أم كلثوم الفارسي
نتناول في مقالنا هذا ما كتبه الباحث في الفقه وأصوله -بلال شيبوب- في بحثه العميق المعنون بـ"التكامل المعرفي بين الفلسفة وعلم الكلام وعلم أصول الفِقه من خلال المفاهيم الرحّالة (مفهوم العِلَّة أنموذجاً)"؛ فلقد رصدت الساحة الفكرية من خلال ما مضى وعياً كبيراً بأهمية التكامل المعرفي عند مُفكري الإسلام، تجلّى في سعيهم الحثيثِ إلى تأطيره علمياً مشددين على أن حصول التكامل بين عِلْمين فصاعداً يجب أن يكون بناءً على حاجات علمية ملحة، لا على سبيل الترف أو التزويق؛ لما في ذلك من انشغال بالفضول وتضييع للأصول، وكفى بذلك تضييعاً لبنية العلم، وسلباً لوصف العلمية منه.
فالتكامل المعرفي ضرورة، وهو آيل في معناه العام إلى تعاون العلوم والخواطر على بيان أمرٍ ما، وهذه حقيقة ينطق بها تاريخ العلم؛ فإن كثيراً من العلوم ما كانت لتصل إلى مراحل متقدّمة من نضجها لولا تكاملها مع غيرها. والجدير بالذكر أن الإمام الغزالي من أوائل الذين سعوا إلى تأسيس مشروع تكامل العلوم التراثية الأصلية مع العلوم المنقولة ما دامت لا تتعرض بالنقض للأصول التداولية الإسلامية، عائباً على فئة مناوئة من المجتمع الإسلامي ردها حقائقَ في أسرار الدين بكونها من كلام الأوائل، فإن صاحب التخصص العلمي الواحد لا يستطيع الوفاء بجميع مسائل علمه متى اكتفى بعلم واحد؛ لأنه يعزّ وجدانُ عِلْمٍ مستقل برأسه، لا يتكامل مع علوم أخرى. وكأن يُستضر في العلوم فاقةً وعَوَزاً. ويقول ابن حزم في حق صاحب التخصص "وإنه إن لم يضف غيره من العلوم إلى علمه كان ناقصاً، لا يُنتفع به »
فعلم الكلام أحد أبرز العلوم الإسلامية الذي يهتم بمبحث العقائد الإسلامية وإثبات صحتها والدفاع عنها بالأدلة العقلية والنقلية؛ إذ يُعَدُّ – إلى جانب علم أصول الفقه – انعكاساً لمنهج التفكير الإسلامي، وتجلياً من تجلياته العقلية. فهو – في بعض مسمياته– علم النظر والاستدلال، وقد سمي بذلك لقيامه على القول بوجوب النظر العقلي عند كثير من المُتكلمين، واشتغاله بآليات الاستدلال العقلية على المسائل الإيمانية. وهو علم يعنى بمعرفة الله تعالى والإيمان به، ومعرفة ما يجب له وما يستحيل عليه وما يجوز، وسائر ما هو من أركان الإيمان الستة ويلحق بها، وهو أشرف العلوم وأكرمها على الله تعالى، لأن شرف العلم يتبع شرف المعلوم لكن بشرط أن لا يخرج عن مدلول الكتاب، والسنة الصحيحة، وإجماع العدول، وفهم العقول السليمة في حدود القواعد الشرعية، وقواعد اللغة العربية الأصيلة.
ويقوم علم الكلام على بحث ودراسة مسائل العقيدة الإسلامية بإيراد الأدلة وعرض الحجج على إثباتها، ومناقشة الأقوال والآراء المخالفة لها، وإثبات بطلانها، ودحض ونقد الشبهات التي تثار حولها، ودفعها بالحجة والبرهان. فمثلا إذا أردنا أن نستدل على ثبوت وجود خالق لهذا الكون، وثبوت أنه واحد لا شريك له، نرجع إلى هذا العلم، وعن طريقه نتعرف على الأدلة التي يوردها العلماء في هذا المجال. وهناك عدة تعريفات لعلم الكلام، تختلف في ظاهرها في المفهوم المأخوذ منها، ولكنها في حقيقتها ترجع إلى حقيقة واحدة، منها تعريف الفارابي بأنه "ملكة يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال المحمودة التي صرح بها واضع الملة، وتزييف كل ما خالفها بالأقاويل". ويعرفه عضد الدين الإيجي في المواقف بقوله: "علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه، والمراد بالعقائد ما يقصد به نفس الاعتقاد دون العمل، وبالدينية المنسوبة إلى دين محمد فإن الخصم وإن خطأناه لا نخرجه من علماء الكلام". وإذا كان كل من الفارابي والإيجي قد جعل علم الكلام يقوم على نصرة العقيدة الإسلامية دون تمييز بين الفرق الإسلامية، فإننا نجد ابن خلدون في مقدّمته يحصر التعريف في نصرة الاعتقادات على مذهب السلف وأهل السنة ويخرج باقي الفرق فيقول في تعريفه لعلم الكلام: "هو علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة، وسر هذه العقائد الإيمانية هو التوحيد". وهو في هذا يوافق ما ذهب إليه الغزالي في المنقذ من الضلال. وهناك تعريفات أخرى للكلام تحدده بموضوعه لتفصل بينه وبين العلوم الأخرى الناظرة في الإلهيات، منها تعريف الشريف الجرجاني له بقوله: "علم يبحث فيه عن ذات الله وصفاته وأحوال الممكنات من المبدأ والمعاد على قانون الإسلام".
ويبقى تعريف الفارابي الأكثر سعة وشمولاً حيث أوكل للمشتغلين بعلم الكلام الدفاع عن الدين الإسلامي بكامله: تصورا وممارسة، علما وعملا أو عقيدة وشريعة. وهو الأمر الذي غاب عن جل التعريفات. ولكن هذا الجمع للعقيدة والشريعة لا يعني خلطا بين علمين متميزين وإنّما هو عقد للصلة بينهما وهذا ما نقرؤه بوضوح في ما يلي من قول للفارابي: "وهذه الصناعة تنقسم جزئين أيضاً: جزء في الآراء وجزء في الأفعال [وهي غير الفقه] لأن الفقيه يأخذ الآراء والأفعال التي صرّح بها واضع الملة مسلّمة ويجعلها أصولا فيستنبط منها الأشياء اللازمة عنها. والمتكلم ينصر الأشياء التي يستعملها الفقيه أصولاً من غير أن يستنبط منها أشياء أخرى. فإذا اتفق على أن يكون لإنسان ما قدرة على الأمرين جميعاً فهو فقيه متكلم. فتكون نصرته لها بما هو متكلم، واستنباطه منها بما هو فقيه".
إذن، الفارابي لم يخلط بين العلمين، وإنّما ربط الصلة بينهما، مع حدِّهما، فعالم الكلام ينتصر لعقيدة المتدين ولممارساته العملية، في حين الفقيه ينطلق من العقائد ومن الممارسات التي يضعها الشارع كأصول ليستنبط منها الأحكام الفقهية، وقد يكون عالم الكلام فقيها ليس لأنه عالم كلام، وإنمّا لأنه استنبط أحكامًا من الأصول، وكذلك الفقيه قد يكون عالم كلام، ليس لكونه فقيها وإنّما لأنه يدافع عن الدين عقيدة وشريعة.
ذلك الفصل والوصل بين علم الكلام والفقه، وجعل عالم الكلام يدافع عن الآراء والأفعال هو من الأسباب التي تضع تعريف الفارابي لعلم الكلام في مقدمة كل التعريفات التي أُدلي بها في تحديد مفهومه نظرًا لشموليته للعلم والعمل، وعدم تمذهبه، فالدفاع عن الدين في مـفهوم الفارابي لعلم الكلام هو نصرة للدين ضد التحديات العقدية بصفة عامة بدون تحديد لمنطلق مذهبي بعينه، خلافاً لجل باقي التعريفات. ونظرة سريعة إلى أهمها عبر مختلف الأزمنة يثبت سعة وشمولية تعريف الفارابي وبالتالي أفضليته.
