قيس الجهضمي
إنَّ الاختلاف بين الأديان وما صنع من مقارنات بينها وجعل الدين هو الحق الصرف وما عداه باطل بالكلية هو الذي صنع الفرقة والعداوة في كثير من المجتمعات. لذا؛ في مقالة "وحدة الدين والقيم الأخلاقية العالمية" للكاتب محسن العوني والمنشور بمجلة التفاهم نجده يحاول أن يُؤكد على نقاط أساسية تلتقي فيها الأديان وقيم أخلاقية عليا تشترك فيها، وهي دعوة للنظر إليها وتعميقها بين جميع الشعوب بما تصنعه من حب ووئام وتفاهم وإنجاز يخدم البشرية جمعاء، ويُحقق غاية الأديان بحصول الاستقرار الروحي والمادي.
يؤكد العوني على أن دين الله واحد في جوهره وإن اختلفت مظاهره وأشكاله وشرائعه، وهو الإسلام بمعنى "إسلام الوجه والكيان لله رب العالمين"، وهي الملة التي ابتدأت من آدم عليه السلام إلى الرسول الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم مرورا بجميع الأنبياء والمرسلين. ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: "ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون"، وجاء في الحديث: "الأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد، وأنا أولى النَّاس بعيسى بن مريم، لأنه ليس بيني وبينه نبي"، قال الإمام البغوي: "يريد: أن أصل دين الأنبياء واحد، وإن كانت شرائعهم مختلفة". ويُبيّن العوني أن الإسلام هو أكبر شهادة ذكرها الله في كتابه من خلال استدلاله بآية "إن الدين عند الله الإسلام"، ويذكر فيما يروى من تفسير ابن عباس لهذه الآية أنه قال: "إن الدين المرضي عند الله الإسلام، ويقال: شهد الله أن الدين عند الله الإسلام مقدما ومؤخرا، وشهد بذلك الملائكة والنبيون والمؤمنون.."، وقد كرّم الله أمة الإسلام بالشهادة على الأمم والشهادة للأنبياء "وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا"، وورد في تفسير الطبري لهذه الآية: "وكذلك جعلناكم أمة وسطا عدولا شهداء لأنبيائي ورسلي على أممها بالبلاغ: أنها بلغت ما أمرت ببلاغه من رسالاتي إلى أممها، ويكون رسولي محمد صلى الله عليه وسلم شهيدا عليكم بإيمانكم به، وبما جاءكم به من عندي".
يذكر الكاتب أن القرآن الكريم يؤكد على مبدأ التعددية الذي يتجاوز الأجناس والألوان إلى تعددية الأديان أيضاً كونها آية من آيات الله، وأن الدين عبارة عن "حقيقة موضوعية مطلقة متعالية" غير خاضعة لرؤى البشر النسبية، أما التدين فهو "ظاهرة ذاتية نسبية تاريخية" وهي لا تتطابق لدى المؤمنين في أغلب الأحوال، لذا يذهب الإمام محمد الطاهر بن عاشور إلى أن من يفرق بين الأنبياء ويؤمن ببعضهم ويكفر ببعض هي "زلة في الأديان"، وفي قوله تعالى "لا نفرق بين أحد منهم" المقصود عدم التفرقة بينهم في الإيمان وهذا لا يتنافى بالطبع مع اعتقاد أن بعضهم أفضل من بعض. يرى الكاتب أن حكمة الله اقتضت أن يجعل للناس حرية الاختيار والفعل بعد التكليف وهذا ما جعل بينهم حدوث الاختلاف "ولو شاء ربك لجعل النَّاس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم". يذهب الإمام محمد الطاهر بن عاشور في تفسيره لهذه الآية "لما أشعر الاختلاف بأنه اختلاف في الدين وأن معناه العدول عن الحق إلى الباطل -لأن الحق لا يقبل التعدد والاختلاف- عقب عموم } ولا يزالون مختلفين {باستثناء من ثبتوا على الدين الحق ولم يخالفوه بقوله }إلا من رحم ربك{ أي فعصمهم من الاختلاف. وفهم من هذا أن الاختلاف المذموم المحذر منه هو الاختلاف في أصول الدين".
يرى الكاتب أن وحدة الدين هي التي توحي إلى وجود قيم أخلاقية كونية أيضاً، وهي "المقدمة الضرورية لإبقاء التعايش السلمي والمساكنة بين جميع الشعوب والمجتمعات والثقافات والأديان"، كما أن القرآن يؤكد على وحدة أصل كل الناس وما انتماؤهم لشعوب وقبائل مختلفة إلا لأجل التعارف والتقارب فيما بينهم، ومهما كانت الاختلافات بيننا وأهل الكتاب فإنه يجمعنا الإيمان بالله واليوم الآخر وبالقيم العليا وهي أشياء أساسية. يرى الكاتب أن وحدة الدين هي الطرف الأدنى للقاء والحوار والتقارب لأجل الوصول إلى قيم أخلاقية عالمية ينتفع بها كل الناس في التعايش فيما بينهم، كما أنه يرى أن الطرف الأعلى هو فكرة إعلان عالمي عن أخلاقية شاملة والتي استوحاها من الكاتب هانس كونج من مؤلفه "مسؤولية شاملة، بحثا عن أخلاقية جديدة"، وهو الذي يقول: "لا سلم بين الأمم دون سلم بين الأديان".
إن كثيرا من النصوص الدينية تؤكد على مسألة الانفتاح على الآخر والارتباط معه في قواسم مشتركة تحت مظلة "كونية الانتماء" كما يرى العوني، لكن الكثير من المجتمعات تنحو نحو الإقصاء والعداوة وإلغاء الآخر بسبب ما ورثته من أدبيات في فهم النصوص الدينية، لذلك ظهرت مشاريع للبحث عن الصور الإيجابية بين الأديان وتعميقها وإعادة قراءة النصوص بوعي أكبر من الإسقاطات التي وقعت عليها لأجل التفرقة ونبذ الآخر، ويذكر العوني أن النقد ضروري لتجاوز الوقوع في الإسقاط، وأن الحوار القائم على النظر بأنَّ الإنسان قيمة مطلقة والاختلاف هو مصدر غنى وتقديم قيم الحرية والفرد والروح على فهم ظاهر النص هو الذي سينتج انسجاما بين معتنقي الأديان.
يقول الكاتب إن العالم الآن يقع بين عولمتين أصيلة وزائفة، فالزائفة هي التي تسعى للاصطناع والفبركة في القيم من أجل الوصول لغاياتها الربحية وتحقيق مشاريعها المادية، وأما الأصيلة فهي التي تأتي منسجمة مع النصوص التأسيسية للأديان وتكون قيمها عالمية وكونية. ومن أهم هذه القيم يذكر العوني الحياة والكرامة والحرية والمساواة والعدل والأخوة الإنسانية والأمن، ويتجلى عمق التسامح في الإسلام بعدم قبوله لأي شخص فيه إلا إذا كان مؤمنا بجميع الأنبياء والمرسلين، مما يعني أنه يحترم كل الأديان التي أتوا بها، ولذلك يقول علي عزت بيغوفيتش "إن الإسلام لم يأخذ اسمه من قوانينه ولا نظامه ولا محرماته، ولا من جهود النفس والبدن التي يطالب بها الإنسان،... إنه استسلام لله والاسم إسلام".
ومن وجهة نظري أرى أنَّ الواجب على الأمة أن تعمق جذور الوعي في كل معتنقي الدين بنقاط الالتقاء المشتركة بدءًا من القواسم الإنسانية ثم الجذور الدينية المتصلة بين الأديان ووصولاً للقيم الأخلاقية العالية التي تتيح للجميع التفاعل مع كل البشر بما يخدم الحفاظ على كرامتهم وما يجر النفع لهم في حياتهم الدنيوية.
