تأثير الثورة المعرفية في إنجاز مخططات العولمة

محمد بن علي الكمزاري

تُعتبر العولمة حدثًا كونيًّا له بعده الوجودي، إنها ظاهرة جديدة على مسرح التاريخ، أوجدت واقعاً تغير معه العالم عما كان عليه بجغرافيته وحركته، بنظامه وآليات اشتغاله، بإمكانياته وآفاقه المحتملة خصوصا في ظل تطور قنوات الاتصال الثقافية المشتركة الناتحة عن انتشار التيار الثقافي والرغبة في زيادة مستوى معيشة الفرد والتمتع بالمنتجات والأفكار الأجنبية، واتباع الوسائل والأساليب التكنولوجية الحديثة والمشاركة في الثقافة العالمية.

إنَّ العولمة هي إضفاء طابع العالمية على الشيء، أي جعل الشيء أو تطبيقه عالميا، وقد قرر مجمع اللغة العربية استعمال مصطلح العولمة بمعنى جعل الشيء عالميًّا، بينما يبقى المصطلح متداولًا لدى العامة بمعنى جعل العالم واحداً، أي يعمل في إطار حضارة واحدة، ومن ثم فإننا ننعم بمواطنة وحقوق عالمية.

وهذا ما سنتناوله في مقالنا هذا الذي يأتي ملخصا لمقال الدكتور ياسر قنصوة أستاذ الفكر السياسي بجامعة طنطا؛ حيث أوضح في مقاله المعنون تحت "العولمة والشعوبيات ومصائر الديمقراطية وحكم القانون في الغرب"، أنه وبرغم أن العولمة أخذت اتجاها اقتصاديا في بداية ظهورها، إلا أنَّ التطورات التكنولوجية العالمية قد نحت بها إلى طرح قضية العولمة في أنساق أخرى كالمعلوماتية والتجارة الإلكترونية؛ بحيث صار بوسع المستفيدين الحصول على المعلومات من أي مكان في العالم عبر استثمار تكنولوجيا الاتصال الحديثة من خلال شبكة الإنترنت، والتي أصبحت تمثل نموذجا عالميا مثاليا للعولمة المعلوماتية يتاح للأفراد التواصل دون أي عوائق بينهم؛ مما يسمح بالتداول الحر للمعلومات. ومن هنا، تبدأ الأهمية الحقيقية للعولمة المعلوماتية؛ حيث جاءت العولمة في مناخ شهد ثورة معرفية عارمة في المجال التكنولوجي والاتصالات، وارتفاع وتيرة الدعوة إلى ثفاقة عالمية لها مفاهيمها ومعاييرها، بهدف ضبط سلوك الدول والشعوب.

إنَّ حجم المعرفة العلمية قد تضاعف مئات المرات عما كان عليه في السابق بفضل تكنولوجيا المعلومات التي تعتبر عاملاً محفزاً في مشروع العولمة؛ حيث توفر تكنولوجيا المعلومات شبكة اتصال تسهل وصول السلع والأفكار والموارد إلى جميع الأفراد والدول بغض النظر عن أماكن التواجد الجغرافي. فهذه التكنولوجيا تستولد قنوات أثبتت فعاليتها في مجال تبادل المعلومات وأصبحت المحرك الأول لتحقيق الاندماج العالمي.

ومما تجدر الإشارة إليه أنَّ الاعتماد على التقدّم الهائل في المعلوماتية ووسائل التقنية الحديثة، مع تفعيل الروابط بمستوياتها المختلفة على الساحة العالمية المعاصرة، كان سببا في تحديث الموقف العولمي؛ حيث أصبح يتجاوز الحد الصناعي أو الاقتصادي ليشمل ما هو سياسي وثقافي واجتماعي وتربوي، ومن ثم يمكن أن يصل إلى ما يسمى "توحيد الوعي العالمي"، وفي إطار تفعيل تكنولوجيا الأفكار لتشكل ما يسمى "العقل العالمي"، وما يرتبط بها من وسائل وإمكانيات أعادت تشكيل طريقة تفكيرنا على نحو كلي وشامل. ولعلها صياغة جديدة لمقولة ديكارت: أنا أفكر إذن أنا موجود؛ لكن أي نوع من التفكير، وأي صورة من الوجود في السياق العولمي؟ إنه التفكير القائم على حصر المعرفة في نطاق الممارسة الجماعية لتبادل المعلومات عبر الإنترنت. لكن إتاحة المعلومات على هذا النحو تعكس تقدما مؤكدا وفي الوقت نفسه تعد تدميرا لكل قدراتنا الذهنية الخلاقة في استخلاص المعلومات عبر وسائل بحثية تجريبية تنمي وعينا الإنساني، وتعكس قدراتنا على البحث والتحليل والتفكير الناقد. وفي هذه الحالة، فإن وجودنا المرتبط بقدرتنا على التفكير يظل مرهونا بلمسات أصابعنا على شاشات هواتفنا الذكية، وعند الدخول إلى شبكات الإنترنت للوصول إلى أسرع الطرائق للمعرفة، لم يحدث في التاريخ أبداً أن سَمع وعرف عدد هائل من سكان المعمورة عما يجري في باقي أنحاء العالم من أحداثٍ كما هو اليوم. إن تقارب الشعوب وتلاقح الثقافات وتداخل الحضارات بفعل وسائل الاتصال والتواصل الحديثة والمتطورة أدى الى تقارب العقول وتشابه التفكير -ولو بشكل تدريجي- إلى الدرجة التي نستشعر معها أن البشرية تتجه نحو عقل عالمي موحد تذوب فيه مسميات كثيرة أمثال ؛ العقل العربي في مقابل العقل الغربي، والعقل الإسلامي والمتدين عموماً في مقابل العقل العلماني أو التنويري.

فالعقل الموّحد بدأ يفرض سيطرته، ويمدّ أجنحته على العالم وكلّما تشابهت مبادئ العقول وأدوات معالجتها كانت النتائج والمخرجات واحدة بمعنى أن البديهيات والمسلمات والمشهودات التي بدأنا نشاهد تطابقها عند أكثر الشعوب والمجتمعات البشرية. هذا سيؤدي بالتالي إلى تقارب نفس الاستنتاجات وبالتالي سنحصل على عقل عالمي واحد لا يختلف كثيراً باختلاف المناخ والجغرافيا وأصوله الحضارية والأيدولوجية.

فهذه الثورة المعرفية أسهمت بشكل أو بآخر في إنجاز مخططات العولمة؛ من خلال إمكانية وصول الفرد بشكل أفضل لشتى صور التنوع الثقافي (من خلال ما يتم مشاهدته في أفلام "هوليوود" و"بوليوود" على سبيل المثال). ولكن من ناحية أخرى، يعتبر البعض أن الثقافة الواردة إلينا من الخارج (أو ما تسمى بالثقافة المستوردة) تمثل خطرًا كبيرًا مع احتمال أن تحل محل الثقافة المحلية، مما يتسبب في حدوث انخفاض في معدلات التنوع واستيعاب كل ما هو جديد من الثقافات بشكل عام. على الجانب الآخر، يعتبر آخرون أن العولمة الثقافية أمر مفيد من أجل تعزيز السلام وسبل التفاهم بين الشعوب.

إننا نعيش عصر تحولات عولمية صاخبة وصارخة، قد يراها البعض تحولاً ثورياً إيجابياً، يقيم بنية عالمية جديدة أكثر مساواةً وعدلاً بين البشر؛ لكن المؤشرات والنتائج تنذر أكثرية بلدان العالم بقدوم التفكك لا التوحد، والانهيار لا البناء، وأخيراً السقوط في هوة الجهل بمآل هذه التحولات في المستقبل القريب حيث يكشف وجه العولمة التكنولوجي الماثل في توقف الحوار الإنساني عن عزلةٍ إنسانية مثيرة للشفقة والألم؛ فالعزلة مع تجوال التصفح في شبكة الإنترنت التي لا تتيح لنا معلومات فحسب بل تجعلنا معزولين معاً اجتماعياً في عالم واحد، يعبر عنه تواصلٌ افتراضي يصطنع عالماً موهوماً.

أخبار ذات صلة