منال المعمرية
يقولُ أفلاطون في مؤلفه "الجمهورية": "في اعتقادي أنَّ الدولة تنشأ من عجز الفرد منا عن الاكتفاء بذاته، وحاجته لأشياء كثيرة". أما عن ثامسطيوس، فيقول: "لأنَّ الإنسان الواحد لا يُمكنه أن يعمل الصنائع كلها، احتاج بعض الناس إلى بعض، ولحاجة بعضهم إلى بعض اجتمع الكثير منهم في موضع واحد، وعاون بعضهم بعضا في المعاملات والأخذ والعطاء، واتخذوا المدن لينال بعضهم من بعض المنافع عن قرب، لأن الله خلق الإنسان بطبعه يميل إلى الاجتماع والأُنس، إذ ليس يكتفي الواحد من الناس بنفسه في الأشياء كلها. ولما اجتمع الناس وتعاملوا، وكانت مذاهبهم في التناصف والانتظام مختلفة؛ صنع الله سننا وفرائض يرجعون إليها ويقفون عندها، ونصّب لهم حكّاما ليحفظوا تلك السُنن ويأخذوهم باستعمالها".
كان ذلك بعضا من ملامح فلسفة الاجتماع البشري لدى اليونان قديما، والتي أشار إليها رضوان السيد في مقاله "الميثاق والعهد والعقد الاجتماعي" -المنشورة بمجلة "التفاهم"- والسيد هو كاتب ومفكر لبناني له العديد من المؤلفات والترجمات، وإضافة لذلك فله مقالات فكرية وسياسية عديدة.
يصف الكاتب تأثر المسلمين بضرورات الاجتماع البشري وأخذهم الفكرة عن اليونان، والفارابي أولهم؛ إذ يقول في كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة: "كل واحد من الناس مفطور على أنه محتاج في قوامه، وفي أن يبلغ أفضل كمالاته إلى أشياء كثيرة لا يمكن أن يقوم بها كلها وحده، بل يحتاج إلى قوم يقوم كل واحد منهم بشيء مما يحتاج إليه.. لهذا؛ كثرت أشخاص الإنسان، فحصلوا في المعمورة من الأرض، فحدثت منها الاجتماعات الإنسانية". كما يذكر الكاتب قول ابن سينا: "لمّا لم يكن الإنسان بحيث يستقل وحده بأمر نفسه إلا بمشاركة آخرَ من بني جنسه، وبمعاوضةٍ ومعارضةٍ تجريان بينهما يَفرغُ كل واحدٍ منهما لصاحبه عن مهمٍ لو تولاهُ بنفسه لازدحم على الواحد كثير- وكان مما يتعسر إن أمكن- وجب أن يكون بين الناس معاملةٌ وعدلٌ يحفظهُ شرعٌ، ويعرِضه شارعٌ متميزٌ باستحاق الطاعة".
إنَّ هذين النصين من عند ابن سينا والفارابي هما قليل من كثير لدى الفلاسفة والأخلاقيين المسلمين، وهو تأسيس مأخوذ عن الكلاسيكيات اليونانية؛ لكن إلى جانب فكرة العمل وتقسيمه أضاف المفكرون المسلمون حاجة الإنسان إلى الدين فالسلطة، وليس العكس؛ لتحقيق الاستقرار ومنع التغالب؛ إذ إن السلطة لا تستطيع فرض أي نظام إن لم يكن الناس مستعدين للانقياد له، والدين هو ذلك الوازع!
ويخلص رضوان السيد في مقاله إلى أنَّ هناك نظريتين في الفكر الإسلامي في ظهور المجتمع وتطوره؛ الأولى: يقودها الفلاسفة والأخلاقيون. والثانية: يذهب إليها الفقهاء والمتكلمون. ويقتبس الفلاسفة والمتكلمون -على حدٍّ سواء- بدايات النظرية أو جزءها الأول من اليونان. وهي تقول بأن الناس محتاجون إلى الاجتماع؛ لأن الفرد لا ينفرد بقضاء حاجاته الأساسية في المأكل والمشرب والملبس. فيحدث الاجتماع الصغير ويظهر تقسيم العمل من أجل الاستمرار والتكامل. إنما بعد هذه البداية المتفقة تنقسم الآراء، فيرى الفلاسفة ضرورة أن تكون للسلطة الأفضلية طبيعة وعقلًا، لترغم الآخرين على الطاعة. وهي عندهم الرئيس الذي يصبح فيلسوفا، أو الفيلسوف الذي يصبح رئيسا. إن العقول لدى الفلاسفة لا تتساوى بين البشر، لأنهم مزودون بها من الأعلى، من العقل الفعّال (الذات الإلهية)، ولذلك فإن المميزين أو النخبة المتصلين بالعقل الفعال هي التي تسود في المدينة، ويكون منها الملك أو الرئيس، والمدينة هي العمران الضروري للكمال الإنساني. بل إن المدينة لا تكون كذلك إلا إذا سبقها الرئيس أو السانّ أو الشارع إلى الوجود. لذا؛ فإنَّ العقد الاجتماعي غير متصور وغير وارد. فالرئيس ليس جزءا من المجتمع حتى يجري التعاقد معه، بل هو رئيس بالطبيعة.
فهو في عالم الحيوان كالأسد -ملك الوحوش- أوحد في الطبيعة وأوحد في السلطة، وذلك بمقتضى الطبيعة المختلفة عن باقي الحيوانات في الغابة، فهو ملك أصلا ولا يدين لأحد بشيء، بل إن المجتمع هو الذي يدين له بالكمال والسعادة. إذن فكذلك الرئيس، هو عقل المجتمع، ومهمته هذه ليست عارضة أو مصادفة، بل هي جزء من طبيعته ومهنته، ولها وظيفتان: حسن الإدارة بسبب الحكمة الفائقة، وإحقاق السعادة بالكمال الإنساني الذي لا يحصل إلا في المدينة، التي لا تحصل بدورها إلا بوجود الرئيس الفيلسوف!
إنَّ فكرة العقد هنا غير مُتصوَّرة، لأنه لا علاقة للمجتمع باختيار الرئيس أو تعيينه، وإنما واجب الناس الخضوع والامتنان للكمال والسعادة التي سيحظى المجتمع بهما.
لكن فكرة العقد سائدة لدى الفقهاء والمتكلمين؛ فالمجتمع في تنظيرهم يحتاج إلى شرع أو ناموس ينضبط به وتنتظم أموره. ويحتاج إلى رئيس يختاره المجتمع ويتعاقد معه على إدارة الشأن العام وإنفاذ الشريعة. والسّنة أو الشرع لدى الفقهاء والمتكلمين يقصدون به الدين، الذي يسلّم له الناس بمقتضى الإيمان والاقتناع. أما الرئيس -الذي من ضمن مهامه إنفاذ الشرع- فإن الناس يطيعونه ليس لأنه يطبق الشريعة؛ بل لأنهم هم الذين اختاروه لإدارة شأنهم العام. فالعقد الاجتماعي والسياسي متصور عندما تكون القرارات متخذة من الناس الذين يريدون العيش معا. وهو أمر غير متصور لدى فلاسفة العقل الفعال، بل لدى مفكري عقل الجماعة والشورى والإجماع.
كما يذكر الكاتب -ضمن مقاله- أن الفقهاء والمحدّثين يصرون على رفض جوهرية العقل التي يقول بها الفلاسفة، ومن ثم رفض ما يترتب عليها. فإذا مضينا باتجاه قولهم بأن العقل غريزة؛ فإن معنى ذلك تساوي الناس في العقول وهو أمر لا يوافقه الفلاسفة. ثم إن الغريزة بسبب شيوعها يكون معناها أن السلطة التي يهبها العقل شائعة في سائر المجتمع، والناس ذوو العقول والقدرات المتساوية مشاركون فيها؛ وبالتالي فالعقل الإنساني لا علاقة له بالعقل الفعال، وهو صاحب السلطة الشائعة في المجتمع لشيوع العقول وتساويها!!
