لويدجي أندريا بيرتو
عزالدين عناية*
كان للتوسّع الإسلامي في الجهة الغربية للبحر الأبيض المتوسّط الأثر البارز في تاريخ إيطاليا. وبالفعل اِنجرّ عن ذلك فتح صقلية، وعَمَّ صدى الحضور العربي قسمًا واسعًا من جنوب إيطاليا وأماكن أخرى مجاورة. غير أنّ المصادرَ التي بحوزة المؤرّخين، حول ذلك التمدّد، هي في المجمل أعمال تروي عن وقائع الحروب والغزوات، وعن مظاهر التدافع بين الوافدين والأهليّين. ما يزمع المؤرّخ لويدجي أندريا بيرتو إبرازه في كتابه: "المسيحيون والمسلمون في إيطاليا خلال القرون الوسطى" هو ذلك التاريخ الاجتماعي الغائب، دون طمس ما فيه من تدافع وتعايش. ليمتدَّ القوس الكرونولوجي للبحث، على مدى يتراوح بين مطلع القرن التاسع الميلادي ونهاية القرن الحادي عشر، أي بما يغطّي الفترة المتراوحة بين فتح صقلية وإلى غاية استرجاعها من قِبل النورمان.
نذكر أنّ المؤلِّفَ لويدجي أندريا بيرتو هو أستاذ التاريخ الوسيط في "جامعة واستارن ميتشيغان" بالولايات المتحدة، وقد صدرت جلّ أعماله بالإنجليزية والبعض منها بالإيطالية وانشغلت أساسا بتاريخ إيطاليا الوسيط. فلم يسبق له أن أصدرَ كُتبًا على صلة بقضايا الثقافة العربية، رغم أنّ حقل بحثه العام على صلة بالثقافة العربية. يُعتَبر هذا الكتاب بحثَه الوحيد الذي يتطرّق فيه إلى تاريخ العرب، أو كما يسمّيهم "السراسِنة"، وقد برّر استعمال هذه التسمية بقوله إنّ المسلمين المتوافدين على إيطاليا ما كانوا عربًا بالأساس، بل خليطا من العرب والأمازيغ والفرس ومن شعوب ما وراء الصحراء، فمال إلى استعمال هذه التسمية الجامعة.
يبقى هدفُ المؤلِّف الرئيس في الكتاب السعي للإحاطة بالرواية المرجعية للفتح العربي لصقلية؛ لكنّ ذلك البحث لم يَحُل أحيانا دون توظيف مصادر غير موثوقة، كما الشأن أثناء الحديث عن قصة ترحيل رفات القديس مرقص من الإسكندرية إلى البندقية، بعد أن اغتنم المسيحيون نفور المسلمين من لحم الخنزير فخبّأوا الرفات تحت لحم الخنزير. يحاول الكاتب أن يأتي على التصورات الرائجة في أوساط العامة، والمتداوَلة بين الصفوة، من ساسة ورجال دين ومثقفين، بشأن المسلمين، مستعرضا التسميات والنعوت التي كانت تُطلَق على المسلمين: مثل السَّراسِنة، والبرابِرة، والهاجريّين وخصوم الصليب. مبرزًا لويدجي أندريا بيرتو من خلالها الصورة الدينية التي هيمنت على المؤرخين الغربيّين ممّن أرّخوا للمسلمين، كما هو الحال مع إيليا إيل جوفاني (Elia il Giovane) الذي يُسمّي المسلمين بالهاجريّين. في الأثناء يتفحّص لويدجي أندريا المعارف السائدة حول المسلمين في بدايات الفتح العربي لصقلية، فيبيّن مثلا في "يوميات غوليالمو دي بوليا" ورود أول ذكر للنبي محمّد (صلى الله عليه وسلم). ففي المجمع الكنسي المنعقد في بينفينتو، بين العام 840 والعام 880م، جرى منع رجال الكنيسة من حيازة الإماء كجَوَارٍ، تجنّبا لتقليد تلك الممارسة المباحة لدى المسلمين. في مشهد آخر حول الوعي بالدين الإسلامي يورد الكاتب بعض حيثيات مجمع القسطنطينية (787م)، وقد تضمّنت المداولات بعض الإشارات إلى المسلمين، حيث يَرُدّ المسيحيون على اتهام المسلمين لهم بالوثنية.
في الكتاب نجد استدعاءً لصور نمطية عن سلوك المسلمين مع المقدّسات المسيحية، اعتمد فيها الكاتب نصّا مجهولا لمؤلِّف يعود إلى مدينة ساليرنو الإيطالية، بشأن التعامل مع القديسيْن كايو وآنت. يحاول الكاتب استدعاء كافة أحداث التدافع، كما الشأن أثناء اقتحام كاتدرائيتيْ بطرس وبولس في روما. من زاوية البحث التاريخي يُعَدّ الكتاب رياديّا في السعي إلى بناء نصّ تاريخيّ عن فترة تواصل المسيحيين بالمسلمين في جنوب إيطاليا. حيث يعتمد المؤلّف الوثائق التاريخية المباشرة وشبه المباشرة عن أحداث تلك الفترة، وذلك بالعودة إلى مخطوطات الكنائس والأديرة في ذلك العهد. ويحاول من خلالها استعادة كافة مظاهر العقلية الوسيطة السائدة في وعي المغايَرة. ولا يتوانى المؤرخ عن رصد الوعي الشعبي الأسطوري والخرافي في دفع الأذى الذي يمثّله المسلمون، ولو كان باستحضار الصور الفانتازية. فعلى سبيل المثال لمّا وصف نصّ "العهد القديم" -المرجعية الأولى لدى المسيحيين- أتباعَ الفرعون بشتى النعوت المشينة، تمّ إسقاط تلك الأوصاف على المسلمين، بما يوحي بتحدّر المسلمين من السلالة نفسها. كذلك ثمة نعوت بشأن الخصوم يستعيدها الكاتب، لا يليق إيرادها مجددا دون نقاش أو تنبيه لخطورتها. ثم يستعيد الكاتب بالمثل صورة العداء المعكوسة التي صنعها المسلمون تجاه خصومهم النصارى، سيما لمّا هاجم النورمان مدينة المهدية (سنة 1087م) وذلك تحت عنوان "المسيحيون في المصادر الإسلامية".
ثمة ما يبرّر المنهج المعتمد من الكاتب، وهو يحاول استعراض العقلية الشعبية الإيطالية أثناء الفتح الإسلامي. ففي الفصل المعنون بـ"الما فوق طبيعي" يستعرض الكاتب مظاهر تدخّل القدّيسين والقدّيسات في مجريات الأحداث بين المسلمين والإيطاليين، على غرار الظُّلْمة التي أنزلها القدّيس برتوليميو في عزّ النهار ليخفي السفينة التي تقل رفاته حتى لا يصادرها السراسنة؛ أو النور والظلمة المنبعثين من القديسة إيليا سبليوتا لترهيب الأعداء الذين حاولوا نهب مرقدها (ص: 111-112). فلا يبدي الكاتب انتقادا لتلك النظرة الأسطورية للتاريخ بل يكتفي باستعراضها، إذ عادة ما فسّرَ المسيحيون القوة الضاربة للمسلمين بأنها سوط عذاب مسلَّط من الربّ جراء الخطايا المقترفة من قِبل المسيحيّين.
لكن ما وَعدَ به المؤلِّف في مستهلّ كتابه من عناية بالتاريخ الاجتماعي للفاتحين والأهليين من أبناء البلد، أتى باهتا في ثنايا الكتاب، ولم يتعدَّ ذكر وقائع محصورة لا تفي بالغرض. فقد غلب على مضامين الكتاب استعراض مظاهر التوتّر التي رافقت بدايات الفتح الأولى للمدن الإيطالية، ولم نجد ذكرا موسَّعا للتعايش واللقاء، سيما وأنّ القادمين بقوا ما يتعدّى القرنين في بعض المدن.
لقد بقي المؤرخ رهينَ إيراد أشكال المغايَرَة التي رافقت صدمة نزول المسلمين بالمدن الإيطالية، التي لا شك قد رافقتها مظاهر غلظة وقسوة. ولم ينحُ النص صوب رصد وقائع العيش المشترك، كما غاب من الكتاب توصيف حياة المسلمين وطرق عيشهم، خصوصا وأنّ ما خلّفوه من تأثير في المجتمع كان مبهرا، وهو ما نال عناية لدى مؤرّخين آخرين. لقد تسلّطت على الفترة الإسلامية في صقلية العديد من الدراسات، التي باتت من الأبحاث الكلاسيكية في الموضوع، نذكر على سبيل المثال كتاب ميكالي أمّاري المترجم إلى العربية بعنوان "تاريخ مسلمي صقلية" (2004)، و"موجز تاريخ العرب في صقلية" (2010) لفارديناندو ماوريشي، و"صقلية والإسلام" (2016) لأنطونيو بلليتاري، و"شعراء صقلية العرب" (2016) لفرانشيسكا ماريا كوراو.
في تأليف كتاب "المسيحيون والمسلمون في إيطاليا خلال القرون الوسطى" مثّلت المخطوطات المتأتية من الأديرة والكنائس الإيطالية، لا سيما منها مدوَّنات سِير الأساقفة والرهبان، العنصرَ الرئيس في تدبيج الكتاب. صحيح تم الاعتماد على بعض المؤلفات التاريخية الإسلامية المترجَمة أثناء الحديث عن الفترة المعنية، مثل كتاب "رحلة ابن جبير" (1979) و"ديوان ابن حمديس" (1998) المترجمين من طرف شيليستينو سكياباريللي؛ لكن على العموم جاءت المصادر العربية قليلة العدد ومثّلت مرجعية ثانوية. حيث لم يعتمد المؤلف على النصوص التاريخية الإسلامية بشكل مباشر، بل روى ما ورد عنها لدى كتّاب آخرين. نشير إلى أنّ المؤلّف لا يعرف العربية، كما أنّ اطّلاعه على المدوَّنة التاريخية العربية بشأن صقلية محدود وضئيل، باستثناء بعض الأعمال المترجمة أو الوارد ذكرها لدى آخرين مثل ميكيلي أماري في "تاريخ مسلمي صقلية". في أحد فصول الكتاب المعنون بـ"المسيحيون في المصادر الإسلامية" يحاول المؤرخ لويدجي أندريا بيرتو عرض المنظور الإسلامي، لا يراجع في ذلك أمهات المدونات العربية التي أرخت للفترة، ويكتفي باستحضار مقتطفات مترجَمة واردة ضمن مؤلفات غربية.
لا يبدي الكاتب نقدا للقراءة المركزية الأوروبية للتاريخ الإسلامي ذي الصلة بالغرب، بل نراه في العديد من المواضع ينساق إلى ترديد المقولات الرائجة بشأن الفتح الإسلامي. فلا يلمس القارئ نقدًا في الكتاب للمقولات التاريخية بشأن الحقبة الإسلامية، بل انسياقًا في ترديد مضامينها واستعادة أحداثها. ومن هذا الجانب لا يمكن عَدُّ الكتاب إسهامًا أو مسعى إيجابيًّا لبناء رؤية متسامحة مع الآخر. ثمة مركزية لدى الباحث في استحضار الرؤية الغربية للأحداث لا يقابلها سعيٌ بالمثل لاستحضار الرؤية العربية، وهو ما يغرق البحث في التعويل على مصدرية مرجعية متماثلة. إذ برغم حساسية الموضوع المتناوَل لا يُبدي المؤلف مراجَعة أو تصحيحا في الشأن.
محاولة الكاتب إعادة بناء الأحداث التي أَلمّت بالحضور الإسلامي في إيطاليا بالاعتماد على النصوص الأولية، مثّلَ مجهودا معتبرا، خصوصا وأنّ جهدًا واضحا يلمسه القارئ لدى الكاتب في بناء الأحداث، وهي تعرب عن قدرة في الإحاطة بالمصادر، قلّ أن تتوفرَ لكثير من الباحثين. لعل من هذا الجانب يُعدّ كتاب لويدجي أندريا بيرتو كتابا متفرّدا وقلَّ أن ترتقي إليه مؤلفات أخرى حاولت أن تؤرخ للفترة، حيث حاول الباحث صياغة صورة شبه مواكبة للوقائع. لكن للأسف جاءت العودة للمصادر الأولى مقتصرة على مصدرية وحيدة دون سواها. كان تركيز النص على مظاهر الصراع والتنافس السائدة بين الفاتحين وأهالي البلد، سيما أثناء بدايات نزول المسلمين بالأراضي الإيطالي وغفلته، أو تغاضيه، عن ذكر التعايش الحقيقي في ظلّ حكم المسلمين نقيصة بارزة في الكتاب. فمن الطبيعي أن يسود التوتر إبان لحظات الفتح الأولى، ولكن ما أعقب ذلك من تعايش الناس، هو ما كان يقتضي توضيحا في مضامين الكتاب التي غلب عليها استعراض أوضاع اللحظة الأولى للفتح.
لم تتّسم لغة الكاتب التاريخية بالحياد المطلوب في نقد المصادر. ومن هذا الباب، ما كانت لغة الكتاب العلمية محايدة في العديد من المواضع، حيث غلب على صياغة النص حشر فصوله بالقصص والمرويات ذات الطابع المتكرّر وهو ما أثقلَ النص. أما من حيث اختيار المصطلح، فلا نعدّ خيارات الكاتب موفقة في العديد من المواضع، فعلى سبيل الذكر كان اختيار المؤلف مصطلح "السراسِنة"، دون غيره من المصطلحات، للتعبير عن الفاتحين المسلمين متضمنا لشحنة تحقير وتحامل، رغم محاولته تبرير ذلك الخيار في مطلع الكتاب بكونه المصطلح الرائج في تلك الفترة في الأوساط المسيحية.
على مستوى الشكل تضمّن الكتاب ثلاثة فهارس لا غير: فهرس للموضوعات، وثان متعلق بالبيبليوغرافيا، وثالث ضمَّ الأعلام والأماكن. كما وردت في الكتاب في صفحة يتيمة كرونولوجيا حَوَت أهمّ تواريخ الأحداث التي عايشتها صقلية. حيث بدا الكاتب مستعجلا في تأثيث مضامين كتابه بما يلزمها من فهارس. كما تضمّن الكتاب خمس خرائط تصوِّرُ تموقع صقلية في المتوسّط وفي الجغرافيا الإيطالية بشكل عام. وهي خرائط لا نقدّر أنها تشكل إضافة لمضمون الكتاب لكونها تصوِّر مضامين عامة كخريطة تموضع صقلية في المجالين الإيطالي والمتوسطي. من جانب آخر لم يعتمد الكاتب الرسوم والجداول في دعم أطروحته وعوّل كلّ التعويل على استحضار النصوص المستمدة من الأرشيفات بالأساس. لعل أدوات التوضيح الإضافية ضرورية في مثل هذه الأبحاث وهو ما أسقطه المؤلف بشكل فجّ من كتابه.
نشير إلى أنّ الكتابَ وإن غلب عليه الاعتماد على النصوص المرجعية، فقد تخلّلته العديد من الهنات من حيث التدوين للفترة والإلمام بكافة معطياتها. ساهمت هذه العناصر وغيرها في جعل الكتاب مؤلفا عاديا ضمن المؤلفات المعنية بتلك الفترة. فلم نرصد اهتماما كبيرا في الأوساط العلمية أو الأكاديمية الإيطالية بالكتاب من حيث الاحتفاء بعمق طرحه، ولعل ذلك عائد من هذا الجانب، إلى أنّ الكاتب ليس من جماعة الكتّاب المشهود لهم في الدراسات العربية أو الإسلامية في إيطاليا. هذا ما يجعل الكتاب متوسِّطا من حيث القيمة العلمية، ولا يرتقي إلى المؤلفات الفارقة التي تؤسس لجديد أو تدحض أخطاء مستشرية. فهو نصّ متواضع من حيث الإسهام في العناية بالفترة المحددة للبحث. رغم ما تطلّع إليه الكتاب من تأريخ لحقبة التعايش بين المسيحيين والمسلمين في إيطاليا أثناء الفتح العربي وبعده، لا نقدّر أنّ الكتابَ استوفى مقتضيات تلك التطلعات بالإحاطة والاستعراض. جاءت فصول الكتاب في بعض الأحيان استعراضا مملّا ومتشابها لأحداث افتقدت إلى السلاسة المطلوبة. كنّا نأمل أن يكون الكتاب اكتشافا للتعايش الاجتماعي في تلك الفترة، وانحيازا للإسهام الحضاري بعيدا عن المشاحنات الدينية أو القومية. كما أنّ الطابع الروائي للأحداث، دون التعرض إلى تحليل الوقائع، أو نقد المرويات، شكّل جانبا سلبيّا أخلّ بقيمة الكتاب التاريخية.
----------------------------------------------------------------------
الكتاب: المسيحيون والمسلمون في إيطاليا خلال القرون الوسطى
تأليف: لويدجي أندريا بيرتو.
الناشر: منشورات جوفانس (ميلانو- إيطاليا) 'باللغة الإيطالية'.
سنة النشر: 2019.
عدد الصفحات: 247 ص.
* أكاديمي تونسي مقيم في إيطاليا
