الظاهرة الدينية بين اللاهوت وعلم الأديان

فيصل الحضرمي

تعُود جذور الفصل  بين المقاربتين اللاهوتية والعلمية للظاهرة الدينية إلى عهد الثورة الفرنسية 1789؛ حيث بدا واضحاً أنَّ نجاح الثورة مرتهنٌ بالاستحواذ على المواقع الأكاديمية، وتغيير المناهج التعليمية، وصولاً لفرض سلطة العلم. وفي مقاله المنشور بمجلة "التفاهم"، تحت عنوان "نظرية الديانات العالمية عند علماء الدين الغربيين"، يُلقي الكاتب التونسي عز الدين عناية الأستاذ بجامعة روما، المزيدَ من الضوء على منهجي اللاهوت وعلم الأديان في تناول الظاهرة الدينية، متسائلاً عن وجاهة استمرار الفصل بين هذين المنهجين، وسبل تحقيق التكامل بينهما؟!

وبحسب الكاتب، ثمَّة تقليدان اثنان للمقاربة العلمية للدين؛ أحدهما ألماني يحمل اسم "علم الأديان"، والآخر فرنسي يحمل اسم "العلوم الدينية"، وقد تزامن مع إغلاق الدولة الفرنسية لكليات اللاهوت التابعة لها، واستحداثها قسماً للعلوم الدينية في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا في ثمانينيات القرن التاسع عشر. وفي كل الأحوال، فإن المقاربة العلمية للظاهرة الدينية لا تتوخى التحقق من صحة المعتقدات الدينية، وإنما تتخطى ذلك إلى دراسة الاعتقادات والشعائر الدينية دراسةً مورفولوجية، وتعيين وظائفها، والتعرف على آثارها وتحولاتها، بهدف استخلاص ما ينتظمها من قواعد عامة.

ضمن هذا السياق، انطلقت المحاولات المبكرة لبناء نظرية عامة للأديان، تنأى بنفسها عن المطب الميتافيزيقي، وتتحرى فهم المقدس وتفسير ظواهره بأدوات المنهج الواقعي الاختباري. إلا أنه لمقاربة الدين بمنهجية علمية كان لزاماً أولاً تعريفه، وتحديد جوهره. هكذا سعى علماء الاجتماع إلى دراسة الخصائص التي تمثل جوهر الدين، الثابت عبر مختلف الأزمنة والسياقات التاريخية، وتحليل وظائفه الاجتماعية، بقصد الوقوف على معناه وجدواه. ويتم ذلك عبر تتبع الخيارات الدينية لشخصٍ من الأشخاص، وما يقوم به من أنشطة يعتبرها هو نفسه أنشطةً دينيةً. إلا أن هذا التعريف الوظيفي للدين تكشف عن نقائص عدة؛ منها اختزال الظاهرة الدينية في شيء مغاير عن حقيقتها، وتوسيع الحقل الدلالي بحيث يصعب التمييز بين الطقوس الدينية وغيرها من الطقوس غير الدينية.

والحديث عن الظاهرة الدينية يقود إلى الحديث عن مبحثٍ أعم هو "الظواهرية الدينية"، الذي تعود بداياته إلى عام 1887؛ باعتباره الإطار الأشمل لتحليل الظواهر. إن مقصد الظواهرية لا يقتصر على دراسة العيني، الملاحظ ظاهرياً، بل يتعداه إلى محاولة سبر غور الظاهرة ومضمونها. من هنا نشأ عن هذه الرؤية نوعان من الظواهرية: "الظواهرية الدينية الوصفية"، و"الظواهرية الدينية الفهمية"؛ إذ لا يكفي رصد الظاهرة ووصفها من الخارج، وإنما ينبغي الولوج إلى صلبها،  بغرض تأويلها وتحديد معناها.

ويُشير كاتب المقال إلى التطور الذي شهدته دراسة الظاهرة الدينية. فبعد أن كان عالم الدين الكلاسيكي يصبغ على الظاهرة الدينية صفة القداسة، ويرجعها إلى قوة مفارقة، بات عالم الدين الحديث يتناول الظاهرة الدينية باعتبارها واقعة دنيوية منزوعة القداسة. واليوم، هناك ثلاثة مستويات لدراسة الظاهرة الدينية وفق المناهج الحديثة لدراسة الدين. يتمثل المستوى الأول في بحث الظاهرة الدينية فيلولوجياً؛ أي باستخدام علم تحقيق النصوص، وذلك عبر تناول كل تقليد ديني على حدة، وتحليل الوثائق الخاصة به مكتوبةً كانت أم شفهية. ويتمثل المستوى الثاني في توظيف منهج المقارنة بين التقاليد الدينية المختلفة. أما المستوى الثالث، فيتمثل في فحص الظاهرة الدينية بعدسة العلوم الإنسانية والاجتماعية الأخرى، كعلم الاجتماع، وعلم النفس، وعلم الإنسان أو الأنثروبولوجيا... وغيرها.

وفي إطار المستوى الثالث، يستعرض عز الدين عناية، أهم الأطروحات التي حاولت تفسير الظاهرة الدينية من منظور عقلي غير إيماني. من هذه الأطروحات "قانون الأطوار الثلاثة" لعالم الاجتماع الفرنسي أوغست كونت، ومفاده أن أي تصور بشري، مهما كان نوعه، يمر بثلاثة أطوار: الطور اللاهوتي/الخرافي، والطور الميتافيزيقيي/المجرد، والطور العلمي/الوضعي. وبذا ينظر كونت إلى الظاهرة الدينية؛ باعتبارها تمثل التصور البشري للوجود في طوره الأول.

والأطروحة الثانية هي فكرة "الكائن المتدين"؛ فقد أوضح العالم إدوارد بيرنت تيلور مؤسس علم السلالة الحديث، وبالاستفادة من مصطلحات "الأرواحية" Animisme، أن الإنسان البدائي يسقط تصوره لذاته على الأشياء من حوله، معتقداً أنها هي الأخرى حيةٌ مثله. ويرى تيلور أن هذه الأرواحية هي العامل الأول وراء أي ابتداع ديني، وأنها أصل مفهوم "المقدس". ويذهب العالم ويلهالم ووندت في نفس الاتجاه، مبيناً أن فكرة الألوهية تصعيدٌ للفكرة القائلة بوجود روحٍ مبثوثة في الكون، وأنها تشكلت عبر سيرورة ثقافية بطيئة مرت بثلاث مراحل، بدءاً من الأرواحية البدائية، ومروراً بعبادة الأسلاف، وانتهاءً بعبادة الآلهة.

بعد ذلك، يقابل كاتب المقال بين علم اللاهوت -أو "العلوم الشرعية" بحسب التسمية الإسلامية- وبين علم الأديان، منوهاً إلى الفروقات بينهما؛ فعلم اللاهوت "على صلة بلحظةٍ مفارقةٍ غير تاريخية، تعبر عن وجهة نظر المؤمن الداخلية"، ويتمحور اهتمامه حول فهم الدين وشرحه، ودراسة إشكالياته الفقهية والتشريعية. بينما يهتم علم الأديان بدراسة المعتقدات المختلفة للبشر، بقصد العثور على ما هو مشترك وعام فيما بينها، و"الإحاطة بالكوني الكامن في المحلي أو المنعزل"، و"إماطة اللثام عن الجوهري المتخفي بالعرضي". وبتعبير آخر، فإن علم الأديان هو الدراسة القائمة على إخضاع التجربة الدينية لمجموعة من الضوابط والقواعد المستعارة من العلوم الاجتماعية والإنسانية.

وفي خاتمة المقال، يناقش عز الدين عناية آفاقَ التكامل بين اللاهوت وعلم الأديان. فرغم التمايز الكبير بين وسائل وأهداف كل منهما، إلا أنَّ ذلك لم يمنع علماء الدين الغربيين من بناء لاهوت مسيحي ذي نزعة علمية. ويأتي أرنست ترولتش في مقدمة هؤلاء العلماء؛ حيث طرح تساؤلاً مهمًّا عن سبب تفرع الرسالة الأصلية للمسيح إلى أشكال تنظيمية متباينة، وعن تحول وحدة كلمة يسوع الحية إلى تعددية في الأشكال الدينية. وخلص ترولتش إلى أن جوهر المسيحية يُمكن التعرف عليه إذا ما قوربت بمنهجية تاريخية وسوسيولوجية. كما افترض بيار جيزال أستاذ اللاهوت المنهجي في جامعة لوزان، إمكانية التكامل بين المنهجين؛ بشرط أن يتم ذلك دون "تعالي طرف على آخر"، ما دام لكلٍّ منهما تاريخه الخاص به، بل وإبستيمولوجيته -بنيته المعرفية- المميزة، أحياناً.

أخبار ذات صلة