أسماء عبدالله القطيبي
في مقاله "الحياة الثقافية في بغداد في التراث العربي الإسلامي عصر السيادة الإسلامية" يسلط الباحث عمروعبدالعزيز منير الضوء على مدينة بغداد العراقية؛ التي كانت تعد واحدة من أهم العواصم الثقافية في العالم في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين، مناقشا أسباب هذا الازدهار وتأثير السلطة على الحراك العلمي والمعرفي في المجتمعات العربية والإسلامية وحجم تداخلهما، ومدى أهمية وجود هذه الحضانات الثقافية، ومردودها على نواحٍ عدة، مدعما مقاله بأدلة تاريخية وشهادات من زمن الازدهار.
بينما كان يحج الناس في القرن التاسع إلى مكة قبلة للصلاة والدين كان العلماء والباحثين يحجون إلى بغداد قبلة للعلم والمعرفة، ويُستقبلون فيها بحفاوة وترحيب كبيرين. بل إنّ كثيرا ممن كان يذهب لهناك يسعى لمراسلة من يتوسم فيهم حب العلم ودراسته للحضور والإقامة. ولم يكن ذلك الحراك الثقافي مرده إلى اهتمام خلفاء الدولة العباسية بالعلوم والفنون فحسب بل إن عوامل كثيرة ساهمت في رفع شأن بغداد بين المدن. فبغداد كانت تتمتع بأمن واستقرار كبيرين، وموقعها الإستراتيجي، وجوها العليل بين ضفتي دجلة والفرات وفرا لها أمنا غذائيا ومصادر دخل وفيرة. كما أنّ المجتمع البغدادي كان مجتمعا متنوع الأعراق مما سهل وفود العلماء إليه باختلاف مشاربهم وأعراقهم ودياناتهم، أضف إلى ذلك حالة الانتعاش الثقافي الذي كانت تشهده الدولة الإسلامية عموما بأطرافها المترامية.
كانت البداية حين أنشأ الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور في بغداد (الخزنة) التي كانت تحوي كتبا منوعة في العلوم التطبيقية، واللغات والدين والفلسفة والفن، وجعلها متاحة للراغبين في الاطلاع عليها ونسخها، وكانت بمثابة الكنز للباحثين نظرًا لصعوبة الحصول على الكتب آنذاك وتفرقها في الأمصار، مما يضطر الباحث إلى السفر والتنقل بحثا عنها. ثم تطوّرت تلك الخزنة وتنوّعت محتوياتها لتصير بيت الحكمة في العصور التي تلتها ويقول الباحث عمروعبدالعزيز منير واصفا أهمّيتها:"... كانت مؤسسة دار الحكمة علامة مضيئة على طريق إنشاء دور وخزائن الكتب أحد أهم دعائم نشر الثقافة والمعرفة، فكانت مثلا احتذى به الكثير من العلماء والمفكرين وسعوا إلى إنشاء دور ومراكز معرفية على غرارها". ورافق وجود الكتب اهتمام شخصي من الخلفاء بالعلوم، فكانوا يفتحون مجالسهم للعلماء ويتيحون لهم المجال للحديث عن مختلف العلوم كالطب والكيمياء والفلك وعلم النفس، وأجزلت لهم العطاءات، حالهم حال الشعراء والمغنّين، مما جعلهم يطمأنون لإقامتهم ويتوسعون في أبحاثهم ويتسابقون في كتابة مؤلفاتهم وتوثيق نتائج دراساتهم. كما نشطت في بغداد حركة الترجمة، فتبارى المترجمون على النهل من ست لغات في كافة المجالات، حتى الدينية منها، وهي إشارة إلى مدى الانفتاح الثقافي والتسامح الديني الذي وصلت إليه الحضارة العربية والإسلامية آنذاك. وخُص المترجمون بعطاءات مجزية دون غيرهم مما يعكس حالة وعي من الدولة لأهمية الاستفادة من نتاج الغير والتقرب من ثقافاتهم والاستفادة من معارفهم.
هذا الحراك في مدينة بغداد، الممول من قبل الخلفاء -الذين يمثلون قمة الهرم السياسي في الدولة آنذاك- يطرح مجددا السؤال حول علاقة المثقف بالسلطة. والتي تحدث عنها مفكرون كبار من أمثال إدوارد سعيد وعلي شريعتي، وسواء كانت وجهات النظر تلك تعد العلاقة صحية أو لا فإن علينا أن نتذكر أن هذه الحالة الثقافية كانت في القرن التاسع، حين لم تتوفر أنظمة سياسية معقدة، ولم تكن الحواضن متاحة إلا تحت ظل ولاة الأمر ممن يحظون بهيبة ومكانة اجتماعية، وسيولة لازمة لإدارة الحراك الثقافي بما يتطلبه من إنفاق. ولعل هذا التقارب بين السلطة والمثقف أثر على تأريخ تلك الحقبة الزمنية، فكتبة التاريخ وأدباء الفترة لم يكونوا ليتجرأوا بالكتابة عن الجوانب المظلمة والحوادث المؤسفة في ذلك الزمن إلا على هامش يسير من الحرية التي يضع حدودها الرقيب. كما أن الهبات التي تمنح لهم كانت تضعهم في مستوى اجتماعي رفيع مما قلل من اختلاطهم بعامة الناس والاقتراب من همومهم.
في عصرنا الحالي وفي ظل انتشار الجامعات لم يعد المثقف والباحث بحاجة إلى بقعة جغر افية يلتقي فيها مع أقرانه بقدر حاجته إلى تمويل لأنشطة البحث العلمي، والدعم الكافي لاستكمال دراسة الجانب النظري التخصصي في المجالين العلمي والإنساني، وللأسف فإن غالب بلداننا العربية تخصص ميزانية لا تصل إلى 1% من موازانتها في الإنفاق على البحث العلمي بينما يبقي خيار تقليص المنح والبعثات في الأزمات أمرا مطروحا، وحتى بالنسبة لتلك الدول التي تخصص قدرا لا بأس به من الأموال فإنها تفتقر لوجود هيئة مركزية لإدارة البحوث العلمية فيقع الباحثون في معضلات من أهمها نقص البيانات والإحصائيات أو صعوبة الحصول عليها. رغم أن الأزمات تؤكد لنا مرارا على أهمية هذا الأمر ولعل أبرز مثال هو الأزمة الصحية التي يواجهها العالم اليوم جرّاء انتشار الفيروس المستجد كوفيد19. على جانب آخر يواجه المفكر في العصر الحديث صراعا ممتدا مع السلطة في المسموح والممنوع، ويترصد مقص الرقيب بكل نتاج فكري أو أدبي أو فني خارج عن توجهات السلطة أو مزاج صاحب القرار؛ مما لا شك أنه يحد من الإبداع ويجعل المفكر والمبدع متوجسا دائما مما ستؤول إليه الأمور. وعلى الدوام ستكون الثقافة وحرية ممارستها ومدى الاهتمام بها مقياسا للتقدم الحضاري، وبوصلة تكشف للتاريخ الأصلح والأكثر نفعا للبشرية.
