حمل النفعية محمل الجد

Picture1.png

كريستوفر وودارد

محمد الشيخ

مذهبان فلسفيان قيّض لهما في التاريخ المعاصر أن يصيرا مذهبي دولة: إِنْ رسميا (الماركسية في النظام الشيوعي) أو عرفيا (النفعية في النظام الرأسمالي). ورغم أن النزعة النفعية تعرضت إلى انتقادات شديدة، من فريدريش نيتشه (1844-1900) إلى جون راولز (1921-2002)، حتى اعتُقد أنها لن تقوم لها قائمة بعد هذا النقد، فإن عودة الروح إليها، في السنوات الأخيرة، تُظهر أن من شأن الأفكار الفلسفية أن تتوارى وأن تنحجب وأن تُنسى، لكن ليس من شأنها أن تموت ميتة نهائية، كما تُعلن أن النفعية أمست، في غفلة من لدن الكثير من منكريها، ضربا من الفلسفة العفوية المتشاطرة على نحو واسع ... بحيث تكاد أن تمسي لكل إنسان فلسفتان: فلسفته التي تخصه، وفلسفة النفعية التي تعم أفراد المجتمع.

ينطلق مؤلف هذا الكتاب - حمل النفعية محمل الجد - من شكوى من حال النفعية اليوم، لقد أمست النزعة النفعية نسية منسية، لا سيما في جانبيها الأخلاقي والسياسي، وما عادت تشكل هي "موضة فلسفية"؛ بسبب من اعتبارها فلسفة فجة. وحتى حينما يتم النظر إليها بعض من النظر، فإن ذلك يتم باعتبارها نزعة "عواقبية" تقيّم فعل الإنسان بالنظر إلى عواقبه وآثاره وثماره. بل وحتى بين "العواقبيين" أنفسهم، باتت تحظى النفعية بسمعة سيئة: هي فلسفة عواقبية لبسطاء التفكير من الناس تفتقد إلى التفطن إلى تعقيدات الحياة، وتقوم على تصور للنفس البشرية ساذج وتبسيطي.

يهدف هذا الكتاب إلى إعادة التقدير لتلك الفلسفة المنتبذة. وذلك من خلال أمرين: أ ـ إعادة إثارة مسألة إحياء الاهتمام بالنظرية النفعية، وذلك بالنظر إلى قضايا الأخلاق والسياسة اليوم. ب ـ إعادة بعث التقليد النفعي برمته (جريمي بنتام (1748-1832)، جون ستوارت مل (1806-1873)، هنري سيدجويك (1838-1900))، بحسبانه تقليدا لا يزال له ما يقوله لنا. وحتى يتسنى له ذلك، يسلك المؤلف في هذا الكتاب مسلك الرد على الاعتراضات التي كانت قد أبديت على النزعة النفعية. وهي في عداد ستة اعتراضات جوهرية. ويعد هذه الاعتبارات بمثابة محك لهذه النظرية. وهو يرفع تحدٍّ: يعرض نسخة معدلة من النفعية ـ أرحب أفقا وأعقد بنية وأشد التزاما بقضايا السياسة والأخلاق ـ على محك هذه الاعتراضات الستة، وينظر في ما إذا كانت النظرية النفعية قادرة على الاستجابة إلى هذا التحدي. فإذا ما أظهرت ذلك، فمعنى هذا أن النفعية لها من الإمكانات ما يجعلها قادرة على تجاوز كل المحن/الامتحانات؛ وبالتالي لم تمت هي بل لا زالت حية ترزق. هي ذي خطة صاحب الكتاب.

المدخل:

ينطلق المؤلف من مفارقة: بينما السياسات العمومية، في مجال صحة السكان ورفاهية عيشهم مثلا، تستند إلى المبدأ النفعي ـ تحقيق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس ـ فإن الفلاسفة ما يفتأون يُبَكِّتُون على النفعية التبكيت. والحال أن موقف الفلاسفة من النفعية يقوم، بدوره، على مناقضة: جذابة هي النفعية، لكنها مخطئة...

ما النفعية؟

كما لاحظ ذلك الكثير من المتعاطفين معها، تعاني النفعية من اسمها. إذ يفهم منها، عادة، موقفا تبسيطيا يجعل من الإنسان كائنا لا ينشد إلا الانتفاع وحده، ولا يهمه أن الأمر أعقد وأن الواقع أوسع. وما زال هذا الفهم ساريا حتى أنه بات يذكرنا بقولة فاوست في مسرحية جوته: "رمادية، أَيْ صديقي، كل نظرية، لكن خضراء هي شجرة الحياة الذهبية". على أن المؤلف يرى أن النفعية جملة أنظار وتقليد فكري تنعشه فكرة "بسيطة" و"جميلة": ما يهم، في نهاية المطاف، هو أن يحيا الناس حياة طيبة، ورفاهية كل شخص على قدم المساواة هو الأمر الأهم في المهم. وعادة ما تختزل النفعية في نظرية في صوابية الفعل: متى يكون فعلنا صوابا ومتى لا يكون. لكن المؤلف يرى أنها أوسع من ذلك بكثير؛ بحيث تشمل نظرية في دواعي أفعالنا وفي الحقوق المعنوية أو الخلقية وفي العدالة وفي المساواة وفي المشروعية وفي الديمقراطية وفي الفضيلة ... وبناء عليه، يسعى المؤلف إلى تطوير نسخة جديدة من النفعية بحيث تكون نسخة "جديدة" و"جذابة" ...

ويحاول النفعيون تفسير الأجزاء المكونة للأخلاق ـ دواعي الفعل، صوابيته، عدالته، فضيلته ـ على أساس تهذيب تلك الفكرة البسيطة. ولا تقليد في الفكر الأخلاقي يمتلك مركزا له مثل هذه الفكرة الإنسية الجذابة. لكن النفعية تسقط ضحية فكرتها البسيطة هذه، وذلك بالذات لكونها بسيطة. والحال أن الناس يعتبرون أننا نعيش في واقع شديد التعقيد، وأن النفعية تفشل في مواكبته بفكرتها البسيطة هذه. والذي عند صاحب الكتاب، أن النفعية ثمرة تآلف ثلاثة مذاهب: أ ـ النزعة العواقبية التي تدعي تفسير الظواهر الأخلاقية، مثل صوابية أفعالنا وعدالة مؤسساتنا وفضيلة فاعلينا أو رذيلتهم، بوفق خيرية الثمرة التي تثمر: حيثما ثمة الأثر الطيب، فالفعل صائب. ب ـ نزعة الرفاهية التي تزعم أن ما يهم هو المساهمة في الرفاهية؛ مثل اعتبار أن استقلال الشخص خير بقدر ما يحقق رفاهيته، وأن المرض شر بقدر ما يحول بينه وبين رفاهة العيش؛ بما يعني أن قيمة أثر الفعل تقاس بمدى إسهامه في رفاهية الشخص. ج ـ نزعة الترتيب بالمجامع التي تقول بأن قيمة أثر فِعْلٍ معين إنما تعادل مجموع الخيرات التي يحققها الفعل. وبالجملة، تشير النفعية إلى حزمة من الأنظار التي تسعى إلى تفسير صوابية أفعالنا ودواعيها وعدالتها وفضيلتها بوفق عواقبها وآثارها، وهي تتضمن التزاما بمبدأ الرفاهية وبحساب مجموع الخيرات المتحصلة عن الفعل، مدعية أن أثر فعلما يكون أفضل من أثر فعل آخر إذا ما هو تضمن تحقق أكبر قدر من الرفاهية ...

الطعون على النفعية وردود المؤلف عليها:

ينقسم الكتاب إلى بابين رئيسيين: باب الطعون أو الاعتراضات على النفعية، وباب الردود عليها أو دفع الاعتراضات.

وهكذا، يخصص المؤلف الفصل الثاني من كتابه لاستعراض الاعتراضات على النفعية: 1- نظرية القيمة في النفعية غير ملائمة. 2- تتسامح النفعية من أفعال فظيعة. 3- النفعية فلسفة شديدة التطلب من الفاعلين بما لا طاقة لهم به. 4- تفشل النفعية في احترام التفرقة بين الأشخاص. 5- تعجز النفعية عن تفسير التمايز بين القضايا السياسية والقضايا الأخلاقية. 6- تنهض النفعية على نظرية في النفس الإنسانية غير مناسبة.

تشكل هذه الاعتراضات الستة برنامج الكتاب، بحيث تتكفل الفصول اللاحقة من الكتاب بالرد عليها اعتراضا اعتراضا. ويؤمن صاحبه أن النفعية التي يعرضها قادرة على رفع تحدي هذه الاعتراضات. ويسعى إلى إيجاد نسخة بمقدورها دفع هذا الاعتراضات. ويجد هذه النسخة في نفعية أهم سماتها خمس: 1- القول بأن ثمرات أفعالنا غير منظورة لنا. 2- القول بأن دواعي أفعالنا متعددة غير أحادية. 3- أخذ مسألة الحقوق الأخلاقية بعين النظر. 4- تقدير أمر العدالة. 5- اعتبار مسألة الفضيلة. ترى، هل تقتدر نفعية بهذه السمات على رفع تحدي الاعتراضات الستة؟

يشرع المؤلف، في الفصول المتوالية اللاحقة، في دفع هذه الاعتراضات اعتراضا اعتراضا:

  1. دفع الاعتراض الأول: يقول هذا الاعتراض بأن النفعية تتوفر على نظرية في القيمة غير ملائمة. والذي عند المؤلف أن النفعية ملتزمة بادعاءين حول مسألة "القيمة": أ ـ رفاهية العيش. ب ـ تراتبية جموع الخيرات. ذلك أنه من الواضح أن قيما؛ شأن الجمال والمعرفة واستقلال الإنسان بأمره، يمكن تفسيرها بالتمام بمساهمتها في رفاهة عيش الإنسان بما هي مكون من مكونات الرفاهية المنشودة أو بما هي علتها.
  2. دفع الاعتراض الثاني: يذهب هذا الاعتراض إلى أن النفعية ترخص للفاعل البشري باقتراف أفعال منكرة أو على الأقل واضحة البطلان؛ بحيث، مثلا، يقال إنها تسمح بممارسة التعذيب والاستعباد واقتلاع الأعضاء وإنزال العقوبة على غير المستحق، بل بعدم إرجاع الكتب المستعارة من المكتبة وبعدم الوفاء بالوعد إذا كان يتحقق عن ذلك نفع لأكبر عدد من الناس. وينكر المؤلف أن تكون النفعية تسوغ إتيان مثل هذا الأفعال في ظروف بعينها، بل يرى أن النفعيين يؤمنون بالإكراهات الأخلاقية؛ بحيث إنهم يوافقون على أنه من غير الصائب خرق حقوق الأفراد المعنوية والخلقية، وذلك باللجوء، مثلا، إلى اقتلاع أعضائهم وتعذيبهم أو معاقبتهم على فعل لم يقترفوه. وهو يفسر الإكراهات الخلقية بمفهوم الدواعي المبنية على نماذج سلوك، وذلك بما أن هذه الدواعي هي ما يحمل الشخص على لعب دوره في أنموذج تثميني للفعل؛ وبالتالي فإن الشخص يتحمل وزر الإخلال بها. ذلك أنه لئن يعذب فلان فلانا بلا مسوغ يسوغ ذلك، ذلك أمر أسوأ من أن يعذبه آخر.
  3. دفع الاعتراض الثالث: يزعم هذا الاعتراض بأن النفعيين شديدو التطلب. والحال أن المؤلف يرى أن هذا الأمر متعلق بمطلب الأخلاق بعامة؛ بحيث إن لا أخلاق إلا وتتطلب من الملتزم بها التزامات وتطلبات؛ إذ ما من نظرية أخلاقية إلا وتتطلب من المرء أن يلتزم بمبادئ، وما كانت النظرية النفعية ببدع من هذا، لا كانت هي شديدة مفرطة في التطلب لا ولا كانت هي مفرّطة فيه، بل هي بين بين.
  4. دفع الاعتراض الرابع: يدعي هذا الاعتراض أن النفعية تعامل الناس وكأنهم كتلة واحدة بحيث لا تقيم تفرقة بين الأشخاص. ورد المؤلف على هذا الاعتراض أن مفهوم عدم التفريق هذا مفهوم شديد الانبهام، وأن النفعية لا تمنع من النظر في كل حالة حالة. وحين تفعل، فإنها تجد أنه في العديد من الحالات، يتمثل الصواب في القول بأن من الأمر الصائب أخلاقيا أن يؤدي البعض تكاليف نيابة عن البعض، وذلك تحصيلا لمنافع أكبر عدد، وما من نظرية تنكر هذا إلا وهي تجانب الصواب. وفي أحوال أخرى، يكون فرض تكاليف على شخص فعلا غير صائب حتى وإن كانت له آثار أفضل. لكن، في الحالين معا لا بد من أخذ الإلزامات الأخلاقية بعين الاعتبار، بما في ذلك الحقوق الأخلاقية أو المعنوية، لتفسير الحكم بالصواب أو بالخطأ.
  5. دفع الاعتراض الخامس: مفاد هذا الاعتراض أن النفعية تبدو نظرية غير ملائمة إذا ما نحن نظرنا إليها من منظور الفلسفة السياسية. ذلك أنها تقتضي مجرد صورة للسياسة تكنوقراطية وتبسيطية؛ حيث يسعى خبراء أخلاقيون إلى تطبيق مبادئ على قضايا اجتماعية أو اقتصادية. هذا بينما تتطلب السياسة جدلا وخلافا بين طرق متعقلة ومتصارعة من رؤى العالم وبين مصالح متعارضة من مصالح بني البشر. وأمام هذا الأمر تبدو النزعة النفعية عاجزة عن تفسير أهمية تسويغ الإجراءات؛ وتظهر بالتبع عاجزة عن تفسير أهمية الديمقراطية. ينكر المؤلف هذا الإلزام، مبرزا اقتدار النفعية على تفسير هذه الأمور. ويطرح مفهوم "المشروعية" "الرقيق" الذي ينص على أنه: يكون إجراء ما إجراء مشروعا بقدر ما ينضبط الأفراد الخاضعون إلى قراراته لدواعي غير الإكراه والقسر؛ بحيث تمسي المشروعية هنا لا خاصية معيارية صرفة، وإنما خاصية اجتماعية بالأولى وذات دلالة معيارية بالثاني. فهي تفسر ما لا يمكن إنجازه بالإكراه. وهو ما يفتح المجال للقول في الديمقراطية بعينها.
  6. الاعتراض السادس: يميل هذا الاعتراض إلى اعتبار أن النزعة النفعية تقوم على نظرية نفسية في الأفراد غير معقولة، وعلى صورة لحياة الفضيلة غير جذابة. وجواب المؤلف: ثمة نسخة أولى من هذا الاعتراض ترسم صورة للنفعية على أنها نزعة مهووسة بحساب كل شيء: سياسة تستعمل الحساب ذريعة لاتخاذ أي قرار. والحال أن النفعيين ما فتئوا ينكرون هذه التهمة الإنكار. وثمة نسخة أخرى من هذا الاعتراض ترى أن النفعية تفتقد إلى تصور للإنسان الفاعل من حيث ما هو إنسان فاضل؛ أي باختصار تفتقد إلى نظرية في الفضيلة مثلما افتقدت ـ حسب الاعتراض الأول ـ إلى نظرية في القيمة. ورغم أن المؤلف يقر بأننا معشر البشر نصاب بالدوار حين يتعلق الأمر بصوابية اتخاذنا لأفعال معينة وخياراتنا ذات الأثر الأخلاقي، فإننا قادرون على إصدار أحكام عاقلة حول قيمة مختلف إجراءات القرار. كما أنه يمكن بلورة "نظرية" الفضائل باعتبارها صفات طبيعية تشكل بواسطة سمات قرارات جيدة (تدفع الفعل دوما إلى التصرف تصرفا صائبا)، وكذلك ذات قيمة عالية (تُختار باعتبارها تستأهل المديح بالنظر إلى قواعد ممارسة قواعد مديح تشجع على رفاهية العيش والحياة الطيبة).

أخيرا، يخلص المؤلف إلى أن النظرية النفعية، بعد عرضها على محك هذه الاعتراضات الستة، قد خرجت منتصرة؛ بحيث لا تثريب عليها اليوم. فلا اعتراض من هذه الاعتراضات الستة يمكنه أن يطيح بنسخة النفعية التي يرتضيها المؤلف وينافح عنها. ولذلك، فإن النفعية، شأنها في ذلك شأن أية نظرية أخلاقية أخرى، تستحق أن تحمل على محمل الجد.

---------------------------------------

عنوان الكتاب : حمل النفعية محمل الجد
اسم المؤلف : كريستوفر وودارد
دار النشر : مطابع جامعة أوكسفورد
سنة النشر : 2019

 

أخبار ذات صلة