جوسيبي كاسيني ووسيم دهمش
عزالدين عناية
يندرجُ هذا الكتاب ضمن الكتب الناجحة في مخاطبة القارئ الغربي بشأن مضامين الحضارة الإسلامية وقضاياها الكبرى. ففي المكتبات الغربية، مع كلّ توتّر للعالم الإسلامي مع العالم الغربي في المجال السياسي، يتدفّق سيلٌ من الكتابات الموجَّهة للاستهلاك السريع، يندر أن تجدَ بينها مؤلّفا ينحو منحى رصينًا وموضوعيا في معالجة القضايا الدينية أو السياسية. الكتاب الحالي -الذي نعرضه- هو عبارة عن مدخلٍ للثقافة العربية موجَّه إلى القارئ الغربي، اعتمدَ فيه المؤلّفان أسلوبًا جمعَ بين خاصية الإقناع العلمي وخاصية الحكْي والشرح. فلا يضمُّ الكتاب فصولا، وإنما يـأتي مبوّبا بناءً على استعراض قضايا متسلسلة تقوم مقام الفصول، تنضوي تحتها مفاهيم يتحوّل شرحها إلى مقارَبات وقضايا ونقاشات تعالج مسائل إشكالية بين الحضارتين الإسلامية والغربية. فالكتاب بإيجاز هو معالَجة لقضايا مثار إشكال، بين العقل الغربي والعقل الإسلامي، يرمي المؤلفان من خلالها إلى تسوية اللاتفاهم الحاصل.
في مستهلّ الكتاب، نجد ثلاثة مفاهيم: "أهل" و"أمة" و"إرهاب". يرد حديثٌ لغوي تمهيدي عن المفهوم الأوّل يعقبه حديث عن مدلول الأهل وتطوّراته في الثقافة العربية والمسائل القانونية والدينية المتعلّقة بذلك وغيرها من القضايا. ليلِي ذلك حديث عن مفهوم الأمّة، وهي كلمة ذات حمولة دينية في التصور الغربي، يحاول الكتاب أن يعطيها مدلولها الصائب، كما نشأت داخل الثقافة العربية دون حصر لها. ثم ينختم الفصل بالحديث عن مفهوم الإرهاب، وهي كلمة متداوَلة بكثرة في الأدبيات الغربية في العقود الأخيرة، مبرزًا الكتاب القضايا المرتبطة بهذه الكلمة، ومستعرضا دلالاتها في التصور الغربي والعربي والقضايا الحافة بها. وعلى النسق ذاته يتناول الكتاب قضايا تهمُّ الثقافة الفارسية المعاصرة، ليعالج مسائل ذات صلة بالواقع الإسلامي الإيراني، وما يصحب ذلك من توترات مع الغرب، هذا عموما عن البناء الذي قام عليه فحوى الكتاب. وهو إن يبدو بسيطًا للوهلة الأولى، فهو متشعّبٌ وثريّ وعميق، نظرًا للمنهج الذي حاول به المؤلفان الحديث عن كافة المفاهيم التي تحولت إلى قضايا إشكالية.
فيمَ تتلخّص فكرة الكتاب؟.. حاولَ المؤلفان اختيار ما يناهز الستين مفهومًا مفتاحيًّا يحمل كلّ منها دلالة قوية في المخيال الغربي، وحاولا ضبط معانيها بعيدًا عن التلاعب الإعلامي وحتى الأكاديمي أحيانا. فهي مفاهيم ذات دلالة مغلوطة أحيانا وأخرى مفتَعلة، قدّرَ الكاتبان من خلالها إدخال تصويب في الدلالة والتطرّق من خلالها إلى مواضيع عادة ما هي رائجة في الأوساط الثقافية والإعلامية. فالكاتبان أحدهما إيطالي الأصل، والآخر من أصول عربية قضّى ما يزيد عن نصف قرن في إيطاليا. المؤلف جوسيبي كاسيني هو بالأساس دبلوماسي وسياسي إيطالي (من مواليد 1941)، عمل في العديد من البلدان العربية وعُيِّن سفيرا في لبنان بين 1998 و2002، تعاون باستمرار مع مجلّات وصحف إيطالية ومواقفه إيجابية من العالم العربي ومن العالم الثالث، وبفعل ما ترسّخت لديه من دراية بالعالم العربي والإسلامي فهو يدرك حجم المغالطات المستشرية حول الطرفين. ليس الكاتب من الكتّاب الأكاديميين أو الباحثين المرموقين في إيطاليا، وإنما كسياسيّ فهو مبدئيّ ومدافع عن عديد القضايا لعالم الجنوب. هذا وقد أصدرَ المؤلف جوسيبي كاسيني ثلاثة مؤلفات سياسية، الأول بعنوان "سنوات الانحدار.. السياسة الخارجية لحكومة برلسكوني 2001-2006" (2007)، والثاني "تشريح حرب.. الحرب الغبية في العراق" (2013)، والثالث "أمريكا على مفترق طرق" (2015). وهو متعاون ككاتب صحفي مع العديد من الصحف والمجلّات الإيطالية.
أما الكاتب وسيم دهمش (من مواليد دمشق 1948 لأبويْن فلسطينييْن)، فهو أستاذ اللغة والآداب العربية في جامعتيْ روما وسردينيا، وقد تقاعد منذ سنتين، ولكن لا يزال يدرّس في جامعة خاصة في روما. تلخّصَ مشروع دهمش بالأساس في نقل الأدب العربي الحديث والمعاصر، لا سيما منه الشعر العربي إلى الإيطالية، وقد ترجَمَ في الشأن لشعراء عرب كثر من المشرق والمغرب ولفلسطينيّين بالخصوص. ولكن إلى جانب النقل من العربية أعدَّ العديد من الأبحاث المنشورة في إيطاليا تناولت مسائل اللغة والثقافة العربيتيْن. يؤمن وسيم دهمش أنّ تنقية العلاقات العربية الغربية ممّا شابها من خلْطٍ لا سبيل إلى بلوغه إلا عبْرَ العمل الثقافي، لذلك ثمة إيمان لديه بوحدة الثقافتين وإن تباعدت الرؤى، فهناك قضايا مشتَرَكة تُوحّدُ الجميع. الانفتاح الإنساني لدى المؤلف وسيم دهمش جعله لا يفصل بين قضايا الإنسان وإشكالياته، أكان في الغرب أم في الشرق، ما دامت تلك القضايا عادلة وديمقراطية وإنسانية ومنحازة إلى الخيارات المشروعة. نشير إلى أنَّ وسيم دهمش هو إيطالي من أصول فلسطينية، سبعيني هاجر إلى إيطاليا وهو لم يتخطّ بَعدُ العقد الثاني من عمره. يُعدّ أبرز وجه ثقافي عربي في إيطاليا. وقد رفد المكتبة الإيطالية بجملة من الأعمال المترجمة من العربية، فضلا عن بعض المؤلّفات البحثية. تقريبا جلّ مؤلفات وسيم دهمش منشورة في إيطاليا نذكر منها: كتاب "الشعر في المغرب"؛ "فلسطينيّ وقصص أخرى" لسميرة عزام؛ "دون كيشوت في الجزائر" لواسيني الأعرج؛ "أبيات من الجليل" لسميح القاسم؛ "تحت جنح الظلام" و"مجرد 2 فقط" لإبراهيم نصرالله؛ "البئر الأولى" لجبرا إبراهيم جبرا، "أرض البرتقال الحزين" لغسان كنفاني وغيرها من الأعمال. من مؤلفات وسيم: "دراسات تطبيقية في الدارجة الدمشقية" و"خرافات فلسطينية". ترجم إلى العربية ثلاثة أعمال: رواية "موظف عادي جدا" لفنتشنزو تشيرامي، ورواية "الثمار المنسية" لكريستيانو كافينا، وكتاب "الحضور العربي الإسلامي في المطبوعات الإيطالية" من إصدارات وزاراة الثقافة الإيطالية.
يطغَى على كتاب "ألف باء الثقافة العربية الفارسية في الغرب" الطابع الثقافيّ الحضاري العام، فهو يمزج التاريخ القديم بالحاضر الراهن، والسياسة بالثقافة، والدين بالقانون، ناهيك عن التعرض إلى مسائل حضارية وقضايا لغوية. يحاول الكتاب أن يخاطبَ شرائح متنوّعة، باعتماد الحكي والمحاورة والتحليل والشرح، معتمدًا الوضوح في عرض الفكرة والحجّة العلمية الموثقة في دحض الشبهة. وبالفعل موضوع الكتاب ريادي، وربما يندر العثور على كتاب بهذه الصياغة وبهذا الزخم، في عرض مسائل حسّاسة لعقلية غربية. يرتئي مؤلّفاه أن الإعلام قد أسهم مساهمة فعالة في حرف العديد من المفاهيم عن دلالاتها الصائبة. فقد حاول الكاتبان، وهما عارفان بالعقلية الغربية تجاه الثقافة الإسلامية، وتجاه العالم العربي، أن يسلّطا الضوء على عناصر مهمّة على صلة بالحوار الحضاري، والتفاهم الثقافي، وبعيدا عن المغالطات. إذ ثمة انحراف في العديد من المفاهيم ترسّخَ بفعل المشاحنات وحال دون التثاقف العفوي. كما لا يختار الكتاب نهج الانتقاد أو الدحض الصارم للمقولات الغربية بشأن الحضارة الإسلامية وشعوبها، من خلال ما يطبعها من تقوّل وزيف في كثير من الأحيان، بل ينهج نهجًا هادئا في تصحيح الأخطاء الشائعة وعرض نقيضها الصائب. يسعى المؤلفان لخلق جوّ من الألفة في مناقشة المسائل الشائكة وإن اختلفت وجهات النظر في معالجة الأمور المطروحة.
يُمكن الحديث عن مؤلفات أخرى انتهجت منهج المصالحة بين الثقافة الغربية والثقافة العربية، لكنّها في الغالب الأعمّ جاءت نخبوية أو محصورة بمجال معيَّنٍ، وهو ما جعلها غير مسموعة أو فاترة التأثير. وأغلب تلك المؤلّفات تناولت القضايا السياسية، ولكن قلَّ أن تناولَ كتاب بهذا العمق والشمول المسائل الثقافية الإشكالية وحاول إعادة عرضها. وفي الفترة الأخيرة، وبموجب التوتر الحاصل بين الشرق والغرب (جراء موجة الإرهاب، والإسلاموفوبيا، والحركات المتطرّفة، واستفحال الحركات العنصرية، وتمدّد الشعبوية) ظهرت كتابات تدعو للتهدئة وتغليب صوت الحكمة والعقل والتعاون من أجل هدف إنساني جامع، ولكن في مجملها كانت كتابات مستعجلة ولم تذهب إلى غور الأشياء في تصحيح المفاهيم.
لعلّ الشيء المميّز للكتاب هو الفهم العميق للواقع الغربي والإلمام الرصين بالفضاءين العربي والإيراني، على مستوى ثقافي وتاريخي وسياسي. فالكاتب جوسيبي كاسيني هو دبلوماسي محترم، وعلى دراية عميقة بالتوتر السياسيّ بين العالمين، والكاتب وسيم دهمش مثقّف على إلمام واسع بالثقافتين العربية والإيطالية، وهو ما جعل من الكتاب وثيقة رصينة وعميقة. وبوجه عامّ حاول المؤلفان اعتماد أسلوب الحكي السلس في عرض مؤلّفهما، لكن ذلك الحكي كان مستندًا إلى جدل استبطنته النصوص، عماده الرواية التاريخية والأحداث المتنوعة، لأجل بلوغ تعريف أو توضيح مفهوم، مثار إشكال في الذهنية الغربية.
وبما أنّ الكتاب يعالج بالأساس مسألة التصوّرات الغربية تجاه بعض القضايا العربية والإسلامية، فقد حاولَ مؤلّفاه اعتماد مصادر غربية، مشفوعة أحيانا بَمراجع عربية على صلة بالموضوع. المَراجِع العربية والفارسية التي اُستدعِيت عادة ما اقتضتها المواضيع المعالَجة، ولكن استدعاءَ المَرَاجع العربية والفارسية لا يعني قبولا بمحتوياتها، وإنما جاء من باب التدليل والتوضيح لا غير. تبدو نسبة المراجِع العربية متواضعة، فقد تمّ التعويل على ما تُرجم إلى الإيطالية أو ما جاء في اللغات الغربية.
ويبقى الهدف الرئيس للكتاب هو الدعوة الملحّة للتخلّص من مركزية النظرة الغربية. إذ يبدو الكاتبان على دراية عميقة بسوء الفهم الحاصل بين الحضارتين العربية والغربية، والعوامل التي أنشأت ذلك هي عوامل متنوّعة، طورًا تاريخية وتارة بموجب التقلّبات السياسية المتلاحقة. فمن خلال الكتاب يحاول المؤلّفان تنقية الأجواء بين أبناء الثقافتين، على أمل إرساء تثاقف هادئ خال من سوء الفهم. ليس هناك انتصار لهذا الطرف أو ذاك، بل هناك معالجة رصينة للمواضيع تغلب عليها مسحة فكرية عمية وتتميز بأسلوب هزلي أحيانا. وبشكل عامّ يغلب على لغة جوسيبي كاسيني الطابع السياسي، وفي هذا الكتاب المشترك تقلّصت المباشَرة السياسية لتركن للمحاوَرة والمناقَشة فجاءت سلسة مقنعة. وأما وسيم دهمش فإيطاليته مبدِعة، في هذا الكتاب وفي سائر الأعمال العربية التي نقلها إلى الإيطالية. فقد أذعنت له الإيطالية كما لم تذعن لغيره، وهو بالحقيقة ظاهرة لغوية متفرّدة في الإمساك بناصية اللغتين العربية والإيطالية.
لقد تضمّن الكتاب فهرسًا وحيدًا، وهو فهرس المصادر والمراجع. وبوصف الكتاب ليس بحثًا تاريخيا، فلعلّ ذلك ما جعله يتجاوز خاصيات الكتابة العلمية الصارمة. ونظرا لخاصية الكتاب التي تغلب عليها المسحة التفسيرية، أَهملَ المؤلفان الاستعانة بالرسوم والجداول والخرائط كوسائل للإيضاح. ولا نقدّر من جانبنا أنّ هذه النوعية من الكتابات في حاجة ماسّة إلى ذلك. يبقى الكتاب ممتِعًا للقارئ الغربي ويغري بالمتابعة، وهو مدخل ذكيّ لمن يزمع الغوص في الثقافة العربية ويسعى لرؤية الأمور دون غشاوة. أقدّرُ أنّ الكتابَ نجح في إيصال رؤية منفتحة عن الثقافة العربية، وهو قادر بالمثل على زحزحة العديد من الأحكام المسبَقة لدى القارئ. كما أعتبر الكتاب لبنة نحو إصلاح العلاقات الحضارية، الإسلامية الغربية، وما لحقها من اضطراب وجفاء بفعل أحداث سياسية وحملات إعلامية لطالما نخرت ذلك التواصل.
ومع أنَّ الكتاب لا ينحو منحى أكاديميا في التأليف، ولا يلتزم التزاما صارما بالتقاليد المألوفة في الكتابة، فهو يفصح عن جهدٍ كبيرٍ وبصيرة نافذة، ممتدّة على مستوى الزمن وغائرة على مستوى الإلمام بالأوضاع بين الثقافتين. وهو ما جعل الكتاب رحلة شيّقة في أطوار الحضارة الإسلامية واستدراجًا ذكيًّا للقارئ الغربي نحو عوالم الثقافة الشرقية، ففيه غوص ممتِع في عديد المجالات بما يغري بالاطلاع والتوسّع.
يُدرك كاتب العرض أهمية هذه النوعية من المؤلّفات في الغرب، فهي نابعة من وعي عميق بالغرب وقادرة على أن تخاطب جمهورًا واسعًا، وهي من صنف الأعمال التي تجد سماعًا ورواجًا. والكتاب على بساطة مبناه الظاهري، اِستطاع أن يضمّ بين دفّتيه رؤى عميقة وإشارات ذكية، في منتهى الدقة والنباهة. وهو جهد مثابرٌ ينبني على متابعة ورصد للعقلية الإيطالية تجاه الثقافة العربية، رغم خروجه عمّا هو مألوف في التأليف، وتنوّع مقارباته التي لم تقنَع بمنهج محدّد أو مجال معيّن. ففي إيطاليا تقلُّ الكتابات التي تتناول تصحيح المقولات المغلوطة بشأن الحضارة الإسلامية، سيما المكتوبة من قبل أبناء هذه الحضارة المقيمين في الغرب. ومن هذا الباب يمثّل الكتاب إسهاما قيّما في مجال قلَّ التطرق إليه.
-------------------------
- الكتاب: "ألف باء الثقافة العربية الفارسية في الغرب".
- المؤلف: جوسيبي كاسيني ووسيم دهمش.
- الناشر: منشورات إيجيا (ميلانو)، باللغة الإيطالية، 2019.
- عدد الصفحات: 277 صفحة.
ألف باء الثقافة العربية الفارسية في الغرب
جوسيبي كاسيني ووسيم دهمش
عزالدين عناية
يندرجُ هذا الكتاب ضمن الكتب الناجحة في مخاطبة القارئ الغربي بشأن مضامين الحضارة الإسلامية وقضاياها الكبرى. ففي المكتبات الغربية، مع كلّ توتّر للعالم الإسلامي مع العالم الغربي في المجال السياسي، يتدفّق سيلٌ من الكتابات الموجَّهة للاستهلاك السريع، يندر أن تجدَ بينها مؤلّفا ينحو منحى رصينًا وموضوعيا في معالجة القضايا الدينية أو السياسية. الكتاب الحالي -الذي نعرضه- هو عبارة عن مدخلٍ للثقافة العربية موجَّه إلى القارئ الغربي، اعتمدَ فيه المؤلّفان أسلوبًا جمعَ بين خاصية الإقناع العلمي وخاصية الحكْي والشرح. فلا يضمُّ الكتاب فصولا، وإنما يـأتي مبوّبا بناءً على استعراض قضايا متسلسلة تقوم مقام الفصول، تنضوي تحتها مفاهيم يتحوّل شرحها إلى مقارَبات وقضايا ونقاشات تعالج مسائل إشكالية بين الحضارتين الإسلامية والغربية. فالكتاب بإيجاز هو معالَجة لقضايا مثار إشكال، بين العقل الغربي والعقل الإسلامي، يرمي المؤلفان من خلالها إلى تسوية اللاتفاهم الحاصل.
في مستهلّ الكتاب، نجد ثلاثة مفاهيم: "أهل" و"أمة" و"إرهاب". يرد حديثٌ لغوي تمهيدي عن المفهوم الأوّل يعقبه حديث عن مدلول الأهل وتطوّراته في الثقافة العربية والمسائل القانونية والدينية المتعلّقة بذلك وغيرها من القضايا. ليلِي ذلك حديث عن مفهوم الأمّة، وهي كلمة ذات حمولة دينية في التصور الغربي، يحاول الكتاب أن يعطيها مدلولها الصائب، كما نشأت داخل الثقافة العربية دون حصر لها. ثم ينختم الفصل بالحديث عن مفهوم الإرهاب، وهي كلمة متداوَلة بكثرة في الأدبيات الغربية في العقود الأخيرة، مبرزًا الكتاب القضايا المرتبطة بهذه الكلمة، ومستعرضا دلالاتها في التصور الغربي والعربي والقضايا الحافة بها. وعلى النسق ذاته يتناول الكتاب قضايا تهمُّ الثقافة الفارسية المعاصرة، ليعالج مسائل ذات صلة بالواقع الإسلامي الإيراني، وما يصحب ذلك من توترات مع الغرب، هذا عموما عن البناء الذي قام عليه فحوى الكتاب. وهو إن يبدو بسيطًا للوهلة الأولى، فهو متشعّبٌ وثريّ وعميق، نظرًا للمنهج الذي حاول به المؤلفان الحديث عن كافة المفاهيم التي تحولت إلى قضايا إشكالية.
فيمَ تتلخّص فكرة الكتاب؟.. حاولَ المؤلفان اختيار ما يناهز الستين مفهومًا مفتاحيًّا يحمل كلّ منها دلالة قوية في المخيال الغربي، وحاولا ضبط معانيها بعيدًا عن التلاعب الإعلامي وحتى الأكاديمي أحيانا. فهي مفاهيم ذات دلالة مغلوطة أحيانا وأخرى مفتَعلة، قدّرَ الكاتبان من خلالها إدخال تصويب في الدلالة والتطرّق من خلالها إلى مواضيع عادة ما هي رائجة في الأوساط الثقافية والإعلامية. فالكاتبان أحدهما إيطالي الأصل، والآخر من أصول عربية قضّى ما يزيد عن نصف قرن في إيطاليا. المؤلف جوسيبي كاسيني هو بالأساس دبلوماسي وسياسي إيطالي (من مواليد 1941)، عمل في العديد من البلدان العربية وعُيِّن سفيرا في لبنان بين 1998 و2002، تعاون باستمرار مع مجلّات وصحف إيطالية ومواقفه إيجابية من العالم العربي ومن العالم الثالث، وبفعل ما ترسّخت لديه من دراية بالعالم العربي والإسلامي فهو يدرك حجم المغالطات المستشرية حول الطرفين. ليس الكاتب من الكتّاب الأكاديميين أو الباحثين المرموقين في إيطاليا، وإنما كسياسيّ فهو مبدئيّ ومدافع عن عديد القضايا لعالم الجنوب. هذا وقد أصدرَ المؤلف جوسيبي كاسيني ثلاثة مؤلفات سياسية، الأول بعنوان "سنوات الانحدار.. السياسة الخارجية لحكومة برلسكوني 2001-2006" (2007)، والثاني "تشريح حرب.. الحرب الغبية في العراق" (2013)، والثالث "أمريكا على مفترق طرق" (2015). وهو متعاون ككاتب صحفي مع العديد من الصحف والمجلّات الإيطالية.
أما الكاتب وسيم دهمش (من مواليد دمشق 1948 لأبويْن فلسطينييْن)، فهو أستاذ اللغة والآداب العربية في جامعتيْ روما وسردينيا، وقد تقاعد منذ سنتين، ولكن لا يزال يدرّس في جامعة خاصة في روما. تلخّصَ مشروع دهمش بالأساس في نقل الأدب العربي الحديث والمعاصر، لا سيما منه الشعر العربي إلى الإيطالية، وقد ترجَمَ في الشأن لشعراء عرب كثر من المشرق والمغرب ولفلسطينيّين بالخصوص. ولكن إلى جانب النقل من العربية أعدَّ العديد من الأبحاث المنشورة في إيطاليا تناولت مسائل اللغة والثقافة العربيتيْن. يؤمن وسيم دهمش أنّ تنقية العلاقات العربية الغربية ممّا شابها من خلْطٍ لا سبيل إلى بلوغه إلا عبْرَ العمل الثقافي، لذلك ثمة إيمان لديه بوحدة الثقافتين وإن تباعدت الرؤى، فهناك قضايا مشتَرَكة تُوحّدُ الجميع. الانفتاح الإنساني لدى المؤلف وسيم دهمش جعله لا يفصل بين قضايا الإنسان وإشكالياته، أكان في الغرب أم في الشرق، ما دامت تلك القضايا عادلة وديمقراطية وإنسانية ومنحازة إلى الخيارات المشروعة. نشير إلى أنَّ وسيم دهمش هو إيطالي من أصول فلسطينية، سبعيني هاجر إلى إيطاليا وهو لم يتخطّ بَعدُ العقد الثاني من عمره. يُعدّ أبرز وجه ثقافي عربي في إيطاليا. وقد رفد المكتبة الإيطالية بجملة من الأعمال المترجمة من العربية، فضلا عن بعض المؤلّفات البحثية. تقريبا جلّ مؤلفات وسيم دهمش منشورة في إيطاليا نذكر منها: كتاب "الشعر في المغرب"؛ "فلسطينيّ وقصص أخرى" لسميرة عزام؛ "دون كيشوت في الجزائر" لواسيني الأعرج؛ "أبيات من الجليل" لسميح القاسم؛ "تحت جنح الظلام" و"مجرد 2 فقط" لإبراهيم نصرالله؛ "البئر الأولى" لجبرا إبراهيم جبرا، "أرض البرتقال الحزين" لغسان كنفاني وغيرها من الأعمال. من مؤلفات وسيم: "دراسات تطبيقية في الدارجة الدمشقية" و"خرافات فلسطينية". ترجم إلى العربية ثلاثة أعمال: رواية "موظف عادي جدا" لفنتشنزو تشيرامي، ورواية "الثمار المنسية" لكريستيانو كافينا، وكتاب "الحضور العربي الإسلامي في المطبوعات الإيطالية" من إصدارات وزاراة الثقافة الإيطالية.
يطغَى على كتاب "ألف باء الثقافة العربية الفارسية في الغرب" الطابع الثقافيّ الحضاري العام، فهو يمزج التاريخ القديم بالحاضر الراهن، والسياسة بالثقافة، والدين بالقانون، ناهيك عن التعرض إلى مسائل حضارية وقضايا لغوية. يحاول الكتاب أن يخاطبَ شرائح متنوّعة، باعتماد الحكي والمحاورة والتحليل والشرح، معتمدًا الوضوح في عرض الفكرة والحجّة العلمية الموثقة في دحض الشبهة. وبالفعل موضوع الكتاب ريادي، وربما يندر العثور على كتاب بهذه الصياغة وبهذا الزخم، في عرض مسائل حسّاسة لعقلية غربية. يرتئي مؤلّفاه أن الإعلام قد أسهم مساهمة فعالة في حرف العديد من المفاهيم عن دلالاتها الصائبة. فقد حاول الكاتبان، وهما عارفان بالعقلية الغربية تجاه الثقافة الإسلامية، وتجاه العالم العربي، أن يسلّطا الضوء على عناصر مهمّة على صلة بالحوار الحضاري، والتفاهم الثقافي، وبعيدا عن المغالطات. إذ ثمة انحراف في العديد من المفاهيم ترسّخَ بفعل المشاحنات وحال دون التثاقف العفوي. كما لا يختار الكتاب نهج الانتقاد أو الدحض الصارم للمقولات الغربية بشأن الحضارة الإسلامية وشعوبها، من خلال ما يطبعها من تقوّل وزيف في كثير من الأحيان، بل ينهج نهجًا هادئا في تصحيح الأخطاء الشائعة وعرض نقيضها الصائب. يسعى المؤلفان لخلق جوّ من الألفة في مناقشة المسائل الشائكة وإن اختلفت وجهات النظر في معالجة الأمور المطروحة.
يُمكن الحديث عن مؤلفات أخرى انتهجت منهج المصالحة بين الثقافة الغربية والثقافة العربية، لكنّها في الغالب الأعمّ جاءت نخبوية أو محصورة بمجال معيَّنٍ، وهو ما جعلها غير مسموعة أو فاترة التأثير. وأغلب تلك المؤلّفات تناولت القضايا السياسية، ولكن قلَّ أن تناولَ كتاب بهذا العمق والشمول المسائل الثقافية الإشكالية وحاول إعادة عرضها. وفي الفترة الأخيرة، وبموجب التوتر الحاصل بين الشرق والغرب (جراء موجة الإرهاب، والإسلاموفوبيا، والحركات المتطرّفة، واستفحال الحركات العنصرية، وتمدّد الشعبوية) ظهرت كتابات تدعو للتهدئة وتغليب صوت الحكمة والعقل والتعاون من أجل هدف إنساني جامع، ولكن في مجملها كانت كتابات مستعجلة ولم تذهب إلى غور الأشياء في تصحيح المفاهيم.
لعلّ الشيء المميّز للكتاب هو الفهم العميق للواقع الغربي والإلمام الرصين بالفضاءين العربي والإيراني، على مستوى ثقافي وتاريخي وسياسي. فالكاتب جوسيبي كاسيني هو دبلوماسي محترم، وعلى دراية عميقة بالتوتر السياسيّ بين العالمين، والكاتب وسيم دهمش مثقّف على إلمام واسع بالثقافتين العربية والإيطالية، وهو ما جعل من الكتاب وثيقة رصينة وعميقة. وبوجه عامّ حاول المؤلفان اعتماد أسلوب الحكي السلس في عرض مؤلّفهما، لكن ذلك الحكي كان مستندًا إلى جدل استبطنته النصوص، عماده الرواية التاريخية والأحداث المتنوعة، لأجل بلوغ تعريف أو توضيح مفهوم، مثار إشكال في الذهنية الغربية.
وبما أنّ الكتاب يعالج بالأساس مسألة التصوّرات الغربية تجاه بعض القضايا العربية والإسلامية، فقد حاولَ مؤلّفاه اعتماد مصادر غربية، مشفوعة أحيانا بَمراجع عربية على صلة بالموضوع. المَراجِع العربية والفارسية التي اُستدعِيت عادة ما اقتضتها المواضيع المعالَجة، ولكن استدعاءَ المَرَاجع العربية والفارسية لا يعني قبولا بمحتوياتها، وإنما جاء من باب التدليل والتوضيح لا غير. تبدو نسبة المراجِع العربية متواضعة، فقد تمّ التعويل على ما تُرجم إلى الإيطالية أو ما جاء في اللغات الغربية.
ويبقى الهدف الرئيس للكتاب هو الدعوة الملحّة للتخلّص من مركزية النظرة الغربية. إذ يبدو الكاتبان على دراية عميقة بسوء الفهم الحاصل بين الحضارتين العربية والغربية، والعوامل التي أنشأت ذلك هي عوامل متنوّعة، طورًا تاريخية وتارة بموجب التقلّبات السياسية المتلاحقة. فمن خلال الكتاب يحاول المؤلّفان تنقية الأجواء بين أبناء الثقافتين، على أمل إرساء تثاقف هادئ خال من سوء الفهم. ليس هناك انتصار لهذا الطرف أو ذاك، بل هناك معالجة رصينة للمواضيع تغلب عليها مسحة فكرية عمية وتتميز بأسلوب هزلي أحيانا. وبشكل عامّ يغلب على لغة جوسيبي كاسيني الطابع السياسي، وفي هذا الكتاب المشترك تقلّصت المباشَرة السياسية لتركن للمحاوَرة والمناقَشة فجاءت سلسة مقنعة. وأما وسيم دهمش فإيطاليته مبدِعة، في هذا الكتاب وفي سائر الأعمال العربية التي نقلها إلى الإيطالية. فقد أذعنت له الإيطالية كما لم تذعن لغيره، وهو بالحقيقة ظاهرة لغوية متفرّدة في الإمساك بناصية اللغتين العربية والإيطالية.
لقد تضمّن الكتاب فهرسًا وحيدًا، وهو فهرس المصادر والمراجع. وبوصف الكتاب ليس بحثًا تاريخيا، فلعلّ ذلك ما جعله يتجاوز خاصيات الكتابة العلمية الصارمة. ونظرا لخاصية الكتاب التي تغلب عليها المسحة التفسيرية، أَهملَ المؤلفان الاستعانة بالرسوم والجداول والخرائط كوسائل للإيضاح. ولا نقدّر من جانبنا أنّ هذه النوعية من الكتابات في حاجة ماسّة إلى ذلك. يبقى الكتاب ممتِعًا للقارئ الغربي ويغري بالمتابعة، وهو مدخل ذكيّ لمن يزمع الغوص في الثقافة العربية ويسعى لرؤية الأمور دون غشاوة. أقدّرُ أنّ الكتابَ نجح في إيصال رؤية منفتحة عن الثقافة العربية، وهو قادر بالمثل على زحزحة العديد من الأحكام المسبَقة لدى القارئ. كما أعتبر الكتاب لبنة نحو إصلاح العلاقات الحضارية، الإسلامية الغربية، وما لحقها من اضطراب وجفاء بفعل أحداث سياسية وحملات إعلامية لطالما نخرت ذلك التواصل.
ومع أنَّ الكتاب لا ينحو منحى أكاديميا في التأليف، ولا يلتزم التزاما صارما بالتقاليد المألوفة في الكتابة، فهو يفصح عن جهدٍ كبيرٍ وبصيرة نافذة، ممتدّة على مستوى الزمن وغائرة على مستوى الإلمام بالأوضاع بين الثقافتين. وهو ما جعل الكتاب رحلة شيّقة في أطوار الحضارة الإسلامية واستدراجًا ذكيًّا للقارئ الغربي نحو عوالم الثقافة الشرقية، ففيه غوص ممتِع في عديد المجالات بما يغري بالاطلاع والتوسّع.
يُدرك كاتب العرض أهمية هذه النوعية من المؤلّفات في الغرب، فهي نابعة من وعي عميق بالغرب وقادرة على أن تخاطب جمهورًا واسعًا، وهي من صنف الأعمال التي تجد سماعًا ورواجًا. والكتاب على بساطة مبناه الظاهري، اِستطاع أن يضمّ بين دفّتيه رؤى عميقة وإشارات ذكية، في منتهى الدقة والنباهة. وهو جهد مثابرٌ ينبني على متابعة ورصد للعقلية الإيطالية تجاه الثقافة العربية، رغم خروجه عمّا هو مألوف في التأليف، وتنوّع مقارباته التي لم تقنَع بمنهج محدّد أو مجال معيّن. ففي إيطاليا تقلُّ الكتابات التي تتناول تصحيح المقولات المغلوطة بشأن الحضارة الإسلامية، سيما المكتوبة من قبل أبناء هذه الحضارة المقيمين في الغرب. ومن هذا الباب يمثّل الكتاب إسهاما قيّما في مجال قلَّ التطرق إليه.
-------------------------
- الكتاب: "ألف باء الثقافة العربية الفارسية في الغرب".
- المؤلف: جوسيبي كاسيني ووسيم دهمش.
- الناشر: منشورات إيجيا (ميلانو)، باللغة الإيطالية، 2019.
- عدد الصفحات: 277 صفحة.
