«رولان بارث فكر وحياة»

Picture1.png

ماتيو ميساجير

سعيد بوكرامي

يُعتبر رولان بارث (1915-1980)شخصية مركزية في الفكر الفرنسي، والعالمي. أثر وتأثر بجميع التيارات الفكرية الرئيسية في القرن العشرين. وقد جعل من كتاباته وفكره صدى خلاقًا للفلسفة والسيميولوجيا والبنيوية والنقد الثقافي، فقد كان قبل كل شيء مؤلفًا منفردًا، إذ عمل على مُمارسة المعرفة وتوليد الأفكار. بعد أربعين عامًا من وفاته، يستمر حاضرا بقوة، لأنه لا ينتمي إلى الفكر الميت المُحنط بل إلى الفكر الحي والمتجدد الذي يراهن على المستقبل: ولأنه ينتمي إلى هذه الفئة النادرة من أولئك الذين يصفهم فوكو بأنهم "مؤسسو الحفريات"، هؤلاء الكتاب الذين يعطون الكتابة والتفكير، بعداً فسيحاً في أعمالهم الفكرية، يرتبط بالمصادر ويجادلها ويولد منها أفكارا فريدة. ولهذا يقدم الكاتب ماثيو ميساجير في كتابه الجديد"رولان بارث" الصادر مؤخرا عن سلسة كوسيج للقراء والباحثين المعاصرين في القرن الحادي والعشرين صورة مستعادة ومنقحة عن رولان بارث، بحيث نجده يُخاطب أعماله بشكل مباشر، واضعاً مفاهيمه في سياقها الثقافي وداخل تسلسلها الزمني، مع التركيز على ما يجعلها ضرورية اليوم.

في هذا العمل المميز والمثير، يعرض أمامنا ماثيو ميساجير بطريقة مشهدية وسلسة مسار رولان بارث الفكري ومكانة شخصيته المركزية في الفكر الفرنسي في القرن العشرين. يقول ماثيو إن هذا الكاتب المتفرد جدير بأن يكون بطل رواية عظيمة، فقد عبر رولان بارث عصره من جانب إلى الجانب الآخر، متجاوزًا الموضات والتيارات والاتجاهات (من الماركسية إلى البنيوية مرورا بالمغامرة السيميولوجية التي ساهم في تطورها). وبعد أربعين عامًا من وفاته، ونسيان متعمد لأفكاره بدعوى توقف مشروع بارث عن مواكبة العصر وأفكاره، أصبح مرة أخرى مرجعًا أساسيًا للقراءة والكتابة والتفكير، بحيث عادت المجلات العلمية إلى الاحتفال به وتخصيص الندوات لمناقشة فكره وعلاقته بالحاضر. لهذا كان ومازال بارث ينتمي إلى أولئك المفكرين المتجددين عبر مختلف العصور.

 في هذا الكتاب، يعيد ماثيو ميساجير النظر إلى شخصية "المفكر العظيم" واستعادته من خلال المنظور الزمني لعمله والتزاماته المعرفية والمقابلات التي بث فيها فكره ونشره ودمقرطه، لذلك تؤكد العناصر جميعها وحتى يومنا هذا، على أن رولان بارث، أنجز عملا فكريا متغير الشكل، ومتجدد الفكر.

تقتفي مقدمة الكتاب بشكل موسع حياة رولان بارث (أو بالأحرى حيواته المتعددة)، المحفوفة بالدراما المتتالية إثر فقدانه للأب في وقت مبكر، ثم أمه التي كان قريباً جدًا منها. انتقل بارث من بايون إلى باريس، لهذا نشأ رولان بارث الصغير وفق إرادة والدته وتنقلاتها. بعد أن وافقت محكمة بايون للأيتام على أن تتكفل الدولة بتعليمه ورعايته، واصل تعليمه اللامع في المدارس الثانوية الباريسية مونتين ثم لويس لوغران، على الرغم من هشاشة صحته بسبب إصابته بمرض السل. سيهتم بارث بالمسرح والسينما والأدب، خصوصًا بأعمال جان جوريس، "سيرسم خططًا لكتابة رواية" (ص 4). وبعد حصوله على درجة البكالوريوس، سترفضه المدرسة الثانوية لأسباب صحية، مما سيضيف "إلى الجرح الجسدي، الشعور بالإقصاء" (ص 4-5). تسجل رولان بارث على مضض في جامعة السوربون في سلك الإجازة بغية دراسة الأعمال الكلاسيكية، وهنا سيعرف "اكتشافاً عاطفياً للمسرح" (ص 5)، إذ أسس رفقة صديقه (جان فِيْ) مجموعة مسرح السوربون القديم التي تهدف إلى إعطاء تمثيلات صادقة للذكاء السياسي الحازم المتضمن في المسرحيات القديمة. لكن عشية الحرب العالمية الثانية استدعي للتجنيد، ولحسن حظه استبعد في الحين بسبب هشاشته الرئوية، فواصل رولان بارث قراءاته ودراساته بالتناوب مع إقامته الطويلة في المصحات المُعالجة للأمراض الصدرية، في إيسير ثم في سويسرا. كان هذا الزمن الثابت والمسيج بالحضور السري لهاجس الموت وكذلك هذه "العزلة التي تحولت أيضًا إلى مكان لانبعاث جديد، ووعد بأن يصبح: بارث حاضرا عن قرب يصغي ويختبر شكلًا من أشكال المجتمع المحدود الذي سيبقى بالنسبة إليه نموذجا مثاليا للعلاقات الإنسانية. كما كانت إقامته المرضية فرصة أيضًا ليقرأ كثيرا "(ص 6). في السابعة والثلاثين، سيفتح له لقاؤه بموريس نادو أبواب صحيفة "كومبا" حيث سينشر في عام 1953 مقالة بعنوان "درجة الصفر في الكتابة"، والتي ستنشر في كتاب في العام نفسه ضمن منشورات سوي، وبذلك تمكن من الإفصاح عن مشروعه الجنيني. وبعد إعارات متتالية للتدريس في المعهد الفرنسي في بوخارست والمعهد الفرنسي بالإسكندرية، بدأ رولان بارث أطروحة حول تقنيات التاريخ عند ميشليه. التقى ألجيرداس جوليان غريماس في مصر، وأقنعه بتحويل أطروحته إلى بحث معجمي، وهذا يعني في نظر بارث القيام بمزيد من الدقة والتدقيق "في علم الاجتماع من خلال اللغة وتتبع أيديولوجيتها في جوهر الكلمات "(ص 8). سيدافع بارت عن فكرة الالتزام من خلال الشكل في العديد من المقالات التي ينشرها.

في غضون عشر سنوات، كتب رولان بارث أكثر من تسعين مقالة عن المسرح، يعتبرها ذات وظيفة مدنية، كما أنها تقدم تمثيلاً للحياة الاجتماعية. وهذا ما شجعه على الشروع في المغامرة السيميولوجية بين عامي 1960 و1962 عندما عُيّن مديرًا للدراسات في المدرسة العليا للدراسات التطبيقية التي عمل فيها على دراسة "علم اجتماع العلامات والرموز والتمثيلات". ثم انتقل إلى "أنظمة الدلالة المعاصرة (الملابس، الطعام، السكن)، وركز كذلك على البلاغة القديمة، وخطاب التاريخ، من خلال نص لبالزاك بعنوان سارازين (ص 11). وفي "وفاة المؤلف" المنشور في عام 1968، يفترض بارت أنَّه عندما يتم نشر نص ما، فإن وحدته تكمن في وجهته وليس في مصدره: "إن القارئ هو الذي يصنع معنى للنص، وليس مؤلفه "(ص 13). انتخب في كوليج دو فرانس عام 1975 ليشغل كرسي "علم الأدب"، وعانى من ألم وفاة والدته بعد ذلك بعامين. في نهاية فبراير 1980، صدمته شاحنة وهو في طريقه إلى كوليج دي فرانس وبعد ذلك بقليل توفي في 26 مارس 1980.

في الفصل الثاني المكرس لـ"المغامرة السيميولوجية" (أخذ العنوان من كتاب لبارت نفسه)، يوضح ماثيو ميساجر بجلاء كيف أصبح تحليل العلامات في الحياة الاجتماعية مع رولان بارث، برنامجًا علميًا متكاملًا. وليس مجرد فرصة للتنديد بالأساطير البورجوازية الصغيرة. بالنسبة لبارت تعادل ممارسة السيميولوجيا تفكيك الخيال الجماعي المخفي في الأشياء الأكثر تفاهة في حياتنا اليومية، والتي نستهلكها ببراءة في شكل سلع ثقافية. تعتبر "السيميولوجيا" في كتابه " أساطير" المنشور لدى سوي في عام 1957 تتويج لتساؤلاته السيميولوجية عن الصورة في (" أيقونية للأب بيير ") وحول الإعلان ("السابونيد والمنظفات ")، وحول الترفيه ("سباق الدراجات الفرنسي")، وحول السينما ("الرومان في السينما")، وحول التقرير الإخباري وكذلك حول عادات الطهي (ص ​​33-34)، اهتم بارث بالصورة بجميع أشكالها من حيث أنها انعكاس للمجتمع الفرنسي في الستينيات. ويعتبر كتاب (الأساطير) من أشهر الأعمال التي وضعت رولان بارث على رأس علوم السيميولوجية عالميا. كما أنه يعد واضع أسس السيميائية التطبيقية. وفي كتابه (نظام الموضة) الذي نشر عام 1967 من طرف سوي، تميز رولان بارث بحدس ذكي: إذ سرعان ما سيدرك أن "الموضة هي مجموعة من الشروط المشفرة بعناية، والتي تستمد من احتياطي محدود من العناصر التي تخون دائماً رؤية معينة للعالم والمجتمع "(ص 44).

أما في الفصل الثالث، فسيبرز ماثيو ميساجير الوجه الآخر لرولان بارث الناقد الأدبي الذي أنجز أعمالا فريدة وعديدة، خلال عشر سنوات من الكتابة المكثفة والنشاط التنظيري المكرس لدراسات عن راسين والنقد والحقيقة وغيرها، واضعا أسسا ثورية لطريقة جديدة جذريا لقراءة الأدب، أكثر حساسية لتحديات الشكل والبنية من الحقيقة المزعومة في الأدب و"المفترضة في المنجز" من خلال التأكيد على هذا الطابع المفتوح بلا حدود للتفسير، يعتزم بارت أن يعيد الأدب إلى إمكانيته في القول: إن ما يدافع عنه هو تعريف جذري لما وراء تاريخ النص الأدبي "(ص 49).

وفي الفصل الرابع يشير مؤلف هذا الكتاب المحفز حقيقةً على إعادة النظر في منجز رولان بارث السيمولوجي والنقدي ومقاربته من زوايا متعددة تعكس تعدد واختلاف رولان بارث الذي أعطى دينامية وتطورًا جديدًا للبحث الأكاديمي في مجال العلوم الإنسانية في السبعينيات في بلاده وفي أروبا عامة وباقي الجامعات العالمية : يتجلى ذلك في رسمه لأهداف دراساته بدقة وتطور موغل في أراضي الذات، وجغرافيات الرحلة الإنسانية نجد ذلك في كتابه (إمبراطورية العلامات)، وفي النصوص الأدبية المستعادة أو المكتشفة مع كتابه (لذة النص)،و في السيرة الذاتية مع (رولان بارث بقلم رولان بارث) وفي الجوانب العاطفية (شذرات من خطاب الحب). إذ تخلى بارث عن أعمال مكونة من المقالات وتبنى شاعرية الشذرة الأكثر ذاتية وحرية.

يبرز ماثيو ميساجير في الفصل الخامس والأخير بعنوان: " موت أَلْفِيهْ وحياته الجديدة" ببراعة كبيرة كيف توجت حياة ومسيرة رولان بارث الفكرية باختياره أستاذا في كوليج دو فرانس. كما تتساوق هذه الفترة تمامًا مع الرغبة العميقة في ترك التعليم وتوديع الالتزام الجماعي والنضال الثقافي واستنكار أسطورة الكاتب. يشكل كتابه "الغرفة المضيئة"، الذي نُشر في عام 1980، تابوتا رائعًا وحساسًا ورمزيًا، قدمه هدية إلى والدته التي اختفت قبل بضع سنوات، بل أكثر من ذلك فهو يشكل الوصية السيمائية والفكرية لبارث نفسه، الذي توفي بالتحديد في هذا العام 1980: لذلك فإنَّ قبر الأم المتوفاة لا ينفصل عن النزول نحو الموت، وصوب جميع الأموات في تعددهم "(ص 122).

في الختام، فإنَّ كتاب ماثيو ميساجير المخصص لرولان بارث يشكل أكثر بكثير من سيرة لمفكر كبير تجاوز عصره ولأنه مخصص أيضاً لدراسة الأنساق الفكرية والثقافية التي هيمنت طيلة عقدين بدءًا من الستينيات وصولاً إلى السبعينيات، حينما برز عمالقة حقيقيون أمثال ميشيل فوكو وجاك دريدا وجيرار جينيت وغيرهم ممن حفروا ونبشوا وشيّدوا على الأنقاض فكرا جديدا في الدراسات الفلسفية والفكرية والأدبية، والتي سميت بالتيار الفكري الما بعد الحداثي. كما يعد الكتاب طريقة لإبراز الحضور الخلاق لرولان بارث كإنسان ومفكر جاء من الهامش واشتغل على الهامش ومع ذلك شغل الفكر العالمي بطريقة لا تصدق، ما تزال لغته النقدية تتدفق اليوم في شرايين العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية واهبة إياها دماء فكرية جديدة وحياة معرفية خصبة تمتزج فيها الأفكار والمفاهيم. في الواقع يتيح لنا كتاب ماثيو ميساجير فرصة لاكتشاف بارت في كل أحواله وتجلياته. وكذلك لنسمع صوت رولان بارث المستعاد وطريقته الفريدة في فهم العالم وصياغة برنامجه البحثي على النحو التالي: "لا توجد قوة، القليل من المعرفة، القليل من الحكمة، وأكبر قدر ممكن من الطعم " ويقصد بالتأكيد متعة الاكتشاف وتجاوز الاختلاف.

إن كتاب "رولان بارث" مصمم لأولئك الذين يريدون مقاربة موجزة لكل ما تعلموه بالفعل عن بارث، لهذا قد يجعل الكتاب القارئ الذي لا يعرف فكر بارث وأعماله يقضي ساعات داخل غرفة مظلمة؛ مما قد يحوّل القراءة إلى عملية معقدة وأكثر تعقيدًا، لأنَّ الخطاب الأكاديمي مساعد للجامعيين بينما هو عائق للقراء والناس البعيدين عن هذه البيئة. أعتقد أن الكتاب مناسب جدًا للطلبة الجامعيين الذين يعدون أطاريحهم، ويرغبون في زرع مشاتل فكرية لتطوير مناهجهم ومقاربتهم لكل ما ينتجه فكر الإنسان.

---------------------------------------------------------

الكتاب: رولان بارث

المؤلف: ماتيو ميساجير

الناشر: سلسلة كوسيج، باريس، فرنسا

تاريخ النشر: 2019

اللغة: اللغة الفرنسية

عدد الصفحات: 228 ص

أخبار ذات صلة