جان فرانسوا آنيشانسلن
سعيد بوكرامي
من سارتر إلى ديريدا، مرورا بلاكان أو ريكور، كان المشهد الفكري في القرن العشرين يموج بالأفكار المثيرة إثر مجابهة خلاقة بين الفينومينولوجيا والتحليل النفسي. وانطلاقا من هذه الأفكار الموازية والمتقاطعة والمتصادمة للمفكرين والفلاسفة في القرن العشرين حاول المفكر الفرنسي جان فرانسوا آنيشانسلن في كتابه الأخير " الأفكار الموازية بين هوسرل وفرويد" العمل على نسج مقارنة بين هذه الأشكال من الفكر ولكن بطريقة لا تمحو أصالتها وفرادتها، من خلال النظر في مسارات هوسرل وفرويد وتطورهما الفكري وما نتج عنه من تأثير وتوليد للأفكار والنظريات.
لطالما كانت العلاقات بين الفلسفة والتحليل النفسي معقدة وصعبة: فرويد لا يثق كثيرا في الفلاسفة الذين كانوا يشككون في مصداقية التحليل النفسي ويفرغونه من محتواه المعرفي، بل إنهم يوجهون انتقادهم لنظرية اللاوعي وحصرها في وجهة نظر الوعي. الفلاسفة، من جانبهم، يفسرون غريزيًا التحليل النفسي على أنه تعدٍّ على مجالهم المحجوز، ونشاطهم الفكري، وأشكال تدخله وأعماله، هذا هو السبب في أن التحليل النفسي والفلسفة قد أبقيا بحذر مسافة بينهما، كما لو أنهما قررا بكل معنى الكلمة تجاهل بعضهما البعض. لكن حدث نوع من التقارب مع بداية القرن العشرين، بمبادرة من ممثلين بارزين للتيار الفلسفي الفينومينولوجي والتحليل النفسي. وهذا ما سيركز عليه جان فرانسوا آنيشانسلن إذ سيسلط الضوء على الخلفية الفلسفية الصارمة لعلم الميتالتحليل النفسي الفرويدي، أو الأهمية الأخلاقية، والسياسية للفينومينولوجيا في سياق صعود النازية وما قبلها. وكذلك من خلال علاقتهما المتمثلة في اللانتماء إلى الديانة العبرية، وبالتالي الوقوف عند قياس أهمية لقائهما وتأثرهما بفلسفة برينتانو أو شخصية نيتشه،ومن هنا تكمن أهمية الكتاب لأنه يحاول فهم بعض الجوانب المركزية لهذين الشكلين من أشكال التفكير الاستباقي و الجذري والخلاق. في عام 1900، ظهرت الفينومينولوجيا وكذلك ظهر التحليل النفسي في الساحة الفكرية في الفترة نفسها. وخلال أربعين عامًا، طور هوسرل (1859- 1938) وفرويد (1856- 1939) بمثابرة مذهلة أشكال التفكير التي عكفا على إنجازها، تاركين وراءهما منجزا فكريا ملفتا وعظيما. يبدو أن نصوصهما الأخيرة، التي حللت الأزمة والعلل النفسية وأشكال التفكير في الظواهر قد أثرت على الثقافة الغربية، وبرهنت على رؤيتهما الفكرية السابقة لأوانها والمستشرفة للمستقبل، على الرغم من أنهما ماتا قبل أن يشهدا زلزال الحرب العالمية الثانية ونتائجه المدمرة للإنسان والمكان ومعها ملايين من ضحايا الإجراءات المعادية للإنسانية.
كان فرويد وهوسرل، مفكرين متجاورين على الرغم من الاختلافات الواضحة بينهما، ويبدو أن هذه الأفكار الموازية التي نشأت داخل أنساق ثقافية واجتماعية موازية تلتقي عند مشتركات كثيرة، لكن عند محاولة الوقوف عند نقط التلاقي يصبح تقاربهما في كل مرة محكومًا عليه بالفشل أو الغموض أو الإحراج. وبعيدًا عن محاولة جعلهما يلتقيان، يسعى هذا الكتاب الحديث، على العكس من ذلك، إلى الكشف عن خصوصياتهما. لهذا يولي الكتاب اهتمامًا خاصًا بالعلاقات التي يمكن تأسيسها بين النصوص المنشورة والكتابات، بكل أنواعها والمركونة في الأرشيف. عندما تتقاطع المسارات، يمكن قراءة كل فكرة من الأفكار المعبر عنها والحياة التي ساهمت في ظهورها. ومن ذلك تظهر علاقة هوسرل وفرويد بالدين، وأهمية لقائهما ببرنتانو أو الأهمية التي تحتلها شخصية وأفكار نيتشه عندهما والتي تتجلى بصورة جديدة في نصوصهما، وكذلك الرابط العرقي، حيث يحضر الأصل العبري بوضوح، والذي تنكره الفينومينولوجيا في حين أن التحليل النفسي يفترضه ويكثفه ويحلل رموزه.
بين عامي 1890 و1930، شكلت قضية العقل "لحظة" فلسفية جمعت بين الأعمال الفردية مثل أعمال هوسرل أو فرويد. ومع ذلك، فإن حقيقة أن هذين المؤلفين ينتميان إلى اللحظة نفسها لا يسهل بأي حال من الأحوال تحليل تكوينهما الفكري ونظرياتهما الفلسفية والنفسية. بل على العكس من ذلك، يمكن للتشابهات أن تشوش عليها. لم ترد هذه الصعوبة في المقالة الأساسية للمؤرخ كوينتين سكينر، الذي فكر بحق في حل الانحرافات المنهجية في عدم تطابق الأعمال في تحليل "سياق المعنى" الخاص بهما. ولكن بعد ذلك، لم تتمكن المقارنة من أن تمحو أيضًا الطابع المتفرد للمفكرين؟ واضح أن هدف جان فرانسوا آنيشانسلن هو الدفاع عن الأطروحة العكسية من خلال رصد النقاط المحورية وتحليله مكامن التشعبات النظرية لهوسرل وفرويد. إنطلاقا من دراسة نهج المؤلف وربطه ب "سياق المعنى" الذي يجمع بين المشكل نفسه، والمعجم نفسه، والزمن نفسه والوقوف عند كل ما هو مهم في هذا السياق، والذي يساهم المؤلف أيضًا في تعديله وفق مواقفه النظرية. تكمن أصالة هذا الكتاب في الحفاظ على متطلبات هذه البؤرة المزدوجة من خلال وضع عدسة مكبرة أحيانًا على هوسرل، وأحيانًا أخرى على فرويد، من أجل إعادة تشكيل التكوين والتطور "الموازي" بين الفينيمونولوجيا والتحليل النفسي بدءًا من المحطات والتحولات الفريدة لهذين المؤلفين المتشعبين. ومع ذلك، فإن اللجوء إلى النموذج القديم لـ "حياة موازية" الذي ابتدعه بلوتارخ ليس من السهل تحيينه: لأن التأثير لا يكون متوقعا بالنسبة لمفاهيم التحليل النفسي، التي لم يعتد عليها في تاريخ الفلسفة المعاصرة. لكن التعريف الموازي الصارم لا يعني فقط أن الأعمال لا تجتمع أبداً، لتتلاقى، ولكن أيضًا لأنه قد لا توجد نقاط تقاطع، بما في ذلك تحديد التشعبات الفكرية بين التحليل النفسي والفلسفة ونقط تلاقيها. يعتمد ذلك بالتأكيد على كيفية تحديد "نقط التقاطع" أم لا. وهذا لا ينفي حقيقة وجود مشكلة في بناء منهجية الكتاب: كيف يمكن أن يأت متوازيان من نفس السياق؟ يتعلق الأمر، بالأحرى، ببؤرة أو زاوية تفتح الباب على مصراعيه للنظر إلى (هوسرل وفرويد) وهما يجلسان ويحددان، بين هذين الخطين، سطحًا معينًا تتجلى من جنباته مفاهيمهما ودلالاتها في مشتركها ومفترقها وكأنهما يمضيان في نهرين متوازين ويلتقيان عند مصب المعرفة الفكرية والإنسانية.
بالتوافق مع هذا الهدف المنهجي الذي سعى إلى تحقيقه جان فرانسوا آنيشانسلن، ويتضمن طريقة معيارية لتضمين أوسع لنصوص ومفاهيم هوسرل وفرويد. في الواقع، تتضمن "الأوراق الصغيرة" (ص 31) المأخوذة في أغلب الأحيان من الأرشيف (مثل القراءات أو الدورات أو الندوات الصغيرة أو المراسلات أو المسودات، إلخ). فإذا كانت منهجية التحليل لفكرهما تحاول إعادة تحديد "نقاط التحول" الرئيسية في عمل واحد، فإن التحليل الدقيق هنا يتألف من تحديد أماكن المعابر النظرية وتشعبات المفاهيم، في محاولة لاستعادة التفكير في "حيوات" المؤلفين القادمين من نمط الحياة نفسها التي أتاحت لهما توليد "ألعاب لغة" جديدة وبالتالي "أشكال حياة" جديدة وفريدة من نوعها (ص. 245).
وفي هذا الإطار حاول المؤلف تحديد هذه المشكلة الأنثروبولوجية التي تسعى إلى وحدة الفكر وتنوعه غير القابل للاختزال المرتبط بديناميته التطورية، بدءا بتأثره بالمنهج النفسي، ثم انتقاله إلى تأسيس أطروحته الفلسفية حول قواعد الظواهر. لهذا اختار جان فرانسوا آنيشانسلان ثلاث قضايا فلسفية لتحديد الاختلافات في أشكال التفكير اعتمادا على الخلفية التاريخية نفسها: الدين والأخلاق والثقافة. يحلل القسم الأول المعالجة الفردية لإيمان رجلين فيما يتعلق بصياغة قضية مزدوجة: المثل الأعلى للعلمية ويهوديتهما. فقد كان يرغب كل من هوسرل وفرويد بشدة في تحقيق هذا المثل الأعلى، مع إبعاد أصلهما. ضمن الدائرة الأولى للحركة الفينومولوجية، التي تميزت بسلسلة من التحولات إلى الكاثوليكية، يقول هوسرل كيف يمكن العثور على السمو حتى في صميم التفكير في المنطق والمثاليات الرياضية. إنها طريقة لتحديد "نقطة تحول علم اللاهوت" في الفينومينولوجيا قبل نشأتها الفرنسية بعد الحرب (ص 35-60)، على الرغم من أن هذا الرابط بين الرياضيات واللاهوت هو أمر شائع في الفلسفة الحديثة. وفي حركة التحليل النفسي، وفي أعقاب أطروحات لودفيج فيورباخ، تصبح العقلانية انتقادا للحداثة. في هذا السياق، لا تعمل اليهودية فقط كموقف تحليلي مميز للحكم على الحقائق الثقافية، ولكن أيضًا كتغيير منهجي أو أنثروبولوجي للفلسفة، يتميز بجذوره الضاربة في تربة التراث اليوناني (ص 61-87).
أما القسم الثاني فيعالج مفهوم الأخلاق على ضوء الفينومينولوجيا والتحليل النفسي. السؤال هو معرفة ما إذا كان الوصف شرطا أساسيا وكافيا أو أن الوراثة تكمل السيرورة النهائية، أو تقوم مقامه بالكامل. إن " علم الأخلاق" هو في الواقع رهان قطعي داخل وضع فلسفي حيث " فلسفة القيم" تشكل المناقشات والنزاعات حول " الحياة" المثالية لأجل قيادة البشرية في عالم ماتت فيه القيم. كان الرجلان يفكران باهتمام كبير في الوصف وضد الضرورة القصوى إلى الوراثة وبمفهوم جديد للحكم؛ إذ كانت أطروحتهما مستنبطة من نفس النبع: نبع الفلسفة العملية ورائدها فرانز بيرناتو المتخصص في الفلفسة الأرسطية والسكولاستية. وبذلك برزت أفكارهما كبوتقة لجينالوجيا أخلاقية تبحث وتنحت مفاهيمها من أهمية الجانب " العاطفي". بالنسبة لهوسرل فإنه المعيار الوحيد للشرعية التي تتقاطع مع الفلسفة الأخلاقية اللاهوتية. (ص 91-118) لكن بالنسبة لفرويد فهو بالتأكيد الأصل الوحيد لأخلاقنا المتحضرة. لكن نقطة التشعب هنا هي مسألة الجنون (ص 141) لأن العاطفة هي الأداة الاستراتيجية لإثبات وجود (الإدراك الداخلي) بدون وعي واضح به، ويقصد حكما أساسيا لا تتم صياغته باللغة. هناك عناصر أصلية لميتالتحليل النفسي الفرويدي، الذي كان يرى في الأصول التي لا يمكن ملاحظتها وإدراكها دينامية مصيرية لتمثلات الإنسان تجاه نفسه والعالم (ص 119-168).
يخصص القسم الثالث لمعالجة القلق والعلل في الثقافة " العدمية" ومكانة نيتشه في أعمال هوسرل وفرويد وإلى ما أبعد من الأمكنة المشتركة للنقد الحضاري وتشخيصه لعلل المرحلة. على الرغم من أن هذا الأمر قد يبدو غير بديهي، إلا أن هوسرل لا يفلت من هذا الخطاب الذي يمكن تحديده في محاضرة أو رسالة ترتبط بخطاب قديم يعود تاريخه إلى نهاية القرن الثامن عشر (في فرنسا على الأقل) ونعني به النقد التأملي أو الأنظمة التأملية التي تحظى بشعبية كبيرة في ألمانيا بعد وفاة هيغل. من خلال الانتباه إلى التاريخ الذاتي للشخص (تأمل الذات بشكل مرآوي) يريد هوسرل التفكير في التقليد الفلسفي برمته، وهنا يبين جان فرانسوا في تحليله الصلة بين السيرة الذاتية والفلسفة، دون أن تسحق الأولى الثانية وتغمطها أهميتها. في هذا السياق يستطيع هوسرل أن يفسر نزعته كفيلسوف ومهمة الفلسفة في القرن العشرين (ص 171- 205). إن استراتيجية تجنب فرويد لينتشه معروفة جيدا باستثناء اللحظة التي جعله فيها "حالة" عبقرية يجب أن تحلل من وجهة " علم النفس المرضي"(ص 207- 243).
في النهاية يبرز عمل جان فرانسوا آنيشانسلن بشكل معمق القيمة الاستكشافية بالنسبة لمؤرخ الفلسفة ورهان تبئير ذهنيتين متوازيتين تارة ومختلفتين تارة أخرى وبين ما يمكن مقارنته وما يتعذر مقارنته وما بين النظري والسيرذاتي والخلفية السياقية التي يمكن أن يبرز فيها الشكل الأصلي للفكر. إنها بلا ريب، طريقة مثيرة للاهتمام لنزع فتيل القراءات الأسطورية للشخصيات الفلسفية، مع إحداث قطيعة جذرية مع المعجم الغامض " لسلطة الأثر". ومع ذلك، إذا كان غياب اللقاء بين هوسرل وفرويد يلقي ضوءا جديدا عن تجربتهما الفكرية المهمة الموازية في بعض السياقات والمتقاطعة في سياقات أخرى إلا أن علاقتهما الخاصة بالفلسفة والرهانات الفلسفية لعصر معين عاشا تحت تأثير مناخه الثقافي الغائم ونتائجه المدهشة حد العبقرية والمرعبة وحد الجنون، فهذا ليس هو الحال مع فهم محاولات المواجهة واللقاء التي تتشكل أحيانا بين الظواهر والتحليل النفسي، وفقا للعبة التحولات المتبادلة في الممارسة العلاجية وعلم النفس المرضي، التي تكون أحيانا موضع استياء من طرف الكثير من الفلاسفة وعلماء التحليل النفسي. وعند هذه النقطة الدقيقة، يتحول تاريخ الفلسفة إلى تاريخ للأفكار التي تشبه في توازيها وتشعبها وتضاربها وتصادمها وقطائعها التاريخ الاجتماعي والثقافي للإنسان.
-------------------------------------------------------------- 
الكتاب: الأفكار الموازية بين هوسرل وفرويد
المؤلف: جان فرانسوا آنيشانسلن
الناشر: أنتيبود. السلسلة الفلسفية. لوزان، سويسرا
سنة النشر: 2019
اللغة: الفرنسية
عدد الصفحات: 260ص
