أناتولي كليسوف
فيكتوريا زاريتوفسكايا*
تعد مسألة أصل الشعوب السلافية من المسائل الأكثر تعقيدا وغموضًا في العلوم التاريخية في الوقت الراهن، لا تفتأ تطرح المزيد من علامات الاستفهام، وتفاقم حيرة العلماء والمؤرخين كلّما تعمقوا في بحثهم واستقصائهم التاريخي. فمفهوم الشعوب السلافية، ولسبب ما، يستند إلى اصطلاح لغوي خالص، وهو الاصطلاح المعمول به في أوساط المؤرخين، ويتلخص هذا الاصطلاح في أنّ العرق السلافي هو "المجاميع البشرية الناطقة باللغة السلافية أو اللغات المتفرعة منها". ولكنّه تعريف يضعنا أما حزمة من الأسئلة ومنها: هل معيار اللغة كافٍ لتحديد جنس ما أو أصل قوم من الأقوام؟ ألا يمكن أن يفقد شعب من الشعوب لغته أو يتسبدلها بلغة أخرى خلال مسيرته التاريخية؟ هل من العدل تحديد عمر الأقوام بالتواريخ التي تحددها الكشوفات الكتابية واللغوية لهؤلاء القوم أو أولئك، وذلك حسب النظام اللغوي المتبع اليوم؟ فإذا كان ظهور الشعوب السلافية، بحسب اللغويين، قد حدث في منتصف الألفية الأولى (وهذا تاريخ متأخر وفقا للمعايير التاريخية) فأين كانت هذه الشعوب قبل عام ألف وخمسمائة؟
يستخدم المؤرخون منهجية مختلفة ويطرحون معايير أخرى لتحديد السلافية كجنس. وربما يكون الاجتهاد الذاتي والآراء الخاصة في مقدمة هذه المعايير، مع غياب الموضوعية والغموض في أحيان كثيرة. هناك أيضًا البراهين المادية التي يسترشد بها المؤرخون في استنتاجاتهم لتحديد الجنس كأنماط السيراميك، وأطرزة المساكن، والطقوس الجنائزية وغيرها. ولكن ماذا عن المجموعات التي افترقت عن الأرومة الأولى للقومِ السلافيين بأعداد كبيرة، واستوطنت في مساحات شاسعة من البلقان والسهل الروسي ضمن مناخ يختلف تماما عن الموطن الأصلي؟ أليس من المنطقي أن يتكيفوا في بيئتهم الجديدة مع مرور الوقت، ويكتسبوا عادات مختلفة تحدد طرق صناعاتهم المنزلية، ومعداتهم العسكرية، وخياطة ملابسهم، وبناء مساكنهم؟
لا شك أنّ علماء الآثار والمؤرخين قد بذلوا جهدا جبارا، وراكموا جبلا من المعارف لإجمال التاريخ السلافي، ولكن يبدو أنّ بعض أجزاء هذا الجبل ظلّت معلقة في الهواء، يحيطها الغموض وتغمرها سحب الظُنون. وقد ظلت على حالها السرابي هذا حتى الأمس القريب عندما بدأت الكشوفات تتدفق إلى تربة التاريخ من مزاريب مختلفة امتدت من مضخة العلوم الحديثة كعلم الأنساب للحمض النووي الذي استخدمه مؤلف الكتاب الذي بين أيدينا لعرض خلاصاته التاريخية.
وكما يتردد في الكتاب فإنّ علم الأنساب للحمض النووي يمكّننا من رصد هجرات الشعوب بدون الحاجة إلى مجرفة وفرشاة عالم الآثار، ومن غير قياس جماجم الموتى، أو تحليل ومقارنة معاني الكلمات بين اللغات الحيّة والمندثرة، والنبش في المخطوطات القديمة في مكتبات الأديرة، ولكن ببساطة عن طريق تتبع العلامات في الحمض النووي المتوفر لدينا. هذه العلامات التي لا شائب في تركيبها لا ترضخ للمعايير الزمنية، ولا تتأثر بالتحولات التاريخية من تفكك الأمم وتبدل أحوالها عبر العصور، ولا يلغي فاعليتها سوى اندثار الأمة عن بكرة أبيها وانمحاء أثرها من الوجود وهذا أمر لا يحدث. لقد شقت علامات الحمض النووي طريقها عبر التاريخ بإصرار وعناد. وهي حين تشق طريقها بهذه الثقة المطلقة، لا تكتفي بالإعلان عن وجودها الساطع وحسب، بل تتيح أيضا إمكانية حساب الفترة الزمنية التي عاش فيها حاملوها من الأقوام السالفة. إنّها شبيهة بسرب طيرٍ ينتمي إلى جنس واحد، ربط في أرجله حلقات متشابهة، فمهما طار بعد ذلك وتشتت في مختلف الأقطار والقارات، فإنّ حلقته تدل عليه لا محالة.
إنّ علم الأنساب، ومن دون التقليل من أهمية علم الآثار واللغويات والأنثروبولوجيا، ومن غير خلط بين هذه العلوم، أو استبدال أحدها بالآخر، فوظيفته أن يضع، ويوحّد، ويصادق (أو ينكر) على وجود أجزاء متباينة، أو متضاربة من المعطيات التاريخية، والأنثروبولوجية، واللغوية، في نظام واحد محدد، مما يسمح بحل عدد من الألغاز المعلقة، والتي ظلت مبهمة للعلماء لسنوات طويلة.
والحال كذلك يُلقي مؤلف الكتاب، البروفيسور أناتولي كليسوف، ضوءًا كاشفا على التاريخ السلافي، مع أنه ليس مؤرخا، وإنما عالم كيميائي سوفييتي سابق (يحمل حاليا الجنسية الأمريكية) ومتخصص في الطب الحيوي والتحليل الأنزيمي. وفي كتابه الأخير هذا، يعيد أناتولي كليسوف تشكيل صورة العالم القديم استنادًا إلى حفريات الحمض النووي المشفر. فبمراجعة أحدث البيانات في مجال تخصصه، والمؤكدة علمياً، يحدد لنا المكان الذي انحدر منه السلافيون، ويرسم شجرة أنسابهم، والفرع الذي تمتد منه القومية الروسية المعاصرة، إلى جانب شرحه لشيوع المغالطات وتزوير المعطايات في علم الوراثة.
وإنّ شكّل موضوع السلافيين وأصلهم حجر الزاوية في البحث، إلا أنّه ليس الفرع الوحيد في مجمل سردية الكتاب، حيث يقدم المؤلف فكرة عن علم الأنساب للحمض النووي الذي يتطوّر ديناميكيا، والمخالف للنظرية المتعلقة بالنسب الإفريقي لشعوب الأرض قاطبة، وهي نظرية يعرفها المجتمع العلمي منذ أمدٍ طويل. وقد حاول المؤلف التوصل إلى مهد الشعوب الأوروبية التي نعرفها اليوم، إلى جانب استعراض العلاقة الوراثية بين السلافيين الشرقيين وممثلي الطبقات العليا في الهند بطريقة مثيرة للاهتمام، كما يرفض النسب المُتداول للأمراء الروس الأوائل باعتبارهم من أرومة سويدية.
من جانب آخر يثبت المؤلف من خلال دراساته أنّ مؤسسات العلوم الرسمية اليوم تلتزم بوجهة نظر وحيدة تنص على أنّ أصل السلافيين يعود إلى عهود حديثة، وأنّ الشعوب السلافية مدينة بحضارتها ودولها لأجناس أخرى. يكتب كليسوف: "بشكل عام، وهذا أمر مثير للاهتمام، لا أحد يسمي اليابانيين الذين عاشوا منذ خمسة آلاف عام (في كنف ما عُرف بثقافة دزيمون) إلا باليابانيين القدماء فقط، ولا أحد يدعو الهنود الأمريكيين القدامى الذين يعود تاريخهم إلى ثلاثة عشر ألف عام بأجداد الهنود، بل يُقال لهم هنود أميركيون (...) انطلاقا من هذا، وبحسب المؤسسة العلمية الرسمية، فإن وجود السلافيين يعود إلى ألف عام فقط، في حين عاش الأجداد الأوائل بلا نسب!" (ص: 6).
ما زال العِلم الروسي الرسمي متمسك بفرضية أصل الأمراء الروس الذين أسسوا الدولة الروسية في القرن التاسع الميلادي، فينسبهم إلى وافدين من البلاد الإسكندنافية. أما البروفيسور كليسوف فيرفض هذه الرواية ويرى بضرورة التخلص منها، مرةً وإلى الأبد، داعيا في الوقت نفسه لاعتماد التحاليل المختبرية الكيماوية. يقول في هذا الصدد: "لدى الإسكندنافيين طفرات مميزة في الأنماط الفردية، يبلغ عمرها 31 تحويلة، أو طفرة، أي ما يعادل 4500 عام على وجه التقريب (...( لا توجد عملياً مثل هذه الأنماط على أراضي روسيا، وأوكرانيا، وروسيا البيضاء، وبعبارة أخرى، لم يكن هناك أي سكان إسكندنافيين في تلك الأراضي، على الأقل على المستوى الإحصائي، على الرغم من أن النورمانديين يقولون إنّ هناك عشرات الآلاف منهم سكنوا روسيا وسيطروا عليها كحرفيين مهرة، ومديرين وأمراء )...( ويتضح هنا استحالة هذا الأمر حيث لا يمكن تصور أنّهم لم يتركوا عددا كبيرا، أو حتى متوسطا، من الأحفاد".
يتضح جليا أنّ أحد الأهداف المركزية للكتاب توضيح العلاقة بين الآريين والسلافيين، فيخصص الباحث لهذه المسألة عددًا من فصول كتابه نذكر منها: "الآريون القدماء: من هم ومن أين أتوا؟"، "أين نجد منبع الأجداد؟"، "الهندي والروسي من وجهة نظر علم أنساب الحمض النووي".
يؤكد المؤلف انتساب العرق السلافي بالآريين مباشرة، أي حاملي المجموعة الفردية التي يُرمز إليها علميا بسلالة R1a كما ينتقد بشدة التسمية الشائعة "هندو أوروبية" التي تطلق على أصل السلافيين، وغيرهم من الأوروبيين، ويصفها بـ "المصطلح الأخرق" الذي يؤدي لمفاقمة الالتباس لأصل الشعوب أكثر مما يفسرها. يقول في هذا الصدد: "لم يكن فيهم (الآريون) شيء من الهنود والإيرانيين قبل نزوحهم إلى الهند وإيران. كما لم يكتسبوا لغتهم من الهنود والإيرانيين، بل على العكس من ذلك، حيث حملوا معهم إلى هناك لغتهم السنسكريتية".
وهكذا يمنحنا الكتاب فرصة لمتابعة الديناميات التي تمدد بموجبها أجداد السلافيين في المكان والزمان، من أواسط آسيا، وعبْر إيران وآسيا الصغرى، حتى أوروبا، وذلك إلى أن تنغلق هذه الحلقة في السهل الروسي. وكل هذا حدث منذ حوالي 15 ألف سنة حسب تقديرات الباحث.
وفي تتبع هذه المسألة يخصص المؤلف عددًا لا بأس به من الصفحات لإثبات القرابة التي جمعت السلافيين الشرقيين وبعض جنسيات الهند، وإن كان ذلك عبر سلفٍ مشترك قبل 5200 عام. يقول المؤلف: "يوجد في الهند 100 مليون شخص ينتمون إلى سلالة R1a، التي يتشكل منها أكثر من نصف سكان روسيا، وما زالوا يطلقون عليهم التسمية التقليدية "هندو أوروبيين"، بينما الواقع أنّهم من النسل الآري". وتصب الاستنتاجات التي توصل إليها الكاتب في صالح الحقيقة اللغوية المثبتة والقائلة إنّ بين اللغتين الروسية والفارسية الحديثتين مشتركا في المفردات يعادل 28٪ من مجموع المفردات الأساسية، وبين اللغة الروسية الحديثة والهندية القديمة 54٪ من مجموع المفردات الأساسية.
وللشرق الأوسط نصيب من دراسة الكاتب حيث يرد ذكره مرات عديدة في سياق البحث. وهكذا ففي الفصل المعنون "حول اليهود والعرب الفلسطينيين" يناقش المؤلف النمط السلالي المسمى علميا "الكاهني"، حيث سُمي على هذا النحو بسبب شيوعه بين الكهنة اليهود، وهو سمة مميزة عمومًا لليهود من الأصل الشرق أوسطي. ولكن كليسوف يُعارض بشدة هذه التسمية الراجحة في المجتمع العلمي، مشيرًا إلى أنّه منتشر كذلك بين العرب، ولا يقتصر على اليهود. ووفقا للكاتب فنحن، وإذا رجعنا للكتب الدينية، المسيحية منها والإسلامية، نجد فيها قرائن تثبت السلف المشترك بين العرب واليهود، وانطلاقا من هذا، أي مما تقوله الكتب الدينية، وما تثبته الحقائق العلمية، فإنّ الأجدر بنا أن نطلق على هذا النمط السلالي تسمية "الإبراهيمي" الذي يشمل العرب واليهود معًا، وليس "الكاهني" الذي يقتصر على قومٍ واحدٍ.
وفي تتبعه لممثلي فصيلة R1a الآرية في الشرق الأوسط، يشير المؤلف إلى موجات منها استوطنت بلدانا عربية. ووفقا لتقديرات الباحث، فقد نزح فرع من فروع الآرية منذ حوالي أربعة آلاف سنة إلى الجنوب، ووصلوا إلى شبه الجزيرة العربية وخليج عُمان ليستوطنوا حيث تقع قطر والكويت والإمارات. ويضيف المؤلف في هذا السياق أن وجود الجنس الآري في شبه الجزيرة العربية قد يعود أيضا إلى رقيق الآريين الذين جُلبوا إلى المنطقة قبل أربعة آلاف عام. بيد أنه يترك للمؤرخين الإجابة النهائية عن هذا السؤال.
أخيرا، ونظرا لصعوبة الموضوع الذي يتناوله الكاتب، وتشعبه بين عدة علوم، وتشابكه بالمادة التاريخية، اقترح المؤلف صيغة توافقية تضمن قراءة تفاعلية لدراسته، وتسهل إيصالها للمتلقي، فلجأ إلى تقسيم فصول كتابه، بحيث يشمل البعض منها الأدلة العلمية، وتحتوي على المخطوطات والروسوم البيانية، إلى جانب أشجارالأنساب للسلالات الإثنية، والبيانات الإحصائية، بينما تختص الأخرى بعرض الأفكار، ووضع الاستنتاجات الرئيسية بأسلوب مبسط يناسب القارئ العادي غير المختص.
-----------------------------------------------------------------------------
الكتاب: الحمض النووي للشعوب السلافية... الأصل والتاريخ.
المؤلف: أناتولي كليسوف.
الناشر: بيتر – سانت بطرسبورغ 2020
اللغة: الروسية.
عدد الصفحات: 400 صفحة.
*مستعربة وأكاديمية روسية
