لمحة عن التواجد العُماني في الشرق والوسط الإفريقيين

قيس بن حمود المعولي

إنَّ الحضارات المُمتدة والمتوغلة في القدم والتي سيرها أصحابها وعظماؤها لا تزال تخط وتكتب وتذكر في مجالس التاريخ والحضارة، ولم تقم بالصدفة والمفاجأة، بل قامت من خلال سواعد أبنائها ومؤسسيها على مرِّ التاريخ. إن من أعظم الحضارات التي قامت في المنطقة العربية هي الحضارة العمانية -ممثلة في مزون ومجان وعمان- هذه الإمبراطورية التي امتدت في قارتين مختلفتين غربا من البحيرات الإفريقية إلى مشارف شبه القارة الهندية خلال عهد السلطان سعيد بن سلطان. انعكس وجود العمانيين في هذه المناطق على حياة سكانها الأصليين، وهذا ما سنذكره في هذا المقال تعقيبا على بحث الأستاذ موسى البوسعيدي "التأثير العُماني في دول وسط إفريقيا" - والمنشور بمجلة "التفاهم".

هناك عدة جوانب أثَّر فيها الوجود العماني في هذه المناطق؛ هي: الثقافة والحضارة والتجارة. ابتداء بالجوانب الثقافية التي أثر فيها الوجود العماني في تلكم المناطق انطلاقا من اللباس واللغة والتعليم والديانة والعمران وأسلوب الحياة. كان للتواجد العماني في هذه المناطق أثر واضح وكبير في أسلوب الحياة للسكان الأصليين، وهذا ما نراه واضحا حتى اللحظة من خلال ما تقدم ذكره من الأساليب والأساسيات الثقافية للمجتمع؛ فالدشداشة العمانية ما زالت تستخدم في تلك المناطق، وما زال الكثير من الناس هناك يتكلم ويتعلم العربية. وأيضا تمسك أهل تلك الديار بالدين الإسلامي الذي كان للعمانيين التجار فضل في نشره من بعد فضل الله سبحانه وتعالى، وكذلك النظام الإداري والحضاري الذي لا يزل يستخدم حتى الآن في تلكم المناطق. إنَّ العمران العُماني الذي انتشر في تلك المناطق لعله هو الأبرز من حيث التأثير والانعكاس على الوجود العماني في الوسط والشرق الإفريقيين، ومن ذلك انتشار المساجد والقصور والمباني المختلفة التي بنيت على الأساس المعماري العماني.

كانت التجارة ولا تزال هي صاحبة التأثير الأكبر في تلك المناطق؛ وذلك بسبب الصلات الحضارية التي قادتها عمان في الفترات المختلفة للشرق والوسط الإفريقيين، وبرجع ذلك لعدة أسباب؛ هي: العلاقة المكانية بين عمان والشرق والوسط الأفريقيين؛ إذ يقعان على خط واحد من المحيط الهندي والطبيعة المناخية التي يسرت للعمانيين الوصول إلى تلك المناطق برحلتين منتظمتين في السنة ذهابا في بداية الشتاء وعودة في بداية الصيف. هذا إضافة إلى ما يتوفر من منتجات تُدر أرباحا طائلة على العمانيين كالذهب والعاج. كانت بداية العمانيين في التواصل التجاري مع تلك المناطق من خلال المناطق الساحلية دون التوغل إلى الدواخل؛ فكانت أول إمارة أسسها العمانيون في تلك المناطق هي إمارة لامو؛ فقد أسسها ملكا عمان سليمان وسعيد أبنا عباد بن عبد بن الجلندى؛ فقد هاجرا من عمان إلى الشرق الإفريقي بسبب نفوذ الحجَّاج وإرادته الاستيلاء على حكمهما. وقد انعكس هذا الاستقرار في هذه المناطق على تحول المناطق التجارية المؤقتة إلى مناطق استقرار دائم تخدم في مقدمة الأمر التبادل العماني التجاري مع الشرق والوسط الإفريقيين.

ارتبط التأثير العماني في تلك المناطق بأسماء وشخصيات عرفت بفضلها في نشر هذا التأثير، وهذا يرجع لعدة أسباب؛ هي: نفوذها وخبرتها التجارية وتواصلها مع سكان تلك المنطق؛ ولعل من أبرز هؤلاء الأشخاص: حمد بن محمد المرجبي الملقب بـ"تيپوتيب"، وتعني صوت إطلاق النار من البندقية. عرف تيپوتيب كتاجر للعاج وكمستكشف، ومالك لمزارع، وحاكم تحت سلطان سلاطين زنجبار. كان تيپوتيب يجمع العبيد من أجل مزارع زنجبار. ومن أجل تجارة العاج، قام بحملات استكشاف في وسط إفريقيا، وأنشأ المراكز التجارية التي تُمكّنه من الوصول إلى تلك المناطق، وكان يشترى العاج من المورّدين المحليين مقابل مبالغ زهيدة. كان لتيبوتيب فضل عظيم في انتشار الإسلام في أرض الكونغو، ورغم أننا لا نزعم بأن فتوحاته تلك كانت لهذا الغرض، إلا أن أخلاقياته الإسلامية كانت الرّكيزة الأساسية في انتشار الإسلام فلقد كان كلّما بسط نفوذه على منطقة من المناطق قضى على عادة أكل اللحوم البشرية المنتشرة بين الجماعات الإفريقية البدائية، ومارس شعائر الإسلام جهارا في المساجد التي بناها لجعل الزنوج يعتنقون الإسلام، وكانت جموع الناس تقتنع به وبمنهجه في الحياة ليس لبأسه أو لشخصيّته القيادية فحسب، وإنما لسموّ أخلاقه وشهامته في حماية من يلوذ به ولروح السماحة التي عرف بها أيضا؛ فلقد كان شديد البأس ومسالما ومتسامحا في آن واحد. وكذلك من الأشخاص الذين عرفوا في تلكم المناطق محمد بن خلفان البرواني الملقب بـ"روماليزا". أنشأ روماليزا في أوجيجي سوقاً كبيراً؛ حيث يمكن تبادل الملح بالسلع مع الآخر بالقرب من بحيرة تنجانيقا في تنزانيا في العام 1840، وأحكم تيپوتيب وروماليزا السيطرة على المنطقة بحلول عام 1881.  ومن 1883 كان روماليزا زعيماً للمجتمع السواحيلي في أوجيجي. روماليزا وجنوده أحكموا القبضة على خمس مراكز تجارية على الساحل الشمالي الشرقي من بحيرة تنجانيقا بين 1884 و1894. كما أطلق سلسلة من الغارات في الجبال حتى قرية نهر روسيزي وبحيرة كيفو.

هذا النفوذ العماني في تلك المناطق هو الذي قد مكن العمانيين من نشر ثقافتهم وتجارتهم وحضارتهم في تلك البلدان، ومكنهم ذلك من تبادل التجارة مع سكان تلكم البقاع بسلاسة ويسر، ومعرفة أخبارهم وتحركاتهم وعاداتهم وتقاليدهم التي تبدلت بسبب التواجد العماني وتأثيره على تلك الأطراف. ولا يزال التأثير العماني موجودا في تلك المناطق التي ما زال العديد من سكانها ترجع أصولهم إلى عمان وأهلها. كذلك لا يزال التواصل بين الطرفين قائما من خلال العلاقات السياسية والصلات الحضارية والتبادلات الجارية التي تخدم مصالح الطرفين وتخدم العلاقات العامة لهما ولشعبيهما.

أخبار ذات صلة