توماس ستيرن
علي الرواحي
يدرك الراغب في الكتابة عن الفيلسوف الألماني نيتشه بأنه يواجه الكثير من التحديات المختلفة، وربما أهمها: أسلوبه في الكتابه الذي يشبه الرمال المتحركة، كما أن كتاباته من الجانب الثاني تتسم بأنها غزيرة، مشتته، متنوعة، جذابة ومنفرة في نفس الوقت، مألوفة وغير مألوفة في العمل الواحد. في حين يأتي التحدي الثاني من العدد اللانهائي والكبير من الإحالات، والحواشي، أو المواضيع والمصادر التي لا يتم الإحالة إليها، ولا الأشخاص، وهو ما يُشكل صعوبة كبيرة في التتبع والفهم. كما أن التحدي الثالث – حسب المؤلف – والذي يشكل أكبر التحديات في قراءة نيتشه يكمن في عدم معرفة الأفكار المسبقة، والتحيزات، والآمال، والأحلام، أو المدارس التأويلية التي يأتي بها القارئ عند اطلاعه على أعمال نيتشه، بما في ذلك أيضا العداوات المتوقعة معه، والتي من الممكن معرفتها من خلال المؤلفات التي كُتبت عنه، مثل: نيتشه والنازية في عام 1992م، أو نيتشه والمشكلة اليهودية: بين معاداة السامية ومعاداة اليهودية في عام 2016م، وغيرها الكثير من الأعمال التي تصدر بالكثير من اللغات الحية، والنشطة.
بالإضافة لذلك، يُركز هذا العمل وبشكل محدد على أعماله الأخيرة، وتحديدا من 1886م إلى توقفه عن الكتابة عام 1889م، وبشكل خاص على الأعمال التالية، (ما وراء الخير والشر)، و(أصل الأخلاق)، و(قضية فاغنر)، و(غسق الأوثان)، و(نقيض المسيح). حيث يأتي التركيز أولا على هذه الأعمال المتأخرة تحديدا بسبب التأثير المعاصر والكبير لهذه الأعمال حاليا وبشكل خاص في الدوائر والأوساط الناطقة باللغة الإنجليزية، وتحديدا لكتاب أصل الأخلاق الذي ينبغي أخذه كنموذج بارز من أعماله، مع الأخذ بالحسبان عدم عزله عن البقية؛ حيث نجد أنه قد خصص وقتا كبيرا لهذا العمل، كما أنه ولسنوات طويلة استمر في إطلاق الوعود في كتاباته السابقة بأنه بصدد كتابة أروع الأعمال وأكثرها أهمية، وهذا بالفعل ما حصل معه في هذا العمل. ثانيا ، ترتبط أعماله الأخيرة بشكل ضمني أحيانا ، وواضح أحيانا أخرى، بأعماله الأولى والمُبكرة، التي تراعي إلى حد كبير المشروع الأخلاقي له. وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن الأعمال المبُكرة لا تتمتع بأفضلية على أعماله الأخيرة، فالأعمال الأولى كانت خصبة، وموحية، لكنها كانت أقل وضوحا من المتأخرة. علاوة على ذلك، يعود السبب الرئيسي للاهتمام بالأعمال المتأخرة إلى سؤال المنهج، حيث أن الجوانب الأخلاقية عند نيتشه قد اتضحت إلى حد كبير في أعماله الأخيرة، الأمر الذي جعل تأويل هذه الأعمال أقل تنافرا مقارنة مع الأعمال السابقة.
ولتكوين فكرة واضحة عن أخلاق نيتشه، فإنه من الضروري تحديد المفاهيم بشكل كبير، مثل مفهوم الأخلاق بشكل عام، والأخلاق المسيحية، وأخلاق نيتشه بشكل محدد. حيث تشير الأولى إلى أنظمة قيمية، تنتمي لمجموعة من البشر في مسار تاريخي معين، نشأت لأسباب اجتماعية مختلفة من الممكن أن تكون محل دراسة لعلم الاجتماع. في حين أن الأخلاق المسيحية تعتبر نموذجا هاما في الأعمال النيتشوية كهدف للنقد، والتحليل، لما تمثله من سيطرة، وهيمنة كبيرتين في أوروبا المعاصرة، كما أن أتباع الأخلاق المسيحية ليسوا بالضرورة مؤمنين بالمسيحية، وهذه النقطة تُمثل دعامة مهمة في الأعمال النيتشوية المتأخرة. في حين أن أخلاق نيتشه أو القيم اللتين يتم استخدامهما بشكل مترادف في الكثير من الأعمال الفلسفية كما هو الحال لدى نيتشه، ذلك أنه يؤكد وبشكل متكرر بأن القيم المسيحية ليست أخلاقية، لكنه لم يفكر بشكل عام خارج الأفق المسيحي.
ولفهم ذلك، نجد توافقا بين الجانب الوصفي والجانب المعياري لهذا الموضوع، حيث أن الجانب الوصفي يقوم على التركيز على حياة النظرية، أو الجوانب التي جعلت نيتشه يذهب بهذا الاتجاه من التفكير، وذلك لما وجده من رغبة كبيرة لدى الكائنات بشكل عام بما فيها البشرية وغيرها، بالتحكم والسيطرة، وزيادتها مهما كان عدد التابعين أو المرؤوسين لهم. ولأجل ذلك من الممكن تدمير الموارد، والبشر، واستغلالهم، حيث أنه لا يُنكر وجود تعاون بين البشر لكنه يراه بأنه أداة للسيطرة والاستغلال، وليس لمكافحته. فالبحث عن السيطرة والجري الدائم خلفها كما يرى نيتشه، لا تقتصر فقط على أسلوب الحياة المعتاد، أو السلوكيات اليومية، فهو يعتبره طبيعية بيولوجية أو حيوية، لأن الحياة والبحث عن السيطرة لا يمكن الفصل بينهما، أو تجزئتهما. وبتعبير آخر، يستخدم نيتشه عند الحديث عن البحث عن السيطرة تعابير مثل: الحياة، والطبيعة، والإرادة، أو رغبة الحياة، أو الرغبة في السيطرة، وذلك للإشارة إلى أن هذه الرغبة متأصلة في الواقع الإنساني بشكل لا مفر منه، فرغبة الحياة بهذا المعنى تحكم أو تتحكم في كل الحياة.
غير أن هذه النظرية، قد تبدو غريبة على القاريء المعاصر الذي يبحث عن الدليل، ويوجه الكثير من الأسئلة من قبيل؛ ما هو نوع القوة التي نتحدث عنها، وما الآليات التي تُنشطها؟ وما أهداف هذه الحياة؟ ومقاصدها؟
فمن الأخلاقي تعزيز أهداف الحياة، ومن غير الأخلاقي إعاقة هذه الأهداف، كما يقول نيتشه، وهذا يتقاطع إلى حد كبير مع وجهة نظر فيلسوف التشاؤم الألماني شوبنهاور، الذي يرى – حسب المؤلف – بأن الإرادة الفردية تتجسد في الجماعة عن طريق الرغبة في الحياة، وتعزيزها بالبحث عن منافعها المختلفة. غير أن وجهة النظر الأخرى التي تنطلق من شوبنهاور بالتوافق مع نيتشه، تذهب إلى أن منافع الحياة، والمنافع الشخصية لييست بالضرورة تتفق مع بعضها، أو متحالفة، فمن الممكن أن رغبة الحياة تعادي أو لا تتفق مع المصلحة الشخصية، كما هو الحال في رغبة استمرارية الجنس البشري وذلك عن طريق الرغبة الجنسية التي تؤدي بدورها إلى إنجاب الأطفال.
فيما يتعلق بالأخلاق المسيحية التي تبدو مركزية في هذا السياق، كما هو واضح من خلال رؤية نيتشه، فإنه يعتبرها غير أخلاقية، وبأنها مضادة للحياة.
يتطرق المؤلف لاحقا إلى مسألة مهمة جدا في طرح نيتشه عن الأخلاق، وتحديدا من خلال كتابه الأهم وهو أصل الأخلاق أو جيناولوجيا الأخلاق، وهو التفريق الحيوي، والحاسم، بين أخلاق السادة وأخلاق العبيد، حيث يعتبر أن للجانبين أمثلة تاريخية تتوفر في الكثير من السياقات التاريخية، القديمة والمعاصرة؛ إذ تشير أخلاق السادة إلى موافقتهم على الجيد والاتفاق عليه. في حين، أن العبيد يقولون بنفس المبدأ، غير أن الأولوية هنا لأخلاق السادة، وهو لا يشير من قريب أو بعيد إلى الجانب العرقي، أو العنصري للأخلاق. ومن الممكن ملاحظة هذا الصراع في عالمنا المُعاصر، من خلال اللغة، وأصول الكلمات، وتحديدا من خلال الكثير من الألفاظ في اللغة الألمانية التي تعتبر لغته الأم، والأساسية، وهو ينطبق إلى حد كبير على اللغة الإنجليزية. فاللفظ "جيد" له مضادان: السيء، والشر. فالخير الذي يرتبط مع الجيد، يختلف عن الخير الذي يرتبط مع الشر؛ حيث أن هذا الارتباط ليس مصادفة، أو اعتباطيا. فعلى سبيل المثال، عندما نقول – والمثال للمؤلف – بأن لديك كلبا جيدا، أو عندما نقول بأن هذا القطار وسيلة جيدة للوصول إلى المطار، ففي الحالتين هناك تقييم، ونقيضهما يُشير إلى السيء، وهذا قبل التقييم، أو الحكم من الناحية الأخلاقية. غير أنه فيما يتعلق بالبشر، وعندما نقول بأن فعلا ما "جيد"، أو شخصا ما "جيد"، فإنك تفكر مباشرة بأن الشر هو المقابل لهما، وهو ما لا بنطبق على القطار.
ما يخبرنا به نيتشه هو أن السادة أكثر ثراء، وأكثر قوة، وبسبب ذلك نجدهم يصلون إلى الموارد بشكل أسرع، ويسيطرون عليها. في المقابل، فإن العبيد هم الأفقر، العُمال، والمرضى. ولذلك يطرح سؤالا مهما، حول ما هي القيم التي يتم التعبير عنها من قبل الطرفين؟ فلدى السادة نجد أن الجيد يعني أن تكون مثلهم: أقوى، وأكثر سيطرة، وأكثر صحة، في حين أن المقابل لذلك يعتبر سيئا. في هذا السياق، يقدم نيتشه ما يشبه المرافعة الايتمولوجية أو العودة لأصول الكلمات، حيث يعود إلى أصل كلمة "جيد" لدى الإغريق، التي تبدو قريبة من السلطة، أو مزخرفة بها، كالثروة مثلا، في حين أن كلمة "سيء" كانت تعني موقفا محايدا، فارغا، أو عاديا، وذلك قبل أن تصبح لفظة محتقرة.
من المهم هنا الأخذ بالحسبان، طريقة تقييم السادة، لأنها تختلف بشكل ملحوظ عن تقييم العبيد من جهة، والأخلاق المسيحية من الجهة الأخرى. حيث أن الكثير من الأشخاص يعتبرون تفوق السادة أمرا بديهيا، ولذلك لا نحتاج لنظرية توضح أسباب لماذا هم أفضل من غيرهم، أو أصحاء، أو أكثر قوة، وثراء. فعندما يخرج المرء من أخلاق العبيد، أو يتمرد عليها، فإنه في الكثير من الأحيان يشعر بأنه في المكان الخطأ، وفي الوقت الخطأ، وبطبيعة الحال فإنه ليس من الجيد أن يكون المرء ضمن هذا التصنيف، كما أن السيد – والتعبير لنيتشه والمؤلف – لا يحتاج للكثير من الحجج، والتبريرات ليخرجه من هذه المكانة التي بطبيعة الحال ليست عرقية، بقدر ما هي فكرية في المقام الأول. وبحسب نيتشه، فإن الثورة في الأخلاق تحدث عندما يتم تغيير الكثير من استخدام المفرادات المتفق عليها، والتي تستخدم بشكل بديهي، وطبيعي جدا في السياقات الاجتماعية المختلفة.
يحاجج نيتشه في هذا السياق، بأن ثورة العبيد الأخلاقية قد حدثت لدى اليهود منذ الآف السنين، إبان السيطرة الرومانية.
لا يسلم الكُهان والنبلاء من النقد النيتشوي العميق في العمل المحوري حول جينالوجيا الأخلاق، حيث إنهم وبشكل أساسي وضعوا كل أفعالهم، وأقوالهم، كمعيار لا ينبغي الخروج عنه، أو تجاوزه، فهم المعيار، أو فوق المعايير التي تصلح للرعاع، والعامة، والدهماء من البشر، في حين أن قيامهم بنفس الفعل الذي تقوم به الطبقات الأخرى من البشر يعتبر في الكثير من الأحيان، مستهجنا، حقيرا، بل ومرفوضا يجب إيقافه، وعدم مؤازرته. وهو ما يجعلنا نُميز بين نمطين من الأخلاق شدد عليهما نيتشه، وهما: أخلاق الإنسانية الطبيعية قبل هذا التمييز اللفظي، والتراتبي، وبين أخلاق الإنسانية التي سنتها جماعة معينة، وفئة محددة، لتُسير شؤونها اليومية، ثم سُرعان ما انتشرت بسبب الهيمنة الاجتماعية، والقيمية، والاقتصادية العميقة بين البشر. وهذا ينطبق أيضا على مفاهيم أو قيم مثل الشفقة، التي يراها نيتشه بأنها تحتاج مثل الكثير من القيم المتداولة، والسائدة، أن توضع موضع سؤال عميق، الأمر الذي يعني العودة إلى ظروف، وسياقات نشأتها، وظهورها في اللغات والسياقات الاجتماعية المختلفة، حيث تزعزت من خلال المراحل الزمنية المختلفة، بوصفها قناعا، أو نفاقا، أو عبودية، أو تبعية لعدد كبير، ولا نهائي لأشخاص، ورموز، ومفاهيم بالية.
بالإضافة لذلك، نجد أن قيمة الزهد أو التنسك والتي تُعتبر من المحاور المهمة في أفق تفكير نيتشه، لاقت الكثير من النقد العميق، فهي تعني عدم الرغبة في الحياة، أو الإعراض عنها، الأمر الذي أدى إلى انتصارها، وشيوعها في الكثير من الطبقات على اختلافها، وتنوعها، وهو ما نجده ماثلا في الجزء الثالث من هذا العمل، ذلك أن هذه القيمة تتنافى مع المسار الطبيعي للحياة، فهي تُقوض الإرادة البشرية في التفوق، والبحث، ورغبة الحياة. ذلك أن المُتنسك إنما "يتوكأ على العصا" كما يقول نيتشه، وفي ذلك إشارة إلى الاتكال على الآخرين، شأنه في ذلك مثل الفلسفة في بداياتها الأولى، حيث أن هذه الأخيرة كما يقول نيتشه في بداياتها لا تملك الشجاعة على أن تكون ذاتها، تظل دوما تُحدّق من حولها ما إذا كان أحد يريد أن يمد لها يد العون، غير أنها سُرعان ما تتخلص من هذا الاتكال لتستقل بذاتها في رؤاها وتصوراتها المختلفة، وفي أحكامها بدرجة موازية.
هذا المظهر التُنسكي لا يقتصر فقط على الكُهان، بل يمتد ليشمل الفيلسوف أيضا، فهو المُحمّل برؤيته النافية للعالم، والمضادة له، بل والمنعزلة عن مجرياتها التي تجري في واد والحياة في واد آخر، الأمر الذي جعل الفلسفة لفترة طويلة لم تكن ممكنة دون هذا النقاب، أو الكساء التنسكي، الذي عن طريقه واصلت الانتشار بشكل غير مرئي، بعيدا عن الإشهار والانفعالات التي تحدث أو يتم ترتيبها للمجالات الأخرى. تظهر أهمية المثل النُسكي التي يتطرق إليها نيتشه، من خلال الانقلاب الذي حدث للموسيقي الألماني ريتشارد فاغنر والذي كتب فيه كتاب ينتقده فيه بعدما كان يعتبر المُخلص، والأمل، وبشكل خاص في كتابه مولد التراجيديا، حيث يرى نيتشه بأنه انقلب رأسا إلى ضده، فبعد أن كان يُمثل التجسيد الحقيقي والفعلي لإرادة الحياة، وذلك من خلال الموسيقى التي حسب نيتشه تُعبر عن قوة الحياة، وعمقها، أصبح بعد ذلك يتغنى بالعفة والطهارة والزهد، وتحديدا بعدما بلغ من الكبر عتيا، وفي أواخر حياته.
في خاتمة هذا العمل، يطرح المؤلف سؤالا حول مستقبل الأخلاق حسب التصور الذي وضعه نيتشه، بكل تفاصيله المتعددة في أعماله المختلفة، حيث إنها تحتوي على عناصر كثيرة، منها؛ الأخلاق الأرسطية الطبيعية، وهي تلك التي تستحضر رغبة البحث عن الحياة أو عن السلطة، فهي تحث الجميع على البقاء والاستمرار بشكل طبيعي، فالجيد هنا هو الذي ترك الأوضاع كما هي. في حين أن الجانب الثاني، ينظر للأخلاق من الناحية التطورية التي يعتبرها البعض مغايرة عن الداروينية، فهي تسعى لمنحنا تفسيرا حول علاقة الأخلاق بالتاريخ، وهو ما نستطيع اكتشافه بأن طريقة التصرف أو السلوكيات ليست أبدية، بل خاضعة لمنطق السياقات الاجتماعية المختلفة، والتي من خلالها تتماشى مع العصر والظروف. كما أن الجانب الثالث، ينظر إلى الأخلاق من الناحية الجينولوجية والتي طبقها على الكثير من ألفاظ الكلمات التي تجعل الكثير من الرؤى المختلفة تتوافق، وتتلائم مع الأوضاع القائمة، كما ينبغي الأخذ بالحسبان بأن هناك وجهات نظر مختلفة عن ذات الموضوع الأخلاقي الشائك.
-----------------------------------------------
الكتاب: أخلاق نيتشه
المؤلف: توماس ستيرن
الناشر: منشورات جامعة كامبريدج، 2020م.
عدد الصفحات: 78
لغة الكتاب: الإنجليزية
