سوق الفن في القرن الحادي والعشرين: «مساحة الفن التجريبية»

Picture1 copy.png

آنا أروتيونوفا

فيكتوريا زاريتوفسكايا*

لقد أمسى مصطلح "سوق الفن" مألوفاً جدًا لأي شخص يهتم بالفن ولو من باب الفضول، ولم يعُد بحاجة إلى تفسير وتبسيط. مع ذلك، وبعد كل شيء، تظل التصورات حول سوق الفن واحدة من المجالات التي تثير الخلاف حولها، سواء بين الأشخاص المنخرطين فيه بشكل مُباشر، أو أولئك الذين يتأملونه من الخارج. لذلك تظل الكتب والمنشورات، ككتاب آنا أروتونوفا الجديد، الذي يُساعد على فهم كيفية تطور سوق الفن، وما يتضمنه من مواقف فلسفية وأخلاقية، تظل مُتطلبة، وفي صلب أولويات المتلقي صاحب الشأن والاهتمام.

  يتناول هذا الكتاب التغييرات التي حدثت في سوق الفن الغربي منذ بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ولكن ليس باعتباره آلية لبيع الأعمال الفنية، وإنما كمجال يتصادم فيه الاقتصاد بالفلسفة والفن وعلم الاجتماع. غير ذلك فلا مفر من الاعتراف بأنَّ سوق الفن ظاهرة تغري التجار الذين يفكرون في الربح، ويقومون بتحديد سعر القطع الفنية، ويرسخون العلاقة بين عالم الفن وعالم المال، كما يستحكم هذا السوق بألباب جامعي التحف الفنية، ويشعل رغبتهم في شراء أعمال الفنانين، كما ويدفع بالفنانين إلى اختراع طرق بديلة للتفاعل مع السوق، وهذا ما بدأنا نلاحظه في العقود الأخيرة.

تسلط الباحثة أروتيونوفا الضوء على المستجدات التي طرأت على سوق الفن منذ بداية الألفية الثانية. فتذكر أن هذا السوق عرف قفزة نوعية في زيادة غير مسبوقة في حجم تداولاته من الأعمال الفنية. فخلال الفترة المشار إليها، بلغت نسبة نمو حجم السوق ما يقارب من 15٪ سنويًا. وتشدد المؤلفة على اتجاهين في الفن تصفهما بالغريبين من حيث استحواذهما على حصة الأسد في سوق الفن، الأول ظهر في الفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والثاني ما يُنتج في المرحلة الراهنة. وقد شهد عاما 2007 و 2008 ارتفاعا كبيرا في حصة مبيعات أعمال الانطباعيين الذين ينتمون إلى الفترة الأولى، والحداثيين المنتمين للفترة الراهنة. فهناك مثلا تمثال جيف كونز "Balloon Dog" الذي بيع في صالة المزاد العالمية Christie's في نيويورك مُقابل 58.4 مليون دولار. أما سمكة القرش لداميان هيرست، التي وضعت في حاوية من الميثانال، والتي بدأ بها الفنان سلسلة أعماله مع الحيوانات فقد بيعت بمبلغ 12 مليون دولار. وتعلق المؤلفة على هذا السياق الجنوني في سوق الفن فتقول: "باختصار، أصبح هناك منافسون جدد لبيكاسو وفان خوخ في حلبة المزادات العالمية. إنهم معاصرونا الذين يواصلون العمل. ولكننا نصاب بحيرة حقيقية حين نتذكر الفقر الذي انتهى به فان خوخ والعديد من الفنانين الآخرين الذين لم تتح لهم الفرصة لتجربة النجاح التجاري في الحياة ".

علاوة على هذا، تؤكد الباحثة على أن مفهوم تاريخ الفن، بالشكل الذي ألِفناه في القرن العشرين، قد تمَّ تشويهه بسبب تكريس أولوية النجاح التجاري. وليس من قبيل الصدفة أن يكرر جوزيف كوسوث، أبرز مفكري الفن التصوري الغربي، مرارًا وتكرارًا أنه التجأ إلى أشكال فنية جديدة في الستينيات، لأنَّ اللوحة الفنية أضحت متورطة بشكل لا رجعة فيه في علاقات الأموال السلعية، وقد شاهد بأم عينيه كيف تتهاوى الأفكار الفنية الكبرى لدى الفنان وتتحول إلى زخرفة وديكور لبيوت هواة الفن من الأثرياء، أي إلى شيء مادي تمَّ اختزال معناه إلى حد كبير واختصار قيمته إلى مجرد سلعة لجني الأرباح. يقول جوزيف كوسوث كما تنقل عنه أورتيونوفا في كتابها: "تاريخ الفن هو تلك القصة التي قام بها أشخاص أثروا في تطور الفن، وهو جزءٌ من تاريخ الأفكار. أما تاريخ الفن الجديد فله رأي مختلف تمامًا عن القيمة، ولا يستند في أحكامه إلى الفكرة الكامنة وراء العمل، ولكن إلى سعره المادي، فتظهر لنا صورة قاتمة إلى حد ما لعالم الفن الحديث، حيث يستحيل العمل الفني إلى بطاقة في اليانصيب الثقافي، ولا يفهم مشتري بطاقة اليانصيب ما الذي يمتلكه بين يديه حقاً إلا حينما يفوز. فنحن نعرف أسماء كل هؤلاء الفنانين الذين تباع أعمالهم اليوم بالملايين، لكننا لا نفهم لماذا تصل إلى تلك الأسعار الباذخة"(ص: 18).

يهدف جزء كبير من الكتاب إلى إظهار الفوارق بين سوق الفن، والسوق بالمعنى المتعارف عليه، وذلك من وجهة نظر اقتصادية وأخلاقية. فبالنسبة لغير المتخصصين يبدو أنَّ الشيء نفسه يحدث في سوق الفن: هنا أيضًا يتم تبادل الأموال مُقابل سلع معينة. ومع ذلك، فإنَّ تفاصيل هذا "المنتج" بالذات تحول سوق الفن إلى هيكل مختلف تمامًا، ولا يخضع للقوانين الاقتصادية العادية.

لا شك أنَّ كل هذه الميزات في سوق الفن تجعله موضوع اهتمام في فروع المعرفة الأخرى. كما تشكل ديناميكيات أسعار أعمال الفنانين المعاصرين أساسًا للدراسات التحليلية المهنية للشركات المالية، وأصبح السلوك التجاري للفنانين موضوعًا للبحث من قبل الاقتصاديين وعلماء الرياضيات، كما يشكل الخط الفاصل بين السعر والقيمة تربة خصبة للنقاش النفساني والثقافي والفلسفي.

 

  وفقًا لمنطق الباحثة فإن تفسير جاذبية أعمال الفنانين المعاصرين لا يكمن فقط في حقيقة أن معظم الأعمال الفنية الجيدة للبارعين القدامى أو الانطباعيين بل وحتى العديد من فناني العقود الأولى لما بعد الحرب العالمية الثانية، قد تفرقت منذ فترة طويلة على المتاحف، فأصبح من الصعب طرحها في السوق، أو أن تكلفتها باهظة للغاية بحيث لا يستطيع سوى القليلين الحصول على مجموعة كاملة منها. إن جاذبية الفن المعاصر تكمن في مكان آخر، فالمشترون في الوقت الراهن أصغر سناً بكثير من سابقيهم، وهم أناسٌ يتبعون نهجًا مختلفًا تمامًا في الحصول على المعلومات والمعارف الحياتية. لقد تحول اهتمامهم من فنون الماضي إلى الحاضر، وانصب تركيزهم على الفنانين الذين يعملون هنا والآن، وبهذا النهج يستطيعون تلمس ذواتهم كشخصيات نشطة في العالم الحديث، ناهيك عن أن إمكانية التواصل الشخصي والمباشر مع الفنانين أمر مثير للاهتمام والفضول، إلى جانب التمتع بفرصة أن يكونوا مكتشفين في عالم الفن حينما يقدمون للعالم اسما فنيا جديدا، ثم يتفرغون بعدها للمضاربة بأعماله.

 

إن هذا النوع من العلاقة بين المشتري والفنان، يُؤثر على الطرفين. فيتلبس المُشتري، مدعوما بأمواله الطائلة، دور المسيطر على سوق الفن والمتحكم بتوجهاته، كما ينفعل الفنان الذي يعمل في هكذا سوق، ويتأثر بأمواجه الضخمة؛ ثم لابد بعد هذا وأن تتأثر تظرتنا النقدية إلى العمل الفني، وتتموه القيمة الجمالية لللوحة بقيمتها المالية، ويصبح كل ما هو غالي الثمن جميلاً بالضرورة.

ثمة ميزة أخرى مهمة لسوق الفن الحديث وهي المسيرة المُظفّرة للإنترنت والتكنولوجيات الرقمية، ومع أنها ظاهرة حديثة نسبيًا، إلا أنها تتطور بوتيرة متسارعة. فوفقًا لاقتصاديات الفن، التي وردت في الكتاب، بلغ حجم مبيعات الأعمال الفنية عبر الإنترنت 2.5 مليار يورو. ويتوقع خبراء أنه في عام 2020 قد تتجاوز تعاملات سوق الفنون على الإنترنت 10 مليارات يورو. وتلاحظ الباحثة أن سوق "أون لاين" ينمو ويكرس معادلة آلية بيع أي عمل فني بآلية بيع غلاية إلكترونية أو مكنسة كهربائية. وتدعي أسواق الفن على الإنترنت مثل Amazon Fine Art أن اللوحة الفنية منتج عادي، وبالتالي ينتهكون إحدى القواعد غير المكتوبة والقائلة بأنَّ الفن لا يتساوى بالسلع العادية.

في فصل الكتاب المعنون "حول العولمة" تؤكد الباحثة أن مسألة العولمة الثقافية ستبقى شأنا مفتوحا على التكهنات والتحولات. وتعبر المؤلفة عن وجهة نظر مفادها أن العولمة في هذا المجال لا تمتاز مطلقا بكثافة التبادل، وأن الخصائص المنسوبة إليها، مثل الانفتاح على الثقافات بين بلدان العالم والاستعداد للتكامل فيما بينها، هو في أحسن الأحوال تكهنات رومانسية للغاية، وفي أسوأ الأحوال مجرد أساطير وترهات. تستشهد الكاتبة بنتيجة دراسة أجراها الخبير الاقتصادي آلان كيمان (ص 86-87) التي تشير إلى أن الهيكل الأساسي لسوق الفن لم يتغير في السنوات الأخيرة، سواءً من الناحية الكمية أو النوعية. وقد أظهرت دراسته أن المبيعات العالمية تركزت على أربعة بلدان فقط وذلك بمعدل 87 ٪ وهي الولايات المتحدة (30 ٪) والمملكة المتحدة (19 ٪) وفرنسا (5 ٪) والصين التي تمثل 33 ٪ من المبيعات العالمية. الـ 13 ٪ المتبقية هي حصة بقية العالم. تقول الباحثة: "لقد قلب ظهور الصين في هذه المجموعة موازين التوقعات للقوة الشرائية للأعمال الفنية العالمية، ومنذ تربع الصين على عرش سوق الفن عام 2007 لم تغادره حتى يوم الناس هذا" (ص 87).

وفي الفصل المعنون "عرض البزنس" توضح المؤلفة كيفة تحول الفن إلى صناعة تستعير بعض الحيل من مجال الأعمال الترفيهية. في هذا الفصل تضع آنا أروتيونوفا الفن في سياق اجتماعي ثقافي، فتقارب بين سوق اللوحات الفنية وبين أسابيع الموضة في باريس وميلانو. كما تعرض أعمال الفنانين أنفسهم في بيوت الأزياء، ومشاركتهم في وضع الخطط لمواسم الموضة. في بعض الأحيان يجد الفنانون أنفسهم في بيوت نجوم البوب، حيث ينمّون ثقافة أندية المشجعين من حولهم. اليوم يمكن رؤية الفنان بشكل متزايد على صفحات مجلات الموضة، حيث يدور الحديث معه حول ما يرتديه، وأين يقضي أوقات فراغه واصطيافه. فيصبح الفنان نفسه، وليس عمله، موضوع نقاش. وفي الوقت نفسه، تصبح الوسائل التي ينشيء بها الفنان عمله أقل قيمة في مقابل شخصية المؤلف نفسه التي تغطي على فنه.

 

وتضع المؤلفة في الفصلين المعنونين بـ "الفن والمال" و"أعداء إلى الأبد" نُصب أعيننا ما يشبه مسرحية يقف فيها الفن بصفته استثمارا، بمواجهة الفن باعتباره وسيلة لمقاومة الاستغلال التجاري. وفي سياق هذه المواجهة الضروس تبحث المؤلفة عن إجابة عن سؤال فحواه: لماذا يصعب تحديد سعر واقعي للفن ووضع المعادل النقدي المعقول للعمل؟ فترى أنَّ الحل مرتبط بشكل لا لبس فيه بمجال علم النفس، كما ويتصل بالتربية الأخلاقية حيث الجشع رذيلة، وبالتعاليم الدينية حيث يكون خطيئة. وليس من قبيل المصادفة أن تغدو الأوراق النقدية موضوعًا أثيرا لدى أحد رواد الاتجاه الدادئي والسوريالي في الفن التشكيلي، مارسيل دوشامب، فكأنه بذلك يسلط ضوءا مبكرا على الطريق الذي سيسلكه الفن والمصير الذي ينتظره، كما أنها رسالة للفنانين للتمرد على هذا الوضع الذي يبخس الفن قدره ويُعلي من شأن الربح المادي.

 في الختام فإنَّ تقصي الكاتبة والباحثة الروسية آنا آروتيونوفا يفتح أمام القارئ صفحة غنية بالتحليل النظري، والحقائق الوثائقية، وتفتح عينه على صناعة الفن في يومنا الراهن. وإن كان ثمة مثلبة تؤخذ على الكتاب، فغياب الجانب البصري، حيث قلل خلوّه من صور للوحات الفنية محل البحث تفاعل القارئ مع الموضوع... تفاعلا كاملا، مختلف الأبعاد.

-----------------------------------------------------------------------------------

الكتاب: سوق الفن في القرن الحادي والعشرين... مساحة الفن التجريبية.

المؤلف: آنا أروتيونوفا.

الناشر: المدرسة العليا للاقتصاد – موسكو/2020

اللغة: الروسية.

عدد الصفحات: 232 صفحة.

*مستعربة وأكاديمية روسية

أخبار ذات صلة