طلال اليزيدي
عندما تفشى وباء إيبولا في غرب إفريقيا عام 2014، تفشى بسرعة جنونية تعدت القدرة على الردع. عند انتهاء الوباء في عام 2016، أصيب بالعدوى أكثر من 28,000 شخصاً وسجلت 11325 حالة وفاة بسبب المرض. لم يكن من المفروض أن يحدث ذلك كما كتبت بارديس ساباتي (Pardis Sabeti) ولارا صلاحي (Lara Salahi) في كتاب "ثقافه التفشي: كارثه إيبولا والوباء القادم". في كتابهما كشفتا الفوضى خلف تجاوب العالم مع تفشي وباء إيبولا بين عامي 2014-2016، واقترحتا بعض الأطروحات لتفادي أوبئة مستقبلية أخرى.
ساباتي باحثة في مجال علوم الجينات، كانت من ضمن الفريق الذي حدد مكان وزمان انتقال فيروس إيبولا من الحيوانات إلى البشر، لكن أثناء تعاونها مع المسؤولين في إفريقيا الغربية لاحظت أن التجاوب مع المرض لم يكن بدرجة جيدة تنسيقيًا، فاندلعت التوترات على المستوى الشخصي بين المسؤولين. التجاوب السياسي واللوجستي البطيء عرقل أيضا سرعة عملية التجاوب مع الوباء. في معظم الوقت تفشى الخوف أيضا خوفاً من عواقب كارثية بسبب بطء التجاوب مع التفشي.
لارا صلاحي في الجانب الآخر كانت صحفية ومع سباتي طرحتا في كتابهما قضية "ثقافه التفشي"، تناقش المهالك والأوضاع الرديئة التي تتطور أثناء تفشي الأمراض المعدية. هذه الثقافة تزدهر مع الإنكار واللوم وانعدام الثقة بين المسؤولين، فتسقط الأخلاق وآداب المهنة، فالمشاهير والمسؤولون يستخدمون الوباء كسبيل للشهرة، بينما في مواقع تفشي الوباء يتزاحم الناس على قلة الموارد المطلوبة لمكافحة الوباء. فالمهالك في مناطق الوباء تتعاقب كتنبؤ قصة أحد الأفلام المرعبة، لكنها تحدث مراراً وتكرراً. تقر الكاتبتان أنّه عند العمل في منظمة لمكافحة الوباء تؤمن بها، لكن في نفس الوقت تعترف بالاختلال الوظيفي في هذه المنظومة، يكون من الصعب جداً تقديم انتقادات متزنة، فالعواقب تكون عالية جداً عندما تكون المنظومة هذه مسؤولة عن التجاوب لحالة طوارئ إنسانية.
الفكرة الرئيسية للكتاب مرتكزة حول الاختلال الوظيفي المصاحب في الرد على تفشي الأوبئة. الاختلالات هذه على رأي الكتاب تظهر بسبب التركيبة المجتمعية غير المتساوية، والتنافس بين بعض الجمعيات الدولية حيث يعمل بعض الموظفين تحت ضغوط نفسية عالية، فكما ذكر في الكتاب "في الحقيقة نظام ردع الأوبئة الحالي يزيد من تصدع نظام ضعيف جداً". تقول لارا صلاحي "لتجنب إعادة نفس الأخطاء مع كل تفشٍّ لوباء جديد، يجب أن يتحول النظام إلى مقام يفضل التعاون على التنافسية، والاستعداد على خلاف اتخاذ إجراء متأخر". ساباتي تقول إن خبرتها الميدانية في سيراليون بين عامي 2014 و2015 في مكافحة وباء إيبولا تتوافق مع لارا صلاحي، أثناء كتابة الكتاب لارا كانت تعمل في أوغندا ليس بعيداً من مركز تفشي مرض إيبولا في جمهورية الكونجو. الأوضاع الرديئة والاختلالات الوظيفية المصاحبة لتفشي الوباء لا تقتصر فقط على تفشي وباء إيبولا، فقد وثق نفس الخلل وأحياناً أسوأ أثناء الأوبئة الأخرى المنتشرة على نطاقٍ واسع. فالثقافة المصاحبة لكل تفشٍّ كانت السبب في الوصم السيء للمصابين بالإيدز في ثمانينيات القرن الماضي، وأدت إلى نقص الإبلاغ عن الحالات الأولية لمتلازمة الالتهاب الرئوي الحاد (السارس) في الصين عام 2002، وتأخر البحث في تفشي إنفلونزا الطيور في إندونيسيا عام 2006، كذلك أدى إلى إعاقة الاستجابة لتفشي فيروس زيكا.
الكتاب يصف الاستجابات على مستويات مختلفة في كل حالة طوارئ إنسانية. لكن إذا كان هذا الكتاب بأي شكل من الأشكال يتحدث عن شخص واحد فهو يتحدث عن شيخ عمر خان. فقصة عمر خان منسوجة في الكتاب من خلال الحجج التي طرحتها الكاتبتان. خان ولد ونشأ في سيراليون، وعلى الرغم من الصعوبات الهائلة في تلك البلد، أصبح باحثاً ورائداً في الحمى النزيفية هناك. كان خان من أوائل الأطباء الذين استجابوا لتفشي إيبولا، وقد رعى المصابين بفيروس إيبولا في البلاد في النصف الأول من تفشي الوباء. في يوليو 2014، توفي خان بسبب مرض إيبولا. يبدأ الكتاب بالقضايا السياسية والأخلاقية التي تحيط بعلاج خان، أين كان من الممكن أن يعالج؟ هل كان يجب إعطاؤه علاجات تجريبية؟ ماذا عن الفشل في إخلائه (أو التأخير في القيام بذلك) ليحصل على رعاية أكثر تقدماً، حتى ولو من قبل المستجيبين الدوليين من الغرب لتفشي إيبولا. تؤكد قصه خان واحدة من الحقائق الأساسية للكتاب، فحيث ولادتك يقرر ما إذا كنت ستعيش وباء الإيبولا أم لا، فمن راحة المختبرات والعيادات الغربية من السهل نسيان الاختلافات في مستوى العلاج مقارنة بملايين الأشخاص في المجتمعات الفقيرة. من الصعب تجاهل هذه الاختلافات عندما تعمل في الميدان لمكافحه إيبولا، جنباً لجنب مع مقدمي الرعاية الصحية الذين يعلمون أنه لن يتم نقلهم جواً إلى رعاية أفضل إذا ما مرضوا، ولكنهم يتحلون بشجاعة لا يمكن تصورها لمواصلة العمل في تلك الظروف. كتاب ثقافة التفشي يمثل الصوت المناشد بعدالة أكبر في التفشي للوباء القادم.
كتاب ثقافة التفشي مبني على الآراء التراكمية لأكثر من 200 شخص من الأطباء والباحثين والإداريين والعاملين في مجال الصحة العامة، ممن عملوا في الصفوف الأمامية للاستجابة على تفشي وباء إيبولا في غرب إفريقيا. لكن الكتاب يميز نفسه ويحتفظ بنبرة شخصية على الرغم من جلب بعض الآراء الفردية. كما يتضمن الكتاب أيضًا بعض تحليلات ما بعد الوباء من قبل بعض المنظمات الدولية والحكومات، كالمراجعات الداخلية والخارجية لمنظمة الصحة العالمية والتقارير المستقلة من الأكاديمية الوطنية الأمريكية للطب وبعض المتعاونين الأكاديميين الآخرين. يتحدث الكتاب أيضا بلمحة إنسانية عن التحديات المنبثقة من تفشي الأوبئة من خلال سرد قصص الباحثين والأطباء والمرضى، بما في ذلك ساباتي وأعضاء مختبرها. اليوم، كل تفشٍّ جديد يتطلب إعادة هيكلة للهيكلة الإدارية، والمفوضات والعمليات لمكافحة الوباء تتم مباشرة. لكن لارا وسباتي تجادلان بأنّ قلة الهيكلة الإدارية والرقابة الموثوقة في غرب إفريقيا خلقت مساحة حيث التنافسية والطموحات والمصالح الشخصية تسببت في تفاقم الآثار المدمرة للوباء. الكتاب يسلّط الضوء على نقاط الضعف -التي تجنبتها التقارير السابقة- في الجبهة الأمامية لمكافحة الوباء التي تبطئ وتعرقل الاستجابة. قابلت المؤلفتان العديد من الأشخاص وأرسلتا استبيانًا عبر البريد الإلكتروني، أجاب عنه 132 شخصاً. الإجابة على الاستبانة كانت بطريقة مجهولة لأنّه بخلاف ذلك معظم الأشخاص سيرفضون الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بالتنافسية والفساد والتبذير. قال 27% من المستجيبين أنّهم لاحظوا بعض الأساليب غير القانونية خلال الوباء. وأشار 37% آخرون أنّهم تعرضوا للترهيب من أشخاص آخرين يعملون في المنظومة، إمّا عن طريق مواجهته شخصيا أو مشاهدته يحدث شخصا آخر أو سماعه والسماح باستمراره.
ذكرت ساباتي ولارا صلاحي قصصًا عن كيفية تكديس البينات والعينات التي كان من الممكن أن تساعد في المجابهة من قبل بعض الباحثين والمنظمات، بما في ذلك العديد من الأفراد بداخل العديد من هيئات الصحة الدولية العامة. هذا الكتاب يقدم سرداً ثابتاً عن الفساد على جميع المستويات استنزف الموارد العامة عن المجتمعات والأفراد المحتاجة. على سبيل المثال أكّد الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر اختلاس ما يقارب 6 ملايين دولار أمريكي من الأموال المخصصة لإيبولا في غرب إفريقيا، كما تسلط المؤلفتان الضوء على أمثلة ملموسة عن السياسة التنظيمية والاختلافات الثقافية وانعدام الثقة وما أدت إليه من تواصل غير فعال للتجاوب على النقاط الحاسمة خلال الوباء.
على الرغم من كل هذه الانتقادات إلا أنّ الكتاب ينتهي بملاحظات إيجابية. فالكتاب يربط حالات الفشل أثناء تفشي الأوبئة بفجوات أساسية ومحددة تتعلق بالإدارة، على سبيل المثال التحكم بالطرق التي يتم بها توزيع المساعدات لتجنب تسريب واستنزاف الأموال من قبل بعض الأفراد. فالكتاب يحدد العمليات الأساسية المطلوبة لإصلاح الفجوات في النظام الحالي. الإصلاحات هذه تشمل تبسيط أنظمة الاتصال بين المنظمات والمجموعات الشريكة في الاستجابة على تفشي الوفاء، وإنشاء هيكل مركزي لإدارة البحوث يتكون من خبراء متعاونين على مستوى عالٍ من دون وجود أي تضارب في المصالح.
فعلى رأى الكاتبتين الثقافة المصاحبة لكل تفش المعيقة لسرعة الاستجابة يمكن تغيرها. لكن ذلك يتطلب قرارات مدروسة يتم تنفيذها بعناية، تحكمها المبادئ الأساسية، ومسترشدة بالواقعية، والصدق والشفافية والمساءلة. فالتغير يتطلب إزالة الحواجز التي من صنع الإنسان، في بعض الأحيان متعمدة، وتعوق التنظيم والتعاون اللازمين لقمع تفشي الأوبئة. فثقافة التفشي لمكافحة فعالة للأوبئة يجب أن تتحول إلى عقل جماعي حيث الكل مؤمن بمبدأ واحد وهو المكافحة، والممارسات يجب أن تتحول إلى التعاون، ذلك التحول وحده سيحدد قوتنا على الاستجابة لا سيما أنّ التهديدات لتفشي الأوبئة من الطبيعي أن تكون متزايدة.
ليس هنالك شك في أن دمج وكالات وفاعلين متعددين للاستجابة لتفشي الأوبئة يخلق جزءا إيجابيا لمكافحة التفشي، لكن هذا الدمج يجب أن يكون مع نوايا الاستجابة الشاملة التعاونية. ففي الوقت الحالي توجد تدابير محدودة لضمان المساءلة في خضم الوضع المتقلب للتفشي وغير متوقع. فلتصحيح ثقافة التفشي الحالية يتطلب العمل من أجل العدالة التنظيمية وكذلك وضع مبادئ وحوافز للشفافية، والتعاون حتى تشعر جميع الجهات الفاعلة لمواجهة الوباء بالدعم. بالإضافة إلى ذلك يجب على جميع الوكالات المشاركة في العمل إنشاء أهداف مشتركة لدعم الجهود على أرض الواقع، بما في ذلك جمع البيانات، والبحث، وإشراك المجتمع في هذه المعلومات. هذه الإجراءات لتصحيح ثقافة التفشي الحالية ليست سوى عدد قليل من تلك المناقشة في الكتاب.
ينبغي مواجهة الأوبئة القادمة بالاستعداد متمثلا في توجيهات للعامة على مستوى عالمي، وهيكلة إدارة عالمية لمكافحة الوباء. إذا لم تتغير العقلية على مستوى العالم لصالح الاستعداد للاستجابة لتفشي الأوبئة فسوف يستمر الخلل الوظيفي لمنظومة المكافحة. المنظمات المكلفة بالرد على تفشي الأوبئة ما زال لديها الكثير لتتعلمه لتمكين استعدادها الدائم. العالم بحاجة إلى هيكلة حكم مركزي مخصص للأمن الصحي العالمي مشابهة للنهج العسكري في الاستعداد والاستجابة. يعتبر تفشي إيبولا في جمهورية الكونجو الديمقراطية مثالا على الحاجة الملحة إلى بعثات مكافحة أقوى وموسعة بهدف واضح لمنع تفاقم تفشي الوباء وانتشاره.
--------------------------------------------------------
الكتاب: ثقافه التفشي: كارثة إيبولا والوباء القادم
المؤلفان: لارا صلاحي وبارديس ساباتي
دار النشر: Harvard University Press
سنه النشر: 2018
عدد الصفحات: 288
