قيس الجهضمي
يذهب الكاتب عزيز أبو شرع في مقالته المنشورة بمجلة التفاهم والتي بعنوان "موقف الأشاعرة من ابن رشد في الأسباب الأشعرية لأفول الرشدية" إلى التخفيف من الاعتقاد بأن سبب النكبة الرشدية هي أسباب سياسية قامت عن طريق الحصار والإبعاد، ولكنه يفترض أن الاعتراضات الأشعرية كان لها الفعل الأقوى في إضعاف الفلسفة، محاولا التدليل على ذلك من اعتراضات الخصوم وجهودهم في مقاومة المدرسة الرشدية.
يؤكد أبوشرع على أن ابن رشد كانت بدايته ونشأته المبكرة أشعرية، وهذا ما يظهر في كتابه مختصر المستصفى من خلال استعمالاته وإشاراته إلى أئمة الكلام الأشعري، وفي تأليفه لكتابه "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" يتبين للقارئ إلى أنه لم يزل قريبا من الأشعرية من خلال استعماله أقوالهم من مثل: "وقد بيّن ذلك المتكلمون كأبي المعالي وغيره"، وهو من خلال تلمذته لعياض والمازري وابن بشكوال يثبت لنا أنه خريج مدرسة أشعرية أيضا، لكنه مثلما خرج الغزالي عن أشعريته في مسائل هو الذي جعل ابن رشد يستسيغ المخالفة أيضا، ويرى أبو شرع أنه من المحتمل أن ابن رشد مرّ بمرحلة ثالثة وهي مرحلة وسط بين المتكلمين والفلاسفة من خلال تأليفه "مقالة في الجمع بين المشائين والمتكلمين من علماء الإسلام"، إن وجود فرق وتعارض بين علم الكلام والفلسفة جعل ابن رشد يسعى لنقد العقيدة الأشعرية؛ فالخطاب في علم الكلام رغم استعماله نظر العقل هو في الواقع نقض ورد على الفلسفة لأجل الحفاظ على الملة وعقيدتها، ويصرح ابن رشد في كتابه "الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة" بأن علم الكلام غير ذي جدوى لأنه غير برهاني، وبهذا يضع نفسه كالمدافع عن العقائد الإيمانية ضد المتكلمين.
وفي استقراء المناخ السياسي وتأثيره على التوجه الرشدي الجديد، كان تأليف ابن رشد لكتابه المناهج بتاريخ 575هـ، وهو الوقت الذي دخل فيه في خدمة الموحدين والتعاون مع دولة بني عبد المؤمن، الذي أسس بناءها الفكري والمعرفي ابن تومرت والذي اشتهر بمؤلفه الشهير "المرشدة"، وهنا يأخذ الباحث وقفات عن علاقة ابن رشد بالمناخ السياسي:
فقد روي أن لابن رشد تأليفا بعنوان "شرح العقيدة الحمرانية" على أنه شرح لكتاب ابن تومرت، وقد ذكر بنشريفة أن المقصود هنا هو عقيدة المهدي المعني بشرحها وهي الحمرانية وليس للمرشدة، وينبه الكاتب متسائلا لماذا اختار شرح العقيدة الحمرانية التي هي ذات اتجاه أثري ظاهري بدل المرشدة ذات الاتجاه الكلامي وهو أميل للأشعرية؟!، وأما عن أمر دخوله في أمر الموحدين فقد ألفّ في ذلك "مقالة في كيفية دخوله الأمر العزيز وتعلمه فيه وما فضل من علم المهدي"، فقد جاء مصرحا بإمامة المهدي مما ينبئنا عن انخراطه في أمر الدعوة الموحدية والاعتراف بالسلطة الروحية للرجل الأول فيها، وقد أورد ابن عبدالملك أن معتقد آل مؤمن أن كل من خرج عنهم فهو لهم من الأرقاء، وربما كان الأمر بالنسبة للنكبة إذ هي مصير كل معترض، كما أن اكتشاف الباحث الفرنسي مارك جيوفيروا لنسخة جديدة من كتاب الكشف عن مناهج الأدلة في خزائن استنبول وما حوته هذه النسخة الوحيدة من إيراد اسم الإمام المهدي فيها يدلل على اهتمام ابن رشد بهذا الأمر.
يرى الكاتب أن الدين استعمل في هذه النكبة، وأن عصر المرابطين لم ينته إلا وقد حُسم للاتجاه الأشعري على حساب الاتجاهات الأخرى الكلامية والباطنية، وفي أمر النكبة يُذكر في "كتاب التكملة" لابن الأبار أن عبدالرحمن الرجراجي جرى بينه وبين ابن رشد ما جرّ نكبته المشهورة على أنه هو الفاعل الأساس للنكبة، وقد وصف صاحب التكملة الرجراجي بأنه أحد كبار المتكلمين فهو أشعري، وأما صاحب كتاب "الذيل والتكملة" فيذكر أن العداوة ثبتت من رجالات العلم لابن رشد ثم قام الخصوم باللجوء إلى انتقاء بعض السياقات الموهمة لما يريدون تقويله، ومع الكيد والتربص زاد دفاعهم عن طريق المناظرة والتأليف.
يذكر الكاتب أن أبا عامر الأشعري هو أول من اعتنى بالرد على ابن رشد ونقض كتابه "المناهج"، والتنبيه لما يقوم به من هدم في البنية الأشعرية، فابن رشد يرى أن الأشعرية خطر على الدين نفسه بما تفرضه من آراء المتكلمين، ويزعم الكاتب أن أبا عامر تشبع من صميم المعرفة التي تشبع بها ابن رشد وهي المعرفة الغزالية التي هي فلسفة وأصول وتصوف، واشتغل أبو عامر في مؤلفات سعى من خلالها التصدي لابن رشد ومنها: "تحقيق الأدلة في قواعد الملة ودفع الشبه المضلة والأقوال المضمحلة" وهو تصدي أبي عامر لابن رشد عندما أراد أن يكشف عن تهافت الأدلة في كتابه الكشف فقام أبوعامر بتحقيقها في كتابه، و"كتاب الوحدانية" الذي يرى فيه بنشريفة أنه رد على كتاب "شرح العقيدة الحمرانية" لابن رشد، والرد على "كتاب البرهان" القديم وغيرها.
ومن العلماء الذين انتقدوا ابن رشد أبو الحجاج المكلاتي، وقد عمد في كتابه "لباب العقول" في الرد على الفلاسفة لكنه كان يتهرب عن ذكر عميدهم ابن رشد، ويرى الكاتب أن تجاهل الاسم من المكلاتي هو لأسباب في الواقع دفاع عنه وعن الأسرة الرشدية، وأنه ولا شك من أن يكون ابن رشد أول الخصوم للمكلاتي الذين انتقدهم في كتابه، وأن الاحترام الذي ناله ابن رشد كونه الفقيه القاضي وكذلك أبوه وجده جعل الكثيرين يسعون إلى التغطية عن نكبته المشهورة.
ومن الذين اعتنوا بالمدرسة الرشدية ابن بزيزة، إذ يشير في كتابه "الإسعاد بشرح الإرشاد" إلى مواضع غير مرضية في كتاب ابن رشد الكشف، وكذلك ابن خليل السكوني الذي هو من بيت اشتهر بنسبه العلمي في إشبيلية وخصوصا في علم الكلام، وقد وجه السكوني نقده على ابن رشد في موضع محدد وهو باب الاعتقاد مع الإشارة إلى جهد أهل السنة، وفي كتابه لحن العوام لم يتسع له تفصيل الرد على ابن رشد ولكنه كان يهتم بالتحذير والتنبيه منه، وهذا دليل على أن الخطر الرشدي مستمر على المشروع الأشعري رغم انتشار الأخير بصورة كبيرة، وكذلك من العلماء الذين انتصروا لابن رشد ابن خلصون إذ أشار لكتاب المناهج في سياق صوفي وقد كان معجبا بابن رشد الفيسلوف على حساب المتكلم الغزالي.
لذلك يرى الكاتب أنه ليس من الطبيعي أن يختفي الجهد الفلسفي وغير الفلسفي لابن رشد بمجرد تعرضه للمعارضات السياسية أو من العلماء أحيانا، والفلسفة الرشدية لم تضعفها السياسة فقط وإنما أيضا المقارعات الفكرية من علماء الأشعرية، وأرى أنّ طرح الأسباب السياسية كعامل لكل نكسة معرفية أو فلسفية هو مغالاة في دراسة الحالة، فالبحث في الأسباب الأخرى قد يكون العامل الأقوى فيها كما حصل لابن رشد، وكما هي عامل إضعاف في رؤية البعض، تكون عامل ظهور وإبراز لدى آخرين من خلال رغبتهم في استبطان ما فيها من جدل.
