاله، يؤكد الكاتب على تصدي الإسلام للفساد عبر تحذير الناس من الإفساد، وسن العقوبات الكفيلة بردع المفسدين منهم. ويوصي كلاً من الأسرة والمدرسة والمسجد ووسائل الإعلام بإحياء الوازع الديني في النفوس. كما يوصي بضرورة غرس فكرة الاعتناء بالبيئة والمحافظة عليها في عقول الناشئة، وذلك عبر المناهج والكتب المدرسية، وعبر قيام الأسرة ومؤسسات المجتمع المدني بدورها التوجيهي والتربوي.

أخبار ذات صلة