وعي الإيمان وعلاقته بوعي الحرية الدين الإسلامي نموذجا

أم كلثوم الفارسي

نتناول في هذا المقال ما كتبه رئيس مجلة التفاهم –عبد الرحمن السالمي- في مقاله المعنون بـ "الإسلام ووعي الحرية " معتبرا أن الإيمان الديني رأس الإحساس بالحرية.. لذا يأتي اختيار الدين في قمة هرم الإحساس بالحرية "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" سورة الكهف. ذلك لأنه اختيار شخصي يعتنقه الإنسان دون أن يستطيع أحد التأثير فيه. فليس العقل فحسب هو ما يُميِّز الإنسان، بل الحريَّة هي العنصر الذي يكمِّل العقل ويجعل الإنسان يُفكِّر بفاعلية كبيرة؛ ذلك أنَّ الإنسان هو عقل وحريَّة، ولو فقد أحد هذين المكونين، لأصبح إنسانًا منقوصًا ومشوهًا، فبفقدان العقل، يصبح مجنونًا، وبفقدان الحريَّة، يتحول إلى عبد.

فالحرية مصطلحٌ موجودٌ مع وجود الإنسان وترتبط به، فهي جزءٌ من كيانه منذ القِدَم، وبالمعنى العام الحرية تعني امتلاك الشخص لإرادته وقدرته على اتخاذ القرارات دون تأثيرٍ جبريٍّ أو طوعيٍّ من طرفٍ آخر.

ومما لا شك فيه أنَّ مفهوم الحرية من المفاهيم الكبرى التي تحكم وعي الإنسان فتحرك مشاعره وتوجه فعله، مثل مفاهيم الحياة والموت والأمل. وهي لذلك من المفاهيم التي يصعب تحديدها تحديداً جامعاً مانعاً، نظراً لتأثرها بالخبرة الاجتماعية وارتباط معانيها بجملة من المفاهيم الموازية، وهنا يظهر التباين بين الإسلام والغرب في تعريف الحرية لاختلاف تصورات الفلسفتين الغربية والإسلامية حول حرية الفرد تصورا وممارسة، إضافة إلى اختلاف المصدر والمنطلقات والمقومات الفكرية والحمولة الثقافية والمعرفية في كلتا المنظومتين.

فالإسلام يرى أن إنسانية الإنسان هي رهن حريته إذ لا يُمكن أن تتحقق إنسانيته بدون حرية فالحرية في الإسلام تتمحور حول الخضوع الواعي لنواميس الكون والشرع. إنها ليست استباحة: افعلوا ما تمليه عليكم رغائبكم، فتلك "حرية" الحيوان، وإنما افعلوا الواجب الذي أمركم الله به تتحرروا من أهوائكم ومن تسلط بعضكم على بعض. ومما يؤكد ذلك هو مسألة التقرب إلى الله بالعبادة إذ يعتبرها الإسلام عملا إراديا اختياريا لأنه ليس الخيار الوحيد الذي وضعه الله أمام الإنسان: "وهديناه النجدين". فإذًا، هو اختار عن بينة. نجد البعد عن الخير فتلك حرية خوّلها الله له، هي الحرية الشيطانية حرية الكفر التي خولها لإبليس ومن سلك سبيله. أما المسلم الحق فهو من اختار بوعي وحرية التوجه إلى ربه بالعبادة بكل كيانه. وعلى قدر اجتهاده فيها يتحرر، وتتحرر لديه إمكانات الفعل.  إذا دققنا النظر في طبيعة رسالة الإسلام ومقاصدها العليا سيرتفع هذا التناقض المصطنع بين الدين والحرية؛ فالإنسان مستخلف وليس إلها، وهذا الاستخلاف يفترض آمرا هو الله عز وجل ومأمورا هو الإنسان، فإنَّ هذا الاستخلاف مشروط بتوفر شرطين في المستخلف: العقل والحرية، وهما جوهر الأمانة التي تشرّف بها الإنسان، وخافت من حملها كل المخلوقات الأخرى. "إنّا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان"؛ فالحرية والعقل مناط المسؤولية والتكليف، كما يقول الأصوليون، وذلك أثر لتكريم الله للإنسان، هذا التكريم يجعل للفعل الإنساني قصدا قائما على الاختيار بين عبادة الله عن وعي وإرادة وبين التمرد"وهنا ينتفي التعارض الظاهري بين الدين والحرية، بل تصبح الحرية كالعقل شرطا للتدين في حد ذاته. والتدين الصحيح يعززهما ويرتقي بهما، فوق مستوى الضرورة، على نحو تكون حرية الإنسان بحسب عبوديته وعلمه.

وفي أوجه الحياة المختلفة فإنّ الإنسان له الحريّة الكاملة والاختيار غير المنقوص في أن يسلك أيّ الطّرق التي يراها مناسبة في حياته، فقد هدى الله تعالى الإنسان إلى طريق الخير كما بيّن له طريق الشّر، فإمّا أن يكون شاكرًا وإما كفوراً .

لقد أكّد الإسلام على حريّة الأفراد الشّخصيّة في الحياة؛ فللإنسان أن يأكل ما يُريد وأن يشرب ما يريد وأن يتنعّم بما يريد ويشاء من الخيرات، وأن يبيع ويشتري ما يشاء، ما دامت تلك المُباحات لا تضرّ بالنّفس أو تُؤذي النّاس. حرص الإسلام على تحرير الإنسان تحريرًا كاملًا من العبوديّة للبشر أو العبوديّة لشهوات النّفس، فقد حدّ الإسلام من مظاهر الرّق والعبوديّة التي كانت منتشرة قديمًا بحثّه على تحرير الأرقّاء وملك اليمين، كما أكّد الإسلام على ضرورة تحرير النّفس من التّعلق بالشّهوات من مالٍ ومتاعٍ وزينة، فمن أحبّ شيئًا تعلّق به قلبه، وإذا تعلّق القلب بشيء ملكه هذا الشّيء واستعبده.إذ لم يكن للحياة الإنسانية قيمة تُذكر، فكان يكفي أن يختلف شخصان لتشتعل الأرض حربًا ومعارك طاحنة، تفنى فيها أجيال وأجيال، ذنبها الوحيد أنها وُلدت في عصر أفَلَت فيه الإنسانية، ولم يبق من معالم الفطرة ما ينقذها.

فإنَّ أهم ما جاءت به الشريعة الإسلامية هو تحرير الإنسان من عالم الأشياء التي تستعبده، ومن عالم الأشخاص الذين يستغلونه يستصغرونه ويستعبدونه، وجَعله عبدا لله الذي خلقه ووهبه الحياة، وكفل له رزقه، وأكرمه بالعقل. وبعد عقدين وبضع سنوات تغير الحال، وظهر مجتمع جديد، يعرف معاني الحياة ويعشق الحرية، فبعد أن كان المجتمع يئد البنت وهي حية تحول المجتمع إلى جسم واحد قادر على خوض حرب ضارية لأجل حرية شخص واحد، فسيّر المسلمون جيشا إلى بني قينقاع لإهانتهم مسلمة واحدة وقتلهم مسلما دافع عنها، وسيروا جيوشا لتحرير القبائل العربية التي كانت ترزح في أغلال العبودية الرومانية والفارسية، بل مضى هذا العربي -الذي كان يرعى الإبل ويحفل بوضع الأغلال في أيد بشر مثله- إلى تحرير مجتمعات رومانية وفارسية كانت تعاني عذابات الظلم والجور والطغيان.

لقد نجح الإسلام في أن يصنع حياةً تحكمها القيم الحية، والأخلاق الصالحة، ومزق الطبقية التي جاء وهي موجودة في كل العالم، ونزلت الآيات تحث على العتق، فهبت نسائم الحرية تحرك شراع المجتمع وتوقظ فطرته التي طال سباتها، وتطهر ثيابه التي تلطخت بالدنايا، إذن الإسلام معني بالدرجة الأولى بالحرية، ولا يوجد على الأرض ما يماثل الإسلام في حثه على الحرية وحفظه إياها.

 

أخبار ذات صلة