ما بعد الجائحة: رؤية جوانب الحياة ما بعد «كوفيد 19»

الغلاف.jpg

تأليف جماعي

فينان نبيل

تتطوَّر خصائص كل جيل استجابةً لما يجري في عالمه؛ فالحروب العالمية والكساد شكلت جيلا لديه تصميمم ومثابرة، استغل فترات السلام النسبي ليصنع التطور والتقدم، ومازلنا نتعلم إلى الآن أنَّ الحاجة الإنسانية لفهم الكوارث والتغلب عليها كانت دائما أحد أهم العوامل المحفزة للتغيير والتحسين الاجتماعيين. لم يعد هذا الوقت مناسبا للتخويف، لكنه وقت التفكير العقلاني، ومحاولة التنوير؛ فقد اتضح لنا أننا لا نملك سوى القليل من السيطرة على عالمنا؛ فما زلنا لا نستطيع إيجاد حلول لأهم مشكلاتنا، رغم التطور التكنولوجي، فقد استطاع أصغر المخلوقات فيروس "كوفيد 19" أن يُعرض العالم بأسره للخطر.

تتطور الحضارات تدريجيا لتتجاوز قدرتها الأساسية على البقاء، وتندفع عن غير قصد إلى نقطة أبعد من الاستدامة، فتصبح عُرضة للانهيار، وكأن الطبيعة الأم تذكرنا أننا لسنا المتحكمين فيها، ويحكم كل إنسان على الأمر من وجهة نظره الخاصة، إذا كنت شخصا متدينا ربما تفكر أن الله يُعلِّم درسًا آخر للإنسانية، وإذا كنت ذا عقلية علمية ستعتقد أن ما نعلمه عن الكون ليس إلا قطرة مقارنة بما يجب أن نعرفه، بينما صاحب التفكير الفلسفي يبحث عن تفسير عقلي عن كيفية التأقلم مع تلك الخبرة الإنسانية، ويجب أن نعلم أن كلنا على صواب في الطريقة التي نفكر بها، ويجب أن ننحي خلافاتنا جانبا لتحقيق مزيد من التقدم ونجاة مجتمعاتنا تعتمد على ذلك.

قدم مؤلفو هذا الكتاب رؤيتهم حول العالم ما بعد كورونا "كوفيد 19"، كما قدموا نصائح مخلصة في ضوء خبراتهم المتنوعة، ومعظمها رؤى تبعث على التفاؤل، واتفق جميعهم على أن العالم سيتغير بعد الجائحة.

ظل الوباء ينتشر في ظل خوف أن يزداد الأمر سوءا، فخيم الصمت على أمم صاخبة فجأة، وأغلقت الأماكن العامة، ولم يُسمح إلا للخدمات الأساسية، فلم تعد الأمور كما كانت، وبات علينا أن نعيد تدريب أنفسنا على كيفية غسل الأيدي، وأن يساعدنا الخوف من الجراثيم على الاهتمام بالأمر، فلقد قدم الصينيون في رسالتهم إلى الناس أمورا محددة للوقاية من الفيروس "اغسلوا أيديكم"، و"حافظوا على مسافة آمنة نظيفة"، وهذا أكثر أمر سيحدث فرقا في انتشار الفيروس والحد منه"، بينما يناضل العلم من ناحية أخرى لإيجاد لقاح أو علاج. ظهر الفزع الإنساني في الاندفاع نحو الشراء لدرجة تفريغ رفوف المتاجر، كما لو كنا نتجه نحو حرب نووية أو كابوس كوني، فالخوف عاطفة إنسانية موجودة بالفعل حتى لو لم نعترف بوجوده، ويدفعنا أن نعيد التفكير فيما يجب أن نفعله.

أصبح العمل من المنزل الذي كان في الماضي حلما للكثير أمرا اعتياديا، وبوسعك أن ترى عائلتك أكثر، وتقلل نسبة التلوث والاحتباس الحراري. افتقد الكثير من الناس الاتصال البشري، والتواجد في الأماكن العامة، رغم أن هذه الأشياء تبدو أكثر بساطة، ولكن جعلنا الوباء ندرك إنسانيتنا وضعفنا، وقد كنا نعتقد دائما أننا أقوياء بما فيه الكفاية، أو في حماية بحيث أننا لن نمرض أو أن الموت بعيد عنا، أصبح لدى كل منا الوقت لتقييم نفسه، وأن يفكر في ابتكار نمط متغير لحياته، وأن نعيد التفكير في طرق المعيشة. أصبح احتواء التغيير أمرا ضروريا لتجاوز الأمر كما فعلنا مع أمور أسوأ.

تتلاشى حالة التذمر لدى الجميع إزاء عدم قدرتهم على الخروج ومشاهدة الرياضة أو الذهاب لممارستها عندما يشعرون أنهم بخير، في ظل الإصابات التي يسمعون عنها، ورؤيتهم لمن يعاني هو وعائلته، ومن هم عالقون خارج بلادهم ولا يستطيعون العودة. سيقدر الجميع تلك اللحظات عند العودة مرة أخرى للحياة التي اعتدنا عليها، وسنكون بشرا أفضل مما كنا عليه.

تؤدي الكوارث في كثير من الأحيان إلى خير عظيم، كما الحال مع كل سحابة قاتمة، هناك جانب مضيء، ففي حقبة زمنية معينة كانت هناك أمم مزدهرة بسبب التجارة والأعمال وتمتعت باقتصاد ديناميكي متحرك، ثم عمت فترة من الشتاء الطويل، والصيف الممطر، فبدأت المحاصيل تفشل، ويتقلص الطعام، وتضررت التجارة، مما أدى لارتفاع الأسعار، وانتشرت المجاعات، فصار الناس يشدون أحزمتهم بسبب قلة المال والطعام، وانتشر المرض خلال أيام دون أن يعرف أحد سبب هذا الموت الذي غزا كل بلدة وكل بيت في غضون أيام قليلة، حدث ذلك في عام1347 في أوربا في العصور الوسطى، وعرفت هذه الجائحة "بالطاعون الدبلي"، كان الوباء الأشد فتكا وتدميرا في تاريخ البشرية، ولم يفهم أحد طرق انتقال العدوى، ففي ذلك الوقت كانت معظم البيوت تحتوى على بالوعات مفتوحة، والقطط والفئران تتجول بحرية في الشوارع في مدن أوربا في ظل انتشار أكوام من الفضلات، وغياب ثقافة النظافة الشخصية. لقد كانت البراغيث أحد أهم عوامل نشر العدوى لعشرات الملايين في الشرق الأوسط وأوروبا، وقليل ممن أصيبوا استطاعوا علاج أنفسهم، وبحلول عام 1351 كان الأسوأ قد انتهى. كان لهذا الطاعون أثر شديد وغير متوقع في التاريخ، وفقا لرأي المؤرخ "جيمس بورك" (1347-1351)، فبعد أن عاش الأوربيون كارثة بيولوجية، أصبح لهم الريادة في ذلك العصر، استفاد من بقي على قيد الحياة من ازدهارهم المفاجيء، واتجهوا لشراء سلع كمالية واحتفوا بالحياة، وظهر نمط جديد للحياة والملابس في جميع أنحاء أوروبا، وانغمس الأغنياء في تطريز الحرير بالذهب والفضة، وانتشر الصوف المخملي للطبقة الوسطى، وظهر رجل يجمع الأقمشة البالية، والعظام، وسمى برجل "العظام والخِرق". كانت هذه الأقمشة تنقع في المياه لمدة يومين، وتدق بمطارق ثلاثية موصلة بمحرك اكتسب أهمية بالغة آنذاك يسمى "عجلة الماء" أو الساقية"، ثم تشكل على شكل شبكة دقيقة تعصر تحت ضغط كبير، وتتكون من عدد من الطبقات المتشابهة وتجفف، وكان ينتج عن ذلك نوع من الورق يسمى "اللباد". ظهرت الطباعة الآلية على يد "يوهان جوتنبرج" 1452 في ماينز بألمانيا، وفي خلال عشرين عاما كان هناك المئات من الطابعات المتنقلة والمطابع في جميع أنحاء أوربا، وشهدت الأرض التي دمرها الطاعون ارتفاعا وازدهارا لم يحدث لها من قبل، وانتشرت الكتب المطبوعة، وبدأ عصر االنهضة الأوروبية، انتشر محو الأمية والمعرفة والعلوم، لقد فتح انتشار الكتب الطريق لأكبر فترات الفهم البشري وبدأ عصر الإصلاح والتنوير.

لعبت الكوليرا أيضا دورا في التاريخ حتى أواخر القرن التاسع عشر، بعدما ظلت لغزا يسبب الموت، ولم يفهم أحد أن الفضلات البشرية هي التي تحمل بكتريا الكوليرا وتتسرب من المجاري إلى التربة، وتلوث شبكة المياه، ورفضت الأوساط الطبية في العصر الفيكتوري أن تعترف أن الميكروبات غير مرئية هي السبب في انتشار الوباء، بل أصرت أن الوباء يأتي من الأحياء الأكثر فقرا في لندن، وكانت سببا في دعم نظرية "مياسما" التي تسمى أيضا النظرية المياسمية، وهي نظرية طبية عفا عليها الزمن، نتجت عن "تقرير المحكمة اليونانية القديمة " وكانت تحمل مرسوما أن الأوبئة شكل من أشكال الهواء الفاسد، وقد كانت نظرية مقبولة في الأزمنة القديمة في أوربا والصين. وفي النهاية، كشف العلماء عن نظرية أخرى حلت محلها 1880م هي "نظرية المرض الجرثومية"، وقد أعطت أولوية عليا لتنظيف المدن، حيث اكتشف "جون سنو" الذي عمل مع رجل دين يدعى "هنري وايتهد" أن شبكات المياه والمجاري في لندن هي السبب الجذري في الوباء، وأثبت أن ضخ المجاري يتسرب إلى المضخات العامة التي تستخدمها الأحياء الفقيرة، وعندما تم إغلاق مضخة الشارع العام، انخفضت وفيات الكوليرا إلى الصفر تقريبا، ومن ثم أشرف المهندس "جوزيف بازليت" على بناء شبكة مجاري فعالة في لندن، ومحطات معالجة المياه في باريس، كما ازدهر "علم الأحياء المجهرية"، وتطورت جهود"جوزيف لاستر" في الجراحات القديمة، وازدهرت الكثير من المؤسسات العلمية، وحصر عدد الوفيات من الأمراض المعدية، وكانت انجلترا الفيكتورية هي أول من استخدم الإحصائيات والديموغرافيات لفهم وتعقب كيفية تطور المرض. شهد القرن التاسع عشر أول خطوة حقيقية في مجال الصحة العامة والصرف الصحي، مما أفاد البشرية وجعلها تزدهر وتنمو رغم الأزمات البيولوجية الرهيبة التي تعرضت لها.

انتشر "فيروس الإنفلونزا" بعد انتهاء الحرب العالمية الكبرى في خريف 1918 في فترة قصيرة، وكان أكثر خطورة من الإنفلونزا المتعارف عليها في ذلك الوقت من السنة، واتضح أنه ناجم عن سلالة قاتلة من إنفلونزا الطيور، وسميت "بالإنفلونزا الإسبانية"؛ لأن إسبانيا كبلد محايد لم تفرض رقابة وقت الحرب على عكس دول الحلفاء ودول المحور المركزية. قضى هذا الوباء على ما لا يقل عن خُمس سكان الأرض، واقترح العلماء العلاج على أنه بكتيريا، وحاولوا تطوير اللقاحات دون جدوى، وسرعان ما دارت الإنفلونزا الإسبانية حول العالم، ثم اكتسحت الجائحة أمريكا الشمالية وأوربا وآسيا وإفريقيا والبرازيل وجنوب المحيط الهادي، وشعر معظم البشر بالآثار الفتاكة لهذا الفيروس التنفسي. ساعدت الحرب الكبرى في انتشار الفيروس سريعا من خلال انتقال الجيوش على متن السفن، وارتفعت معدلات الوفاة بصورة غير عادية بين البالغين الشباب الأصحاء. كانت أول موجة في مواقع عسكرية، ثم انتقلت العدوى إلى ما يقرب من 675 ألف جندي، وهم عشرة أضعاف من ماتوا في الحرب العالمية الأولى، واستنزفت مرافق المستشفيات لأقصى حد، وكان هناك نقص في الأطباء، وتم إنشاء "الصليب الأحمر" كلجنة وطنية معنية بتعبئة جميع القوى لمكافحة الإنفلونزا، وأنشئت مستشفيات الطواريء في جميع البلدان، وعانت بعض المناطق من نقص حاد في التمريض، وأثبتت الدراسات أن "التباعد الاجتماعي" من أهم أسباب انحسار الوباء، ثم بدأ رفع القيود على التجمعات العامة بعد انخفاض معدل الوفيات، وظلت تلك الفكرة صحيحة بعد مرور قرن لمكافحة فيروس كورونا. لقد تأسس ما يسمى مفهوم "المباعدة الاجتماعية" وهو ما يعني أن تبقى بعيدا عن أي شخص ما لا يقل عن ستة أقدام، فنحن لم نعد نتصافح، في أي مناسبة ولو نادرة، يمكننا أن نغادر بيوتنا فقط لشراء الضرورات، ولكن نعود إلى البيت يتملكنا الخوف، ويمكن لبعض الأشخاص السماح بالعمل والسفر إلى وظائفهم ولكن مع بذل قصارى الجهد لتجنب الاحتكاك بالآخرين.

لقد بدأت الحرب العالمية الثالثة، لكن لأول مرة لا يحارب الإنسان إنسانًا آخر. البلاد تحارب عدوا غير مرئي، كيف ستنتهي تلك الحرب؟ وكم عدد الأرواح التي ستزهق؟ ومن سينجو؟ وهل يتأهب العالم للوباء التالي؟ وهل هناك شك في جائحة قادمة؟ حيث لا علاج ولا لقاح ولا نهاية محددة، إن جائحة كورونا الحالية "كوفيد 19" هي آفة مميتة ومخيفة، لكننا هذه المرة نعرف المزيد عن الفيروسات وكيفية الحد من انتشارها. لقد أجبرت دول العالم سكانها على أن يكملوا الإغلاق الإجباري للمرة الأولى في التاريخ الحديث، في محاولة للحد من عدد القتلى، وأصبح شعار "ابق في مكانك" هي الأكثر شيوعا على مستوى العالم. اضطرت أغلب الشركات التجارية في العديد من البلاد إلى إغلاق أبوابها وطرد ملايين من العمالة، وهبطت سوق الأسهم المالية، الأمر الذي كلف المستثمرين تريلونات الدولارات، ولم يتضح بعد الأثر طويل الأجل على الاقتصاد، حتى مع تنفيذ الضوابط التحفيزية الحكومية المقترحة.

نتساءل: كيف سننجو من الأمر إن كانت هناك جائحات مستقبلية، فنحن نحارب في صحراء مجهولة، ولم يعد العديد من الأشياء في الحياة مستقرا كما كنا نظن، لقد أُخذت الانسانية بأسرها على حين غرة وتم خداعها، ونحن لا نريد أن يحدث ذلك مرة أخرى. عندما تنقشع الغمة سيتم اتخاذ تدابير من أجل التأهب للجائحة التالية، على المستوى الفردي، سيبدأ الناس الشراء بالجملة، وسيتم تخزين البضائع غير القابلة للتلف، أما فيما يخص المتاجر فمن المرجح أن يفرض القانون قيودا على عدد السلع التي يمكن شراؤها خلال فترة الأزمات الكوارث، وستتكيف الأعمال التجارية مع العالم الجديد، ويزيد العمل عن بعد، وستضطر شبكة الانترنت لتعزيز قوتها حتى تتمكن أن تتواكب مع المتغيرات الجديدة خلال الأزمات بسبب النشاط الإضافي للانترنت.

يُمكن أن تتكفل المؤسسات التجارية بوضع مجموعة ادخارية كجزء من استحقاق الموظف لتغطية مرتبه، واحتياجاته الطبية إذا أجبر على البقاء في المنزل وقت الكوارث لمواجهة الوباء، أو يكون هناك شكل من التأمين ضد الكوارث سيقوم بها أرباب العمل، سيكون الحفاظ على "التباعد الاجتماعي" أمرا مهمًّا، وسيطبق انتظار خروج بعض العملاء لدخول غيرهم من المتاجر أو المطاعم. هذا ليس خيالا علميا وإنما هذا ما سيخبئه المستقبل، كما ستطالب الحكومات أن يتلقى المواطنون شريحة بيانات تحتوي على تاريخ التطعيمات الماضية والحديثة، ورغم أن الكاتب يرفض هذه الأداة إلا إنه قد يحدث في يوم من أيام؛ فالناس على استعداد للتخلي عن حقوقهم وحرياتهم في سبيل الشعور بالأمان والرفاهة، سواء أكان حقيقيا أو متوهما. وإذا كنا نقول في الماضي إنه من المستحيل أن تحدث هذه الأمور، فإن ما رأيناه خلال تلك الجائحة سيجعلنا نتوقع كل الأمور. هناك العديد من المجالات الأخرى التي ستشهد تغييرا كبيرا، بما في ذلك التعليم، والصحة والترفيه والنقل، والتجمعات.

ومع استمرار هذه الحرب، فإن العالم بعد 2020 لن يكون شبيها بالعالم قبلها. إنها البداية، ويؤكد الكتاب أن العالم بعد جائحة كورونا لا يتجه للنهاية بل يتجه إلى التغيير وهو أمر حتمي، ويجب أن نكون على حذر؛ فالمشاكل التي يواجهها عالمنا خطيرة، وكلما أسرعنا في التصرف كان الأمر أفضل.

---------------------

- الكتاب: "ما بعد الجائحة: رؤية جوانب الحياة ما بعد كوفيد 19".

- المؤلف: مجموعة من الباحثين.

الناشر: صنبراي بريس، الولايات المتحدة، بالإنجليزية، 2020م.

أخبار ذات صلة