أسماء عبدالله القطيبي
في مقاله «ثورة الزنج وثورات القرامطة..الشعبويات والتفسير الاجتماعي» يناقش الأستاذ رضوان السيد، ثورات الزنج والقرامطة في فترات الخلافة الأموية والعباسية متناولاً إياها من جانب اجتماعي نظرًا لتشابهها في نواحٍ عدة، محاولا تحديد الأسباب التي أدت لظهور هذه الثورات، وكيف حصلت على التأييد، والأسباب التي أدت إلى إلى انتهائها بعد سنوات من النضال الشعبوي، مستأنسا بآراء المؤرخين والمستشرقين، ولعل هذا النقاش الذي يطرحه الباحث في هذا المقال مما يمكن إسقاطه على بعض الثورات في العصر الحديث، باختلاف أهدافها وعناصرها.
يبتدئ المقال بالحديث عن ثورة الزنوج التي وقعت إبان فترة الحكم العباسي، وتمركزت في مدينة البصرة العراقية، وامتدت لما يُقارب خمسة عشر عاما، حيث قاد هذه الثورة شخص اسمه علي بن محمد يدعي أن له صلة نسب بالنبي الكريم، أما سبب تسمية هذه الثورة بثورة الزنج فهي اشتراك عدد كبير من العبيد ذوي البشرة السمراء القادمين من شرق أفريقيا فيها، بالإضافة إلى الأعراب وغيرهم من المعدمين ساكني الريف.
ويمكن ببساطة أن نقول بأن هذه الثورة كانت احتجاجا على الأوضاع المعيشية الصعبة لهذه الجماعات من الناس – كما يذكر بعض المستشرقين في كتاباتهم- لكن المتتبع لما كان يقوم به الثوار في المدن التي يستولون عليها -مستغلين فترات الاضطراب السياسي- من نهب وسرقة واستعباد يقف موقف الشك في أن تكون أهداف هذه الثورة هي المطالبة بالعدالة الاجتماعية، خاصة وأن قائد هذه الثورة كان شخصا متلوناً في أقواله حتى أن المصادر تقول إنه غير أقواله فيما يتعلق بنسبه أربع مرات. ويذكر كاتب المقال بأن هذه الثورة لم تكن تهدف إلى المطالبة بالتغيير بل إلى إرضاء الرغبات المادية كاسترقاق الناس، وكسر سلطان الدولة، وردة فعل تجاه العمران أو المدنية، واحتقار عادات المجتمع المتمدن وانضباطاته. وهو ما أجده تفسيرا جديرا بالتنويه، فهو يدل على رؤية تاريخية شاملة لأحوال الفئات المشاركة في الثورة؛ فالأعراب مثلاً بعد فترة الخلافة الرشيدة كانوا كثيرا ما يسعون للتخريب وافتعال الاضطرابات، لكونهم يجدون في مظاهر المدنية مصدر تهديد لهم ولسلطتهم التي كانت لا تعلوها سلطة. ويستبعد أن يكون السبب دينيا، أو على الأقل أن يكون الدين هو المحرك الرئيس، رغم أن قائد هذه الثورة طويلة المدة كان يصبغ الأمر بصبغة دينية فادعى أنه رسول من الله وادعى أنه المهدي في فترة ما، وأمر أتباعه بدفع الخراج، بينما في الحقيقة لا يعدو أن يكون قائد حركة مسلحة لا أكثر. أو لعل ثورة الزنج قد ابتدأت بمطالب مشروعة وأهداف محددة لكن تعدد الأطياف فيها، والأطماع، وطول المدة جعل الثورة تنحرف عن مسارها واستخدم فيها القوي الضعيف لتحقيق أهداف خبيثة تحت شعارات براقة. وهو ما يمكن ملاحظته في كثير من الثورات أو التنظيمات التي تكون ذات أهداف دينية أو اجتماعية في البداية ثم إذا احتشد النَّاس حولها وحصلت على التأييد تغيرت أهدافها وبانت نوايا بعض مؤسسيها.
أما ثورة القرامطة فهي ثورة ذات توجه ديني واضح، وسميت بذلك نسبة إلى حمدان بن الأشعت، أحد أوائل قادتهم، والذي كان يلقب بـ(قرمطه) أي قصير القامة، وقد امتدت حركة القرامطة المنشقة عن الدولة الفاطمية من العراق والشام، إلى البحرين واليمن. ومن أبرز مظاهر عقائدهم أنهم كانوا يأخذون ما يسمى بالبلغة دون الزكاة، واعتمدوا نظام إلغاء الملكية الخاصة وتكفل الجماعة بتوزيع الأموال بين الأتباع وحفظ الباقي لشراء السلاح والعتاد. كما بنوا ما يعرف بـ"دور الهجرة" كمؤسسات إدارية لجماعتهم.
أما أشهر حوادثهم بلاشك هو قيام قرامطة البحرين بالاعتداء على الحرم المكي وقتل ما يزيد عن ثلاثين ألف شخص كما تذكر المصادر، واقتلاع الحجر الأسود، حيث لما يُعيدوه إلا بعد اثنتين وعشرين سنة كاملة لمكانه من الكعبة المشرفة. ومقارنة بثورة الزنج، فإنَّ ثورة القرامطة أكثر تعقيدا، والحوادث فيها متداخلة، كما أنها مرت بمراحل عديدة وتصادمات قوية مع السلطة. لكن المُلفت بالنسبة لي النظام الاشتراكي الذي أقره القرامطة في تقسيم الثروات، وكيف تدرجوا في ذلك، حيث استبدلوا الزكاة بما يسمى الفطرة ثم البُلغة، ثم أمروا بدفع الخمس قبل أن يستقروا على نظام الاشتراكية الذي يتيح للدولة التصرف في أموال الناس. فلولا هذه التهيئة لما كان هناك استعداد وتقبل من الأتباع –مهما بلغ ولاؤهم للجماعة- على هذا القرار الذي لم يسبقهم به أحد في المنطقة. وحول ثورة القرامطة يطرح الأستاذ رضوان السيد العديد من الأسئلة عن هذه التجربة المتفردة، فالحركة القرمطية تشبه الدولة الفاطمية في سريتها، وتشبه الحركات الباطنية كالإسماعيلية في تدينها، لكنها في المجمل لم تشبه أيا من التجربتين فهل استفادت هذه الثورة من تجارب خارج محيط المجتمع العربي والإسلامي؟ أم أن توسع رقعتها وتبدل قادتها جعل منها ثورة شابة متجددة؟ كما يحذر الباحث من تفسيرات المستشرقين فيما يتعلق بهذه الثورة كونهم يصورون أتباع الثورة على أنهم مجموعة من الجهلة المنقادين، بالإضافة إلى كثير من الأخطاء يسببها ضعف جهلهم بالتاريخ ومدى اختلاط الأعراق في الأرياف العربية؛ فهم يسقطون غالبا الأسباب الاجتماعية نفسها على كل الثورات التي تحصل في الشرق كالفقر وغياب العدالة الاجتماعية، بغض النظر عن خصوصية المجتمع وحمولته الثقافية والاجتماعية. وأخيرا فإن مما يشد انتباه الباحث في هذه الثورات أن تأثيرات الجماعات التي حركتها ما زالت باقية إلى اليوم في بعض الأمصار، مما يعني توغلها في المجتمع وشعبويته وتأثيرها القوي؛ فالثورات لابد أن تنتهي –وإن طالت- أما الفكرة والأثر فيبقيان في ذاكرة الشعوب.
