أنسنة التكنولوجيا

عاطفة المسكرية

ارتفع استثمار المؤسسات المهتمة بالتكنولوجيا لتضع أحد أكبر مُخصَّصاتها تذهب لدراسته، وفهم ماهيته وآثاره والتنبؤ بمستقبله. ويُعد ذلك أمرا طبيعيا أمام ثورة التكنولوجيا التي لم تتخذ شكلا ثابتا منذ أن بدأت، بل هي في حركة مستمرة نحو التطور لتلامس كافة الجوانب الحياتية. بدأت كتكنولوجيا الأداة حتى أُدرِجت إليها كافة الامتيازات الذكية لتنتج لنا أجهزة "التكنولوجيا الذكية".

ويُناقش محمد بالراشد أستاذ علم الاجتماع بجامعة منوبة بتونس، في مقال له بعنوان "العقول الذكية وعبودية الآلة والمصائر الإنسانية بين الرأسمالية والشمولية"، التكنولوجيا بشكل عام والتحولات التي أحدثتها في حياة البشر.. ويستهل مقاله بطرح التساؤل حول التحديات التي من المتوقع ظهورها من تنامي التكنولوجيا من جانب، دون تنامي التفاهم بين الشعوب والاختلافات فيما بينهم من جانب آخر. إنَّ التنامي التكنولوجي حقيقة أدى لخلق هاجس التوازن بين أنسنة التكنولوجيا أو تقننة أو أتمتة الإنسان. بمعنى إمَّا أن يحمل الإنسان قيمه ويرغمها على الحضور وسط التطور التكنولوجي المرتبط بالرأسمالية التي لا تعترف بالقيم الإنسانية في قائمة أولوياتها، أو أن يسمح بالتطور المتسارع متجاهلا القيم البشرية التي تحفظ الإنسان كهدف لا كأداة. إن الخيار الثاني يوجه المجتمع نحو التركيز على الاستهلاك والمظهر بعيدا عن الجوهر. يعد الجانب الإيجابي في التطور التكنولوجي أن الخيار متاح للبشر فإما أن يخرجوا من وسط الزوبعة رابحين أم مشتتين ومتفرقين.

يطرح أستاذ علم الاجتماع دور التكنولوجيا والحداثة الرقمية في خلق انحياز ديني وعرقي بشكل سلبي! على الرغم من أنَّ المعطيات الواقعية تشير إلى شيء آخر. أصبح الوعي الجمعي عاليا نوعا ما لدى بعض المجموعات فيما يتعلق بالأجندة الحقيقية خلف هتافات الانشقاق الديني والسياسي. أصبحت المجموعات داعمة لقضايا بعضها البعض في مختلف بقاع الأرض، وبعيدا عن توجهات حكوماتها في بعض الأحيان. يرتفع التأييد الجمعي لهذه القضايا كلما طرحت بشكل يلامس الجانب الإنساني. يعود الأستاذ لمناقشة الفرص والتحديات التي خلقتها التكنولوجيا للشباب والأطفال في الزمن الحاضر؛ حيث يعد الألمان هم أول من استخدموا التكنولوجيا في القرن الثامن عشر، وتوالت استخداماتها بعد ذلك بين مختلف الشعوب. إنَّ الإنسان بطبيعته كائن متعدد الذكاء؛ بالتالي استطاع تلبية احتياجاته بعدة طرق ولا غرابة في أن يتم تقسيم العصور بناء على إنجازاته "العصر البرونزي والحديدي والنحاسي... إلخ"، وطالما أن حاجة الإنسان مستمرة، فسعيه نحو تلبية احتياجاته مستمر كذلك. ويتجلى ذلك في هيمنة التكنولوجيا على جميع مجالات الحياة تقريباً؛ فالطب نجده حاضرا عبر تقنيات العلاج "الضرورية" المختلفة وتقنيات الطب التجميلي الذي غالبا ما يصنف على أنه رغبة وليست حاجة ضرورية؛ فالخيار كذلك متاح هنا.

في المجال التعليمي، نجد بعض الدول لا تزال تنتهج نهجا تقليديا في أنظمتها التعليمية، بينما قطعت دول أخرى أشواطا هائلة في تطوير أنظمتها التعليمية لتتوافق مع معطيات التكنولوجيا والعصر الحالي. ولكن ما تشير إليه الظروف التي يمر بها العالم اليوم أن تطوير الأنظمة التعليمية وتحويلها لأنظمة إلكترونية مطلب لكل دولة تطمح للبقاء في المشهد العالمي ولا عزاء للمتأخرين. إنَّ تسارع الأحداث الأخيرة أدخل التكنولوجيا في كافة المجالات عنوة، فازدهر سوق التجارة الإلكترونية فجأة، وازداد الطلب على كل ما هو متوفر إلكترونيا، وفي سياق الخدمات الإلكترونية بشكل عام. وفي الجانب السياسي، نجد التكنولوجيا حاضرة وبقوة؛ حيث غيرت الصورة الكلية للانتخابات وسهلت عملية فرز الأصوات، وسهلت كذلك وصول المرشحين الى الناخبين. وتشير أدق التحليلات السياسية إلى دور التكنولوجيا في إيصال أبرز رؤساء وقادة العالم إلى مقاعدهم. ومن أبرز الحملات الانتخابية التي شهدت نجاحا صاخبا أسهم في إيصال صوت المترشح للناخبين حملة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما. فبجانب الكاريزما والعقلية التي كان يتمتع بها أحسن الفريق الذي كان مسؤولا عن حملته الانتخابية في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي آنذاك. ولكن من الجدير بالذكر في هذا السياق أن الأدوات التقليدية في الجانب السياسي لا تزال فعالة بل وضرورية في الترويج للعملية الانتخابية، وهذا ما لم يغفل عنه الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما. قام خليفته في الرئاسة دونالد ترامب باستخدام نفس الأدوات دون إغفال الأدوات التقليدية، وهذا ما أشارت إليه العديد من التحليلات كسبب لفوزه بمقعد الرئاسة وتقدمه عن نظيرته هيلاري كلينتون في ذلك الوقت، آخذين بعين الاعتبار الكاريزما المختلفة -بغض النظر عما إذا كان اختلافا إيجابيا أم سلبيا- التي تستهوي ثقافة الشعب الأمريكي. إن التكنولوجيا كانت في السابق أداة يتحكم بها الإنسان ويطوعها لتلبية احتياجاته بشكل أسهل وأسرع. قد لا نبالغ اليوم إن قلنا أنها تقود المجموعات البشرية نحو اتجاهات معينة مرتبطة بالتسابق على البروز وصناعة المحتوى ومحاولة التأثير وما إلى ذلك. ومهما تهرب البشر من هذه الحقيقة تفرض التكنولوجيا حضورها في جانب من جوانب حياته أبسطها الجانب العملي أو المهني. باتت الاجتماعات اليوم تقام عبر الشبكات وهذا ما يفرض وجود العالم الافتراضي وأهمية كوننا جزءا حاضرا فيه.

اليوم، لدينا كل هذه المعطيات التي خلقتها التكنولوجيا وأصبحنا نعي بالخيارات المتاحة لنا من كل جانب ولكننا لا نستطيع تجاهل التأثير التكنولوجي على الجوانب الاجتماعية والأسرية تحديدا. كون الأسرة اللبنة الأولى لتكوين المجتمع تعد سلامة تكوينها ضرورة ملحة من أجل الخروج بمجتمعات سليمة تكوينيا، وثقافيا وفكريا. ويبدو أن التكنولوجيا تصنع علاقات الكترونية غير تقليدية مثلها مثل المجالات الأخرى التي تدخلت فيها. ولكن ما مدى فاعلية هذه العلاقات والأسس التي تبنى عليها وهل ما يتم تداوله حول ضعف الروابط الأسرية بسبب التكنولوجيا صحيحا بالطريقة التي يتم وصفها والكيفية التي خرج الأمر فيها عن السيطرة؟ أم أننا ما زلنا نملك خيار التحكم ببناء علاقات صحية سواء على الصعيد الأسري والاجتماعي؟ إن المسألة التكنولوجية تتطلب مراجعة في كافة المجالات التي تعد التكنولوجيا جزءا منها وتتطلب مرونة تساعد على فهم التغيير وتوجيهه نحو خدمة البشرية وتوطيد الجوانب الإيجابية من التغيير.

أخبار ذات صلة