ناصر الكندي
يستعرض الباحث والأكاديمي المغربي "محمد الشيخ" في بحثه "في فلسفة الاعتقاد" المنشور في مجلة التفاهم مدى تعاطي الفلسفة وخاصة الحديثة مع فكرة الاعتقاد، ويطرح تساؤلات مثل هل شكّل الاعتقاد موضوعاً للنظر الفلسفي؟ ومتي حدث ذلك إن كان له أن حدث؟ وهل شكّل الاعتقاد مفهوما أساسيا من مفاهيم الفلسفة؟
يفتتح الشيخ بحثه بنفور المذاهب الوضعية في القرن التاسع عشر عن تناول هذا المبحث باعتباره موضوعاً مهملاً ومرجأ النظر فيه على الدوام، موضوعاً لا مكان له في مباحث الفلسفة. وبالعودة إلى المعاجم الكلاسيكية للفلسفة، نفاجأ بألا أثر له بين اصطلاحات الفلسفة الأساسية، ويظل المصطلح إن وجد مجرد تابع ينبغي جلبه إلى المركز. إلا أنَّ هذا الوضع تغير اليوم، فهناك العديد من المباحث صارت تعنى بالنظر بهذا المفهوم سواء كانت فلسفية أم لا، مثل سيكولوجية الاعتقاد وسوسيولوجيا الاعتقاد وأخلاقيات الاعتقاد وغيرها.
ويطرح الباحث سؤالاً عن سبب هذا الانعطاف نحو الاعتقاد؟ إذ ربما لاقتناع الإنسان المُعاصر بأنه بالأولى إنسان معتقد، ويقف مفكران وراء إشاعة هذا المفهوم وهما: عالم الاجتماع كرستيان سميث في كتابه "حيوانات أخلاقية معتقدة"، والصحافي العلمي ميخائيل شيرمر في كتابه "الدماغ المعتقد: من الأشباح والآلهة إلى السياسة والمؤامرات: كيف نكون المعتقدات ونرسخها حقائق في الأذهان".
كثير من المُفكرين تناولت كتاباتهم الاعتقاد مثل ديفيد هيوم الذي كتب فصلين عن الاعتقاد في كتابه "بحث في الطبيعة البشرية" 1739، والفيسلوف الألماني فريدريش هاينرش ياكوبي في كتابه "ديفيد هيوم والاعتقاد" 1787، والفيلسوف الأمريكي الشهير شارل بورس في بحثه "كيف يترسخ الاعتقاد؟" 1878، ونظيره الفيلسوف وليام جيمس في بحثه "إرادة الاعتقاد" 1897 وقبله "سيكولوجية الاعتقاد" 1889، والفيلسوف الألماني فيتغنشتاين في محاضرات متفرقة حول الاعتقاد الديني 1938.
ويفرد الباحث عدة لحظات تتراوح في ما قبل تاريخ مفهوم الاعتقاد ولحظة التأسيس لفلسفة الاعتقاد، وتبدأ اللحظة الأولى من بارمنيدس إلى ديكارت وأخلافه، ويصنفه بالتاريخ البعيد للمفهوم تتمثل في لحظة بارمنيدس – أفلاطون: الرأي والعلم/ الظاهر والباطن/ الوجود والعدم. ويدين بارمنيدس الرأي في قصيدته الفلسفية إذ من شأن الرأي أو الاعتقاد أن يتنزل عن الحق والثبات، وتستند مملكة الحق عند أفلاطون إلى أنموذج رياضي قائم على فكرة الضرورة والدوام، إلا أنَّ مفهوم الرأي لا يستمر دائما على الباطل إذ هناك ما يسمى بـ"الرأي السليم" يتوسط العلم الحق والجهل البيّن.
أما في اللحظة الثانية "لحظة أرسطو – ديكارت: الاعتقاد والحكم" فتختلف عن الأولى من ناحية "الاحتمال" إذ يقع في موقع بيني: بين ما هو حق بيّن وما هو باطل بيّن. فالرأي وسط بين الإحساس العابر والزائل العرضي والعلم الثابت الأكيد الضروري. وفي "لحظة التأسيس لفلسفة الاعتقاد عند ديفيد هيوم" يشير ياكوبي في محاورته "هيوم والاعتقاد" إلى أنَّ هيوم قد يكون أول من نظر لمفهوم الاعتقاد وأسبابه ومفعوله في الأهواء والخيال محدثاً بذلك تحوّلا جذريا في خط مسار المفهوم وذلك حين انتزعه من موضعيته الابستيمولوجية القديمة، بل حتى والحديثة مع ديكارت وإسبينوزا، ليقحمه ضمن مشروع انثروبولوجي بديل للمرويات الميتافيزيقية عن الإنسان.
ويؤكد هيوم في كتابه عن الطبيعة البشرية على صعوبة تفسير الاعتقاد وأنه أحد أكبر أسرار الفلسفة، ويستشكل هيوم المفهوم استشكالا أي ينظر إليه وفق المنهج الفلسفي وذلك بطرح سؤالين: ما الاعتقاد؟ ولماذا الاعتقاد؟ ويجيب هيوم عن السؤال الأول بأنَّ الفكرة التي نعتقد فيها تتميز عن الفكرة التي لا نعتقد فيها، فالفكرة التي نعتقد فيها تتوهج وفيها جانب لوني أشد من الأفكار الأخرى وبها درجة من القوة والحيوية. وبالتالي فإنَّ الاعتقاد لا يتعلق بطبيعة أو نظام أفكارنا، وإنما بالطريقة التي نتصور بها هذه الأفكار، بالطريقة التي يشعر بها الذهن بهذه الأفكار. والمبدأ العام الذي يؤمن به هيوم هو أن الانطباع لا ينعش في ذهننا الأفكار الملائمة له فقط وإنما ينقل معه إلينا قسمًا من قوته وحيويته وشدته وتوهجه.
وفي لحظة "تلقي فلسفة الاعتقاد" يتحدث ياكوبي في كتابه "ديفيد هيوم والاعتقاد" عن بروز هذه المفهوم بالضد لفلسفة عصره التي تميل بهوس إلى تفسير واستدلال كل شيء، ولذلك يرى ياكوبي أن من شأن الفلسفة الحقة - الفلسفة الاعتقادية- أن تهزأ من الفلسفة السائدة القائمة على الاستدلال والاستنتاج التي تترك طريدتها لكي تكتفي بظلها. ويستدعي ياكوبي ديفيد هيوم في هذا المقام لأن هيوم جعل الوجود لا مسألة استدلال وإنما مسألة اعتقاد. ويستعرض ياكوبي آراء خصومه الاستدلاليين في المقدمة إذ يلوم نفسه على عدم إيجاد حل لهذه المعضلة ومن ثم إسكات خصومه في أن طبيعة العقل الحقة تكمن في ملكة الاعتقاد.
ويرى ياكوبي أن لاحاجة له إلى الاستدلال على أنه موجود وإنما يكتفي بيقينه الذاتي على وجوده، وذلك بأنه ثمة نازع في طبيعة البشر يتمثل في أنه من، غير أي استدلال، نعتقد اعتقادا راسخا في وجود أشياء وموضوعات خارجية نعتقد أنها حقيقة كائنة أي أنها لا تحتاج لكي توجد أن ندركها نحن. ويبتعد ياكوبي عن ديكارت واسبينوزا الاستدلاليين بشأن الاعتقاد ويميل للايبنتز الذي يعد الحقائق الأبدية تجارب إحساس داخلية مباشرة بلا واسطة. بالمقابل، رأى فلاسفة آخرون من ياكوبي آلة حرب موجهة ضد التنوير المتمثل في العلم والفلسفة، وكان رده أن المعرفة العقلية لا تتعلق فقط بالعلاقات وإنما بوجود الأشياء الواقعي عينه.
وإذا كان هناك من إضافة، فإن مفهوم الاعتقاد كان له الفضل في تأسيسه إلى بلوغ مفهوم الوجودية الذي تبلور في القرن التاسع عشر عند كيركغرد ونيتشه، وتطور لاحقا عند هيدغر وسارتر وكامو وغيرهم، فالوجودية قامت بالضد من العقلانية لأن الأخيرة بلغت ما يسمى بـ"نسيان الوجود" بسبب العقل والتقنية حسب هيدغر.
