رشيد الدين
فيلابوراتوراتو عبدالكبير
هناك عدد كبير من الكتب تتناول موضوع تقسيم الهند؛ مثل: "الهند تنقسم" India Divided لرئيس الهند الأسبق راجيندرا براساد، و"القطار إلى باكستان" Train to Pakistan للكاتب الصحفي المشهور خوشواند سينج، و"باكستان وتقسيم الهند" Pakistan or Partition of India لأمبيدكار باني الدستور الهندي، و"بانجاب الدامية The Blodied Panjab لاشتياق أحمد ، و"استقلال في منتصف الليل" Freedom at Midnight لدومانيك لابير، و"جناح والهند والتقسيم" Jinnah, India and Partition لجاسوانت سينج القيادي المنشق من الحزب الحاكم الحالي في الهند بي.جيه.بي. وثمة أيضا روايات وقصص تدور حول آلام تقسيم الهند وكوارثه الجسيمة؛ مثل: "نهر النار" لقرة العين حيدر، و"توبا تيك سينج" لسعادة حسين ماندهو، و"أولاد وُلدوا في منتصف الليل" Midnight Children لسلمان رشدي. ولكن الكتاب الذي نقوم بعرضه هنا يتميز عن هذه الكتب جميعا بنكهته الخاص. وهو ليس بكتاب يخوض تفاصيل تاريخ تقسيم البلاد، ولا بكتاب يتسم بتحليل أكاديمي لما جرى في الأيام الخوالي بعد انسحاب بريطانيا من بلد تعتبره درة تاجها. بل هو رحلة، ولكن لونها ليس لون رحلة ترفيهية، بل لها لون تحقيقات صحفية تتسرب إلى الزوايا الخفية في أروقة السياسة الباكستانية والكشميرية، تحمل في طياتها معلومات مفيدة جمة، لا تتوافر عادة في مكان آخر بالنسبة لقارئ هندي؛ لأن باكستان دولة بعيدة رغم قربها بالنسبة للمواطنين الهنود.
وقد تجاوزت قارة الهند أكثر من سبعين سنة بعد تقسيمها إلى الهند وباكستان، ولكن الجروح التي أصابت قلوب الشعبين الهندي والباكستاني لم تضمد حتى الآن. المسافة من دلهي إلى لاهور عبر الطائرة بضع دقائق فقط؛ إذ تقع بمسافة 426 كيلومترا. هما دولتان تشتركان في التشابه الجغرافي واللغوي والثقافي. اللغات الأردوية والبانجابية والسندية هي من اللغات الرائجة تتحدث بها عامة الناس في كلا الدولتين. وفي باكستان توجد أماكن مقدسة لدى السيخ يحجون إليها كل سنة. ولكن العلاقات الثنائية بينهما للأسف دائمة التوتر. بعيدا عن هذه التوتر على السطح الحكومي، ينسخ الكاتب مشاعر الحب والحفاوة السخية التي أسرته خلال رحلته في لاهور ومظفر آباد وبيشافار وكراشي، كما يسلٍّط الضوء على التطورات السياسية داخل باكستان. ومن هذه الحيثية، فإنها ليست رحلة نزهة عادية لزيارة أماكن سياحية، ولكن رحلة سياسية تعبر عن حالات تمر بها باكستان.
مُؤلف الكتاب رشيد الدين إعلامي مرهف الحس، ومعروف بتحليلاته للشؤون السياسية وتقاريره الصحفية وبثه المباشر عبر القنوات من نقاط ساخنة. لا يتردد في أن يغامر بخطوات جريئة إلى مناطق خطرة للحصول على حقائق خلف كواليس الأخبار. لا يعتمد على مصادر ثانوية في جمع الأخبار، بل يفضل توفيرها من المصادر الأصلية. نجد لذلك شواهد عديدة في هذا الكتاب. إذا شم خبرا في مكان ما يُسرع إلى مسرح الحدث حتى في منتصف الليل ولو كان المكان غريبا. يقتحم عمق الغابات الكثيفة في ولاية تشاتيسجر حيث يختفي الماوويون المسلحون، وذلك لإجراء مقابلة مع قائدهم، حاول سائق سيارة الأجرة التي ركبها أن يمنعه من تلك المغامرة ولكن لم ينسحب.
حين كان يعمل مراسلا في عاصمة الهند لصحيفة "مادهيامام" الصادرة في كيرالا كانت القنوات الرئيسة في كيرالا تبث تقاريره الصحفية التي تغطي أخبار الانتخابات العامة؛ لأن تقاريره كانت دقيقة متزنة وذات لون تنبؤي تصدقها في أحايين كثيرة نتائج الانتخابات. وقد سبق له أن زار كشمير المحتل لتغطية أخبار الزلزال وانتهز تلك الفرصة لإجراء لقاءات مع "الإرهابيين" الذين يتدربون في معسكرات باكستان ضد الهند نقرأ تفاصيلها في هذا الكتاب. وبعد هذا، وخلال فترة عمله في الجريدة المذكورة، حين اغتيلت بينظير بوتو، وصلته رسالة هاتفية من رئيس التحرير لحجز تذكرة في أول طيران يتجه إلى باكستان. فقبل التأكد من توافر التأشيرة من السفارة الباكستانية حجز التذكرة. ذلك اليوم لم يكن معه من المرافقين في السفر إلى باكستان إلا إعلاميين اثنين فقط، وكانت أحدهما "برقة دات" من قناة ان.دي.تي.في. أما الصحفيون الآخرون، فبالرغم من توافر التأشيرة لم يتمكنوا من السفر في تلك الطيارة لعدم توافر التذكرة. كانت مدينة كراتشي تحترق تلك الأيام، وكان العنف سيد الموقف وولاية السند كاملة مخيمة بالخوف. وكانت الشوارع تلتهب بمتظاهرين ينتمون إلى حزب بينظير، حزب الشعب، في مختلف المناطق ويعبرون عن غضبهم بالتكسير والحرق والاعتداء على الأملاك العامة، ولم يتجرأ أحد للتوجه إلى مدينة "لاركهانا"، منطقة إقامة أسرة بوتو. المراسلون الذين وصلوا من دلهي مكثوا في لاهور أو إسلام آباد وحاولوا جمع الأخبار من الصحفيين المحليين في باكستان ومن مكاتب الإعلام العامة الحكومية. أما رشيد الدين، فلم يكتف باعتماد المصادر الثانوية هذه، بل حسم أمره للتوجه إلى كراتشي بمساعدة معارفه في باكستان، ورأى أن مدينة كراتشي لا تختلف عن أي مكان متوتر في الهند، وأن الخوف من باكستان هو السبب الأساسي الذي يمنع رفقاءه من الذهاب إليها.
"إما أنت مجنون أو أنك سفيه"؛ كان هذا هو تجاوب أصدقائه الصحفيين الهنود حين عرفوا قراره للذهاب إلى كراتشي. نزل في كراتشي وتعامل مع الجمهور بكشف هويته كصحفي من الهند. وبما أن السفر في النهار إلى "نوريدا" في "لاركهانا" حيث يوجد "بيت بوتو" اختار باص الليل من كراتشي إلى سوكار، ومنها إلى "نودورا". التقى مع غنوة بوتو اللبنانية الأصل، أرملة مرتضى شقيق بينظير، وابنتها فاطمة بوتو الصحفية. وكان جل همه اكتشاف العناصر الخفية وراء مؤامرة اغتيال بينظير، ليلقي الضوء تفصيلا على المشاجرات داخل أسرة بوتو، لأن مرتضى كان أيضا قد قتل من قبل، وابنته فاطمة تتهم في كتابها "أغاني الدم والسيف" Songs of Blood and Sward أن آصف علي سرداري هو الذي لعب وراء المؤامرة مع معرفة زوجته عن ذلك. وهنا ينسخ ما كتب الصحفي البريطاني ويليام دارليمبيل عن اغتيال مرتضى الذي يتهم بشكل واضح مشاركة شرطة بينظير حاكمة باكستان آنذك. إلا أن بينظير قد نفت ذلك متسائلة أن أسرة بوتو ماذا تستفيد من اغتيال أحد أعضائها؟!! وكان مرتضى في المنفى بعد إعدام والده، وسرداري الذي يتحكم قبضته على السلطة من وراء بينظير لم ير طبعا عودة مرتضى إلى ساحة السياسة بعين الرضا، بل رآه تهديدا واضحا أمام مستقبل بينظير السياسي وبالتالي لمصالحه الذاتية. هكذا عملت الأيادي الخفية وتم اغتيال مرتضى عند عودته إلى البيت في منتصف الليل بعد حملته الانتخابية.
أيًّا كانت الحقيقة، أصبحت قضية اغتيال مرتضى مبهمة دون الكشف عن عناصرها الخلفية، وكان مصير بينظير أيضا نفس مصير شقيقه. لم تشر تحقيقات الأمم المتحدة إلا إلى الخلل الأمني، وكانت هناك محاولة لاغتيالها فور أن وصلت باكستان من منفاها الخارجي، وآنذك كان بيت الله محسود، قائد حركة طالبان يملأ صفحات الجرائد متَّهما أمام أعين الجمهور، غير أن الحلقات المقربة من بينظير رفضت تلك التهمة من أساسها. أما بيت الله محسود فقد صرح عبر رسالة أرسلها عبرهاتف متحرك أن بينظير بمثابة أخت له، فلن يقتل التي تلقى منها دعما كبيرا، وتبعه بيان تعزية من المولوي عمر، ناطق حركة طالبان المولوي عمر تعزية شارك فيها حزن أسرة بوتو. وحركة طالبان مهما كانت متطرفة فمن الحقيقة المعروفة أن قتل النساء والولدان ليس من سجياتها.
ويعتقد الكاتب أنه قد تكون عدة عناصر ذات مصالح خاصة فيمن شارك في اغتيال بينظير، ويشك أيضا في دور سرداري في هذه الجريمة البشعة. صحيح أنه قد استغل سلطة زوجته في أسوء صورة، ولكن أن يتهم أنه سيذهب إلى هذا الحد ليس إلا ضربا من الخيال. يطلع وجه الكاتب بين السطور متعاطفا مع ابنة الشرق هذه، ربما لأنها من الجنس الناعم، وكذالك يرى والدها ذوالفقارعلي بوتو حاكما معتدلا إلى حد ما في تاريخ سياسة باكستان بالنسبة إلى الحكام الآخرين. وفي هذا التقييم شيء من المبالغة وكيل جزاف. ولو كان بوتو قد اعترف بنتائج الانتخابات العامة التي جرت في ديسمبر 1970، وسمح لحزب مجيب الرحمن -الذي حصل على الأغلبية المطلقة من دوائر الاقتراع- بتشكيل الحكومة لما كانت باكستان انقسمت ولا بنجلاديش قد أتت في حيز الوجود.
وكذلك.. إنه من الحقائق المعروفة أن نصر الله بابر وزير الداخلية في حكومة بينظير كان من المؤيدين لطالبان أفغانستان، كما أشار إليه روبارت كابلان مراسل أطلانتا، ومن الدول المقدمة التي اعترفت بحكومة طالبان في البداية باكستان والإمارات المتحدة، وما اصطفت باكستان ضد طالبان إلا بعد أن شنت الولايات المتحدة الهجوم على أفغانستان للقبض على بن لادن. يقول رشيد الدين إن إعدام بوتو تم بشهادة الزور من قبل العسكر، ولكن القضية كانت قضية خاصة سياسية رفعتها إلى المحكمة عائلة كاسوري في اغتيال أحد أقاربهم، يعتقدون فيه دورا لبوتو وحزبه، ولم تكن الحكومة العسكرية طرفا فيها، ولم تكن المحاكمة كذلك في محكمة عسكرية بل كانت في محكمة مدنية. لا دخل فيها لضياء الحق ولا لجيشه. ثم إلى أي حد كان بوتو وأسرته ملتزمين بالديمقراطية؟ أي ديمقراطية توجد في الحكم الوراثي؟ كان بوتو الأب أكبر إقطاعي في لاركهانا، زوّج ابنته بينظير لسرداري ابن برجوازي معروف في باكستان، سرداري الذي اشتهر بلقب "سيد عشر في المائة"، لأنه كان له حصة 10% من كل مشروع حكومي متى ما يُمنح عطاؤه على أحد، كما يكتب رشيد الدين نفسه في هذا الكتاب. ما كانت الاشتراكية لهم إلا هتافات جوفاء. ورأسمال سياستهم مهارتهم في استصغار عقول الشعب الذي يعاني من الشح الذهني، الظاهرة التي توجد عموما في العالم الثالث. وحكاية أسرة بوتو إنما هي مأساة كاملة ساد على فضائها التشاجر والتنازع حول السلطة.
مرتضى ابن بوتو الأكبر كان يعتقد أنه هو الوريث الحقيقي لبوتو المقتول، وبعد إعدام بوتو غادر باكستان وتنقل في عدد من الدول بما فيها ليبيا وشكل خلية سرية تسمى "ذو الفقار" لقلب الحكومة الباكستانية، وكان مقر الخلية أفغانستان التي احتلتها الجيوش السوفياتية. تحت مظلة الخلية، قام بعدد من العمليات الإرهابية؛ يأتي في مقدمتها اختطاف طيارة باكستانية. ولما رجع إلى باكستان بعد أن عادت أوضاعها إلى حالتها الطبيعية، كان فراغ بوتو الأب في حزب الشعب قد سدته بينظير، وأحكم القبضة عليه زوجها سرداري من وراء الكواليس، ومن هنا بدأ التنازع حول كرسي السلطة بين مرتضى وسرداري؛ مما أدى أخيرا إلى اغتيال الأول تحت خطة للشرطة، عمل وراءها الثاني كما يُعتقد على نطاق واسع.
ولم يكن مصير شقيق بينظير الثاني شاه نواز أيضا مختلفا عن هذا؛ حيث أغتيل أيضا في إحدى ضواحي باريس في ظروف غامضة. كانت له زوجة ثانية تزوجها في أفغانستان مما أدى لمشاكل مع والدته وزوجته الأولى. حين يقوم الكاتب بتقييم سياسة أسرة بوتو يغض نظره عن هذه الحقائق، إلا أنه لا يقلل من أهمية هذا الكتاب ووزنه في دراسة الشؤون الباكستانية، خاصة عند ندرة كتب مثله في اللغة المالايالامية، وهو بلا شك مرجع موثوق وغني بمعلومات نادرة ومتميز بأسلوب ساحر وآسر.
-----------------------
- الكتاب: "أشجار سدرة المنتهى في حدود باكستان".
- المؤلف: رشيد الدين.
الناشر: تيروفاناتابورام، Chintha Publishers، 2019م، بلغة مالايالام.
عدد الصفحات: 304 صفحات.
