تأثير الموروث في الإحباط أو«انحطاط الألف عام»

أحلام المنذري

إنّ للكلمة أثرا بالغا في النفس، فهي ما تلبث أن تقع عند البعض حتى تحدث دويا عاطفيا وفكريا بغض النظر عن صدق الكلمة من عدمها، ولكن المشكلة ليست أن يقول لك شخص ما كلاما عن نفسك أو دينك أو حضارتك وأمتك بشكل سيء، وإنّما المشكلة أنّ تصدق ذلك الكلام كله فتسقطه على نفسك ودينك وحضارتك وأمتك. نتطرق في هذا المقال لأهم ما ذكره الأستاذ رضوان السيد في مقاله "مسألة العصور الوسطى الأوروبية والإسلامية" عن كتاب توماس باورفي: "نقض أطروحة العصور الوسطى الإسلاميّة".

يذكر رضوان السيّد ما ذكره المؤرخ الفرنسي هنري بيرين حول وجهة نظره وهو يناقش العصور الوسطى أنّ أوروبا دخلت مرحلة العصور الوسطى المظلمة بفعل ثلاثة عناصر أو عوامل تاريخية: المسيحية، والإقطاع وظهور الإسلام، شارحا فيها تأثير هذه العناصر الثلاثة تفصيلا في كتابه" محمد وشارلمان"، وما يهمنا هنا هو وجهة نظره حول العنصر الأخير الإسلام، فالإسلام من وجهة نظره سيطر على البحر المتوسط وشواطئه الشرقية، فقطع أوروبا عن اليونان وإسبانيا والمساحات الشرقية من المحيط الهندي، فخمدت على إثر ذلك الحركة التجارية، ولولا ظهور شارلمان لأحتل المسلمون أوروبا أيضا.ولكن المؤرخين من بعده من رواد مدرسة" الحوليات" التي ينتمي للمدرسة ذاتها بيرين، من عشرينيات القرن العشرين وثلاثينياته إلى الثمانينيات منه عمدوا على تحطيم ثلاثيته هذه، فقد انصبت بحوثهم على الفترة ( بين القرن الخامس والخامس عشر) في العصور الوسطى الأوروبية، ونذكرعلى وجه الخصوص ما ورد عن المسلمين في أبحاثهم، أما المسلمون فما عطلوا المسار التجاري مع أوروبا؛ بل تشاركوا فيه مع البيزنطيين، كما ترجموا آثار اليونان العلمية والفلسفية، ونقلوها إلى أوروبا عن طريق إسبانيا والجزر الإيطالية، وظلت طرز العمائر والمساجد والكنائس والحمامات وسائر مواريث الرومان العمرانية والفنية سائدة لدى البيزنطيين والمسلمين.

جهد المؤرخون الأوروبيون في تغيير صورة العصور الوسطى الأوروبية، ويطرح الكاتب ما وضعه المؤرخون الأوروبيون في النصف الثاني من القرن العشرين على تغيير صورة العصور الوسطى الأوروبية؛ نافين فكرة أنّ هناك مرحلة في تاريخ أوروبا طولها عشرة قرون من الظلام والانحطاط؛ بل هناك عدة مراحل من التطور التاريخي، ودخول شعوب جديدة من شرق القارة وشمالها، أحدثت بعض الفوضى السياسية والثقافية ثم عادت للانتظام. وكتاب المؤرخ الكبير فريان بروديل عن البحر المتوسط في عهد فيليب الثاني يثبت ذلك التواصل الكبير بين أوروبا وعالم الإسلام من خلال البر، ومن خلال البحر المتوسط والمحيط الهندي وطريق الحرير، ولكن العلاقات تزعزعت عندما حلت المدافع البرتغالية محل العلاقات التجارية السلمية، كما أنّ الحضارة الإسلامية انتكست في القرن الثامن عشر بسبب الاستعمار الأوروبي للأجزاء المزدهرة من الديار الإسلامية في آسيا، ثم في إفريقيا.

ويضيف الكاتب أنّ هذه الرؤى من مدرسة الحوليات ما استطاعت أن تزعزع الرؤية التي بنتها أوروبا الاستعمارية، والتي تأسست على عدة عناصر تشمل: إثبات التفوق الأروربي، والحق بمقتضى ذلك التمدن بالاستعمار والتمدين، وأن العالم الإسلامي غارق في الانحطاط،  ولكن في الوقت ذاته بدأت تظهر  العديد من الدراسات التي تدعم رؤية العصور الوسطى الإسلامية،  منها أطروحة آدم متز بعنوان "الحضارة الإسلامية في القرن الرابع عشر"، وماكس مايرهوف الذي كتب "من الإسكندرية إلى بغداد "وباول كراوس الذي كتب عن" ابن المقفع والرازي" وغيرهم الكثير.

ما دام المسلمون قد ترجموا ونهضوا قديما، فمن أين أتى انحطاط الألف عام؟

أتى بحسب الرؤية الاستعمارية من التيارات المحافظة التي سيطرت في القرن الرابع الهجري، وحملت على علوم القدماء ونحتها من البرنامج الدراسي، ومنذ القرن التاسع عشر سيطرت في الدراسات الاستشراقية أطروحات عن أصول القرآن والإسلام، وهل هي أصول يهودية أو مسيحية أو مختلطة، فلذلك ليس لهذا الدين جوهر متسق، وكل ذلك بفعل الفتوحات والقوة العسكرية التي صبغت هذا الطابع القوي عن الإسلام، فلما تراجعت هذه القوة بدأت بالانحطاط.

تطور في الأكاديمية الاستشراقية الغربية نحو تثبيت مقولة العصور الوسطى الإسلامية

في السبعينيات من القرن الماضي ظهرالمستشرقون الجدد مهاجمين الاستشراق التقليدي بوصفه كان إيجابيا أكثر اتجاه الإسلام والقرآن، وأن المصادر التاريخية الإسلامية في أخبارها عن نبوة النبي، وظهور الإسلام، وسيرة النبي، ونزول القرآن، وعهود الخلفاء الأوائل، ووقائع الانتشارالعربي والإسلامي، كتبت بعد مائة وخمسين عاما وأكثر من الأحداث، ولذلك فهي مركبة بحسب المصالح الإمبراطورية، فهذه الفترة الزمنية لا يمكن التأكد منها إلا من خلال النصوص السريانية والعبرية واليونانية المعاصرة للأحداث المبكرة.

وينتهي المبحث عند هؤلاء دائما بأن الإسلام في الحقيقة هو " العصور الوسطى" التي انفصمت عن الكلاسيكيات اليونانية واللاتينية قديما، واستعصائها على الحداثة.

ويقول الأستاذ الجابري: سادت في الثقافة الإسلامية ثلاثة مناهج أو مدارس: مدرسة البيان، ومدرسة العرفان، ومدرسة البرهان، والأخيرة التي اعتنقها الفارابي وابن رشد وأمثالهم، والتي لا طريق غيرها للدخول في الحداثة.

ويسرد الكاتب شارحا بأن النقد الثقافي والحضاري دفع علماء من تلاميذة المستشرقيين التقليديين إلى العودة لنقض أطروحات المستشرقيين الجدد، فالألماني سكولر درس بعناية علائق الشفوي الكتابي في صدر الإسلام، ودافع عن مناهج المحدثين سماعا وكتابة، بينما أقبل هارالد على الكتابة عن القرآن بوصفه نصا ووحدة واحدة، كما درس الأدبيات المبكرة في السيرة النبوية، وعن المسلمين وأخلاقهم، وعملت السيدة أنجليكا على النص القرآني لأكثر من أربعين عاما، من نواحي الثبوت التاريخي والثبات وأدبيات النص وجمالياته. وهي ترى أن هناك فائدتين وراء ذلك: أنّ الإسلام لم يقطع مع الأزمنة الكلاسيكية التي ظهر فيها القرآن نفسه، وأن القرآن هو كتاب أوروبي بقدر ما هما العهدان القديم والجديد كتابان أوروبيان؛ لأنّ تلك النصوص المقدسة إنما ظهرت في زمن واحد أو متقارب، وسادت فيها فكرة ربط الرسالة بالكتاب، وبنت الثقافة الدينية والأخلاقية والتاريخية لأوروبا، وينبغي أن يكون القرآن من بينها؛ لأنّه ظهر في العالم نفسه.

إن تصدع فكرة العصور الوسطى الأوروبية على أيدي أعلام مدرسة" الحوليات" الفرنسية، والذهاب إلى أن العصور الوسطى الإسلامية إنّما هي اختراع أوروبي استعماري وعنصري لا سند له من التاريخ والواقع.

تأثير الموروث في الإحباط الحاصل:

ويختتم الكاتب بقوله: ليست هناك مشكلة كبرى في أن يعدك خصم لك متخلفا؛ لوقوع عبء الموروث على كاهلك، إنّما المُشكلة في أن يصدق المرء ذلك عن نفسه وأمته ودينه وحضارته، فيحاول الخلاص من ذلك كله.

أخبار ذات صلة