الفلسفة العربية المعاصرة بين البناء والتفكيك

ناصر الكندي

ينطلقُ المفكِّر المغربي سعيد بنسعيد العلوي، في مقاله المنشورة بمجلة "التفاهم"، تحت عنوان "التنسقية والنقدية في الفكر الفلسفي العربي المعاصر"، عن فرضيتيْن اثنتيْن؛ الأولى: أن الحديث عن الفكر الفلسفي في المغرب المعاصر هو بالضرورة حديث في الفكر العربي المعاصر من حيث الإشكالات والقضايا العامة لهذا الفكر، وثاني الفرضيتين: أنَّ الإشكالية العامة التي ما فتئ الفكر العربي المعاصر يحوم حولها هي تلك التي تتعلق بتأخر العرب في مقابل تقدم الغرب.

ويشير المفكر العلوي إلى أنَّ الخلاصة العامة في الفكر العربي المعاصر تتمثل في اتجاهين؛ الأول: ظهوره كفلسفة بدأت فعليا في عشرينيات القرن العشرين وليس في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، مشبها ذلك بطائر "المنيرفا" الذي لا يغرّد إلا عند نهاية اليوم وقدوم المساء. أما الاتجاه الثاني، فإن الخطاب الفلسفي العربي المعاصر سلك مسلكيْن على الإجمال: المسلك الأول المتمثّل في التنسيق والتركيب، أي أظهر ميلا إلى الانتساب إلى نسق فلسفي من الأنساق الكبرى، إما في مجال الفلسفة الحديثة أو الفلسفة المعاصرة، ويقدم العلوي كمثال على هذا المسلك الفيلسوف المغربي طه عبدالرحمن. أما المسلك الثاني الذي سلكه الخطاب الفلسفي العربي فهو المنحى النقدي، ولا يعني به إحالة إلى كانط ومذهبه النقدي، وإنما النقد من حيث أنَّه سمة تلازم كل قول فلسفي أصيل، ويمثّل هذا المنحى الفيلسوف المغربي عبدالسلام بنعبد العالي.

وقبل أن يتطرَّق المفكر العلوي إلى هذين الفيلسوفين، فإنه يقوم بمزيد من التوضيح للخلاصة العامة المذكورة أعلاه في ثلاثة أمور؛ الأول: يقضي بأن الفلسفة الغربية أخذت ما يقارب أربعة قرون للوصول إلى الفلسفة المعاصرة؛ إذ ابتدأت بالديكارتية والتجريبية، وصولا إلى الوضعية المنطقية والوجودية والشخصانية... وغيرها، في حين ظهرت التيارات الفلسفية في الفكر العربي المعاصر بفترة زمنية وجيزة لا تتجاوز ثلاثة عقود، ويمكن القول إنها انبثقت دفعة واحدة. الأمر الثاني هو غياب الاستمرارية في كل محاولات تشييد فلسفات عربية ديكارتية ووضعية منطقية ووجودية في الفكر الفلسفي العربي، وظلت جميعها دون وريث يحملها بعد رحيل الاسم الذي ارتبط بظهورها؛ مثل فيلسوف الجوانية عثمان أمين، والوجودية عند عبدالرحمن بدوي، والوضعية المنطقية عند زكي نجيب محمود... وغيرهم.

أمَّا الأمر الثالث، فقد تبدَّى في أن جمهرة من الفلاسفة العرب المعاصرين جعلوا من التراث العربي الإسلامي مجالا فسيحا لممارسة فعل التفلسف؛ وذلك بسلوك أحد أنحاء ثلاثة: الأول تجريب تيار فلسفي محدد يستمد من الفلسفة الحديثة في قراءة التراث؛ مثل: محمود قاسم في قراءة ابن رشد، وطه حسين في قراءة الشعر الجاهلي، باستخدام الشك الديكارتي. ويقوم المنحى الثاني على اجتهاد أصحابه في العثور من التراث الإسلامي على ما يدعم رؤاهم، مثلما قام زكريا إبراهيم بعقد مقارنة بين كيركغارد وأبي حيان التوحيدي كمثال للقلق والغربة في العالم، وعبدالرحمن بدوي في كتابه "شخصيات قلقة في الإسلام"، وتسابقهما على فكرة أسبقية مفكري الإسلام في القول بنظرية علمية أو فكرة فلسفية. أما المنحى الثالث، فيكون من خلال طرح سؤال عن إشكال النهضة ومسألة التحديث: كيف يكون لنا أن نقرأ تراثنا العربي الإسلامي على نحو يُسعِفنا في الإجابة عن أسئلة يطرحها الحاضر؟ ويمثل هذا التيار حسن حنفي ومحمد عابد الجابري.

وفي تقديمه لفيلسوف التنسيق طه عبدالرحمن، يشير المفكر بنسعيد العلوي إلى أنَّ الإحاطة بفكر عبدالرحمن ينبغي أن يكون بالعودة إلى كتبه؛ مثل: "روح الدين" و"بؤس الدهرانية" و"الحوار أفقا للتفكير"، ويؤكد العلوي أنَّ طه عبدالرحمن ينطلق في فكره النسقي من جوف اللغة ومنطقها، وهو هنا يريد أن يشير إلى أنَّ اللغة لها دلالاتها المحددة ونسقها الخاص. ويلفت المفكر المغربي إلى أن الأخلاق هي هاجس طه عبدالرحمن الأكبر في فلسفته التي يشيدها بإحكام، خاصة موضوع فصل الأخلاق عن السياسة الذي يختلف عن باقي الفصل الذي حصل في الحداثة؛ مثل: فصل الدين عن السياسة والفن والقانون... وغيرها. ويستخدم طه عبدالرحمن المصطلحات بدقة مثل الحداثة والدهرانية  والدنيانية والعَلمانية بفتح العين والعِلمانية بكسر عينها.

وتقوم فلسفة طه عبدالرحمن بالمقاربة بين الدين والسياسة ضدا للحداثة، فهو هنا يقوم بوصل ما فصلته الحداثة بالتعمق في مصطلحات اللغة، والمقاربة التي يطرحها الفيلسوف هي مقاربة روحية عمودية وليست أفقية حداثية. ويؤكد صاحب الفلسفة الائتمانية أن الحداثة بنظرتها التي تفصل بين الممارسة الدينية والممارسة السياسية لا يمكن العيش فيها إلا في عالم واحد، إلا أن فيلسوفنا يقرّ بإمكانية حياة الإنسان في عالمين اثنين على الأقل أحدهما مرئي والثاني غيبي.

وبالإقرار بوجود عالميْن؛ فهناك أيضا ممارستان مغايرتان: الأولى تسمى بالتشهيد وهي استحضار العالم الغيبي إلى العالم المادي، والثاني يسمى بالتسييد وهي الارتقاء بالعالم المرئي إلى الغيبي. وهو هنا يُشبه موضوع الفطرة في الأولى أو التذكر الأفلاطوني. وبما أنَّ العلماني هو الذي يفصل بين الدين والسياسة، فإنَّ مفهوم الدياني -وفقا لفيلسوف الائتمانية- هو الوصل بينهما، ولكن وفقا لعدة مراتب: أهل التسييس وأهل التحكيم وأهل التفقيه وأخيرا أهل التزكية أو العمل التصوفي الذي يعد أصفى طرق الوصال بين الدين والسياسة.

ويفرد المفكر المغربي بنسعيد العلوي فصلا أخيرا يتحدث فيه عن الفلسفة اللاتنسقية النقدية المتمثلة بالفيلسوف المغربي بن سعيد بن عبد العالي؛ فالفلسفة عند عبدالعالي هي الكشف عن إرادة الهرب من التنسيق، ويستند في ذلك إلى دعاة تدمير النسق مثل نيتشه وسيوران وغيرهم، ويدعو عبدالعالي إلى تلمّس الفلسفة في الحياة اليومية بعيدا عن حذلقة الأنساق والمذاهب المقفلة؛ وذلك ما يعبر عنه في كتابه "الفلسفة فنا للعيش"، ويعطي عبدالعالي مثالا تذكّريا لفلسفته من خلال هيدغر حين يشير إلى مثاله عن التائه في أرجاء غابة متشابكة الأشجار؛ إذ يتحايل عبر وضع علامات للطريق التي يحذر نفسه من سلوكها طريق البناء والتركيب. وهنا يدعو عبدالعالي إلى الحذر من مغبَّة السقوط في خطأ الأنساق والنماذج التي تحجر العقل ويدعو إلى فلسفة للعيش في اليومي.

أخبار ذات صلة