ناصر الكندي
يتناول الأكاديمي المصري خالد عمر الدسوقي في مقاله المنشور بمجلة التفاهم بعنوان "نظرية النظم بين عبد القادر الجرجاني والحاكم الجشمي" تاريخ نظرية النظم وولادتها وتطورها منذ ابن المقفع إلى الحاكم الجشمي مرورا بالجرجاني والزمخشري.
ويبدو أنَّ أول إشارة إلى نظرية النظم كانت عن طريق ابن المقفع (المتوفي: 142هـ) وذلك في معرض حديثه عن صياغة الكلام في قوله: "فليعلم الواصفون المخبرون أن أحدهم – وإن أحسن وأبلغ ليس زائدا على أن يكون كصاحب وجد ياقوتا وزبرجدا ومرجانا، فنظمه قلائد وسموطا وأكاليل، ووضع كل فصٍّ موضعه، وجمع إلى كل لون شبهة وما يزيده بذلك حسنا". وهنا تلميح من ابن المقفع على أن للكلام بنية عميقة تسبق صناعته وصياغته.
كما أن سيبويه (ت 180 هـ) أشار للنظم وإن لم يسمه صراحة بهذا الاسم إذ قسّم الكلام إلى مستقيم ومحال وحسن وقبيح. وقد اهتم مثلا بحروف العطف وأثرها في صحة النظم وفساده، ويرى أنَّ لكل استعمال معناه وإذا تغير الاستعمال فلابد أن يتغير المعنى. ولقد ورد مصطلح النظم عند الجاحظ (ت: 255هـ) في كتابه الحيوان: "وفي كتابنا المنزل الذي يدلنا على أنه صدق: نظمه البديع الذي لا يقدر على مثله العباد". ويقول في (العثمانية): "وفرق ما بين نظم القرآن وتأليفه ونظم سائر الكلام وتأليفه".
ولم يقدم الجاحظ تفسيرا واضحا للنظم، وإنما فهمناه من خلال مذهبه الأدبي الذي يهتم بالصياغة والألفاظ، فالجاحظ يقصد في النظم معنى حسن الاختيار سواء كان موسيقيا متناسقا ومعجميا متناسبا. وجاء الرماني (ت:386 هـ) فأعطى إشارات وتلميحات عن نظرية النظم لكنه لم يلج في عمقها، فهو يرى أنَّ حسن البيان في الكلام على مراتب: ما جمع أسباب الحسن في العبارة من تعديل النظم حتى يحسن في السمع، ويسهل على اللسان وتتقبله النفس. وذكر الباقلاني (ت: 403 هـ) قريبًا مما ذكره الجاحظ فرأى أن النظم وجه من ثلاثة أوجه لإعجاز القرآن، ووجه النظم هو أنه أتى بديع النظم عجيب التأليف.
وتبعهم القاضي عبد الجبار (ت:415 هـ) الذي رأى النظم يقوم على انتقاء الألفاظ، ثم نظم الألفاظ في صورة أنيقة، والتفاضل يكون في نظم الألفاظ وضمها على طريقة مخصوصة، وأما المعاني فلا تفاضل فيها، بل هي كما يرى الجاحظ "مطروحة على الطريق". ويعد عبد القاهر الجرجاني (ت: 471 هـ) المؤسس لتلك النظرية والمقيم لأعمدتها بلا خلاف، إذ انطلق في تأسيسه لنظرية النظم من ثنائية اللفظ والمعنى رافضاً فصل اللفظ عن المعنى، وإنما تتفاوت الألفاظ بمدى ملاءمتها للمعنى الذي جاءت لتعبر عنه، ولذلك ربما تجد اللفظة فصيحة في موضع وغير فصيحة في موضع آخر.
ويقسم الجرجاني الكلم إلى ثلاث: اسم، وفعل، وحرف. وللتعلق فيما بينها طرق معلومة، وهو لا يعدو ثلاثة أقسام: تعلق اسم باسم، وتعلق اسم بفعل، وتعلق حرف بهما. وتعلق الاسم بالاسم يكون خبرًا عنه أو حالاً منه أو تابعاً له صفة، وتعلق الاسم بالفعل بأن يكون فاعلاً له أو مفعولا، فيكون مصدرا قد انتصب به مثل المفعول المطلق أو ظرفاً مفعولاً فيه. ويأتي تعلق الحرف بهما على ثلاثة أنواع: توسط بين الفعل والاسم، وتعلق الحرف بما يتعلق به مثل حرف العطف، وتعلق بمجموع الجملة كتعلق حرف النفي والاستفهام والشرط.
ويرتبط النظم عند الجرجاني ارتباطا شديدا بعلم النحو، فليس هناك شيء يرجع صوابه أو خطؤه إلى النظم إلا وهو معنى من معاني النحو قد أصيب به موضعه ووضع في حقه، ويرجع الفضل في صحة المعنى إلى معاني النحو وأحكامه. وتتلخص فكرة الجرجاني عموما في أن الألفاظ أوعية للمعاني، ولابد أن تتبع آثار المعاني، ولا نظم ولا ترتيب للكم حتى يتعلق بعضها ببعض، وأن تلتقي معاني الكلمات على الوجه الذي يقتضيه العقل، كما أن النظم هو وضع الكلام على مقتضيات النحو.
بعد ذلك جاء الزمخشري (ت: 538 هـ) تلميذ الجرجاني ليتم ما بدأه أستاذه وذلك لينقله من التنظير إلى التطبيق على النص القرآني، ذلك أن الأستاذ رسم الخطة وبين الطريق ليتولى الثاني التنفيذ، حيث تتبع القرآن آية آية ليوضح ما عناه الجرجاني بالنظم القرآني. فقد رُزق الجرجاني السلاسة في التعبير واسترسالا في التوجيه، بينما كان الزمخشري أكثر إيجازا. ولم يكن الزمخشري سوى مقلّد لأستاذه الجرجاني وتظهر عظمة الزمخشري كلما ابتعد عن أستاذه.
استفاد الإمام الحاكم الجشمي (ت: 494 هـ) من سابقيه في نظرية النظم، فقد عني بالنظم عناية كبيرة، حتى عده من أهم علوم القرآن الثمانية: القراءة ووجوهها وعللها، واللغة، والإعراب، والنظم، والمعنى، والنزول، والأدلة والأحكام، والأخبار والقصص. ويقصد الجشمي بعلم النظم بأنه "علم المناسبات"، وهو علم له علاقة وطيدة بنظم عبد القادر لكن ليس كثيرا، فهو عند الجشمي معني بعلل ترتيب أجزاء القرآن وسوره، وتناسب المقاطع والأجزاء والفقرات وتسلسل الأغراض والعلائق بين الموضوعات.
وقد أُطلق على علم النظم فيما بعد علم المناسبة، وهو عند الجشمي علم شريف المنزلة، نبه على أهميته جمع غفير من العلماء مثل الشيخ العز ابن عبد السلام والسيوطي. ومن فوائده العظيمة أنه يزيل الشك الحاصل في القلب بسبب عدم التأمل في دقة النظم وإحكام الترتيب، ويفتح باباً جديدًا لإعجاز القرآن. وقد جعل الحاكم علم النظم العلم الرابع ضمن علوم القرآن لمنزلته الرفيعة، فعلى سبيل المثال تناول سورة الفاتحة آية آية من حيث اللغة والمعنى والأحكام في سبعة مواطن، وتناولها من حيث النزول وأسبابه في موطنين، أما النظم فجاء في موطن واحد في نهاية شرحه للسورة.
وقد أولع بعلم المناسبات هذا جمع غفير ممن تصدر لتفسير وتصنيف القرآن أو ألف لعلومه مثل الفخر الرازي في تفسيره الكبير (مفاتيح الغيب) وأبو السعود في تفسيره (إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم) والزركشي في (البرهان في علوم القرآن) والسيوطي في (الإتقان)، والذي فرق في كتابه (معترك الأقران) بين طريقتي الجرجاني والجشمي وعد كل طريقة منهما وجها خاصا من وجوه الإعجاز للقرآن. وقد تطور علم المناسبات وبلغ أوجه في العصر الحديث عند سيد قطب الذي ألح على ما سماه (الوحدة الموضوعية) لكل سورة، والوحدة الموضوعية للقرآن كاملا.
