الوحدة والاختلاف في الدين

أمجد سعيد

يناقش محمد المنتار في مقالته التي تحمل عنوان "مقولة الدين الواحد في الفكر الإسلامي" فكرة الوحدة من عدة جوانب، ويربط أيضًا الوحدة بعدد من الأفكار والممارسات التي تأخذ حيزها تحت مظلة الفكر الإسلامي، في البدء تأتي اللغة التي هي قالب كل الأفكار، فالوحدة في اللغة تعني التوحد وعدم الانقسام، ويقول الراغب الأصفهاني في معنى الوحدة: "الوحدة هي الانفراد. والواحد في الحقيقة: هو الشيء الذي لا جزء له البتة". ثم يطلق على كل موجود، حتى إنه ما من عدد إلا ويصح أن يوصف به فيقال عشرة واحدة ومائة واحدة، فالواحد لفظ مشترك يستعمل على خمسة أوجه، الوجه الأول: ما كان واحدا في الجنس، أو في النوع، أي كقولنا: الإنسان والفرس واحد في الجنس، أو في مثال آخر، زيد وعمرو واحد في النوع. أما الوجه الثاني: الذي يكون واحدا في الاتصال إما من حيث الخلقة أو من حيث الحرفة كقولنا في الخلقة: أنت شخص واحد، وفي الحرفة: صناعة أو حرفة واحدة. أما الوجه الثالث ما كان متفردا بلا نظير يقابله؛ فيكون في الخلقة فنقول الشمس واحدة، أو في الفضلية كفلان ليس له مثيل أو هو واحد دهره أو زمانه. وفي الوجه الرابع ماكان واحدا لأنه يمتنع عن التصغير أو التجزئة إلى أجزاء أصغر منه، إما لصغره المتناهي أو لصلابته العصية على تجزئتها. وفي الوجه الخامس تكون الوحدة في المبدأ، إما لمبدأ العدد؛ كقولنا واحد اثنان، أو حتى في مبدأ الخط مثل أن نقول النقطة الواحدة.

إن الدين في منطوق آيات القرآن الكريم دينٌ واحد، وتتجلى وحدته على مستوى العقيدة، التي فحواها الإيمان بالخالق وحده، والإيمان بالكتب، والإيمان بالرسل، والإيمان باليوم الآخر وبيوم البعث، وبين يدي كل ذلك أيضاً الأخذ بالعمل الصالح في مختلف مظاهره وتجلياته كقوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليُمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدوني لا يشركون بي شيئًا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون).

إن من أهم مقاصد الدين هو مقصد الوحدة وعدم التفرقة، وقد توالت الآيات في الربط بين الوحدة ومقوماتها وعلاقتها في محدداتها المختلفة وهذا ما استنبطه وميزه أهل الفضل والدين عند شروعهم في أي حديث عن الدين وعلاقاته بالهدى والطاعة والجزاء والعمل الصالح والتوحيد، وقد خص الله سبحانه وتعالى الذين يأخذون بهذا العمل الصالح وهو أمر رباني لا شك في ذلك بالجزاء العظيم وأسماهم خير البرية. إن الناس جميعًا كانوا ولا يزالون أمة واحدة، ونشأ عن ذلك اختلافهم، والله سبحانه وتعالى يقضي في الخلاف بإهلاك من ينحرف من هذه الأمة عن سبيل الفطرة السليمة، فلا يبقى من الناس إلا من استقام عليها. يقول العلامة ولي الله الدهلوي: " إن أصل الدين واحد، اتفق عليه الأنبياء عليهم السلام، وإنما الاختلاف في الشرائع والمناهج" وشرح هذه المقولة بأن الأنبياء عليهم السلام أجمعوا واتفقوا جميعا على أن المقصد الأساسي من الرسالة التي يحملونها هو توحيد الله تعالى، سواء بالعبادة والاستعانة به في الشدائد والمحن وفي أوقات السلم والرخاء، ومن المقاصد الفرعية لهذا القصد الرئيسي أنه لا يجب على عباد الله أن يشركوا مع الله شيئاً آخر في العبادة ويجب أن يحرموا على أنفسهم الإلحاد باسمه عزّ وجلّ وأن يبجلوه ويعظموه تعظيماً لا تشوبه شائبة أو يتداخل معه أي تفريط أو تقصير، فهذا أصل الدين، ولذلك لم يبحث القرآن الكريم عن ماهية هذه الأشياء، إلا ما أراد الله أن يفصل فيه، فهذه الأشياء والمقاصد كانت مسلمة من المسلمات التي نزل بها القرآن، لكن الاختلاف كان في صور هذه المقاصد وأشباهها، فعلى سبيل المثال: كان في شريعة موسى عليه السلام الرجم فقط، وجاءت شريعتنا بالرجم للمحصن والجلد لغيره، وهناك أيضًا القصاص في شريعة موسى عليه السلام، وفي شريعتنا يوجد القصاص والدية، وهنا تأتي الاختلافات بمجملها في التنفيذ والتوقيت والآداب والأركان التي تحدد معالم هذه المقاصد المتفق عليها.

قال الله عزّ وجلّ: (كان الناسُ أمة واحدة)، هنالك جمهور ليس بالقليل من المفسرين حملوا لفظة الأمة في هذه الآية على الملة، ثم اختلفوا فيم كانت الملة، وقد اختار بعضهم أن يمضي بتفسيره نحو أن الملة هنا هي ملة الهدى والدين القويم، فيكون المعنى الدقيق في الآية السابقة أن الناس كانوا أمة واحدة أي ملة واحدة لها قيمتها الدينية والعقائدية الصحيحة التي هي شارعة في إجراء وتفعيل أعمالها وأحكامها في الشرائع التي تقوم الفعل والعمل، والناظر في القرآن المجيد في سورة يونس يرى نصًا صريحًا، بقوله إن الله شاء بمقتضاه أن يكون الناس جميعا أمة واحدة، ويكون اختلافهم أحد مضامين هذه الوحدة، فمنهم من يضل ومنهم من يهتدي، وهناك العادل والمعتدي، حتى تكون الحصيلة هي الجزاء في الدار الآخرة، ولهذا بعث الله عز وجل فيهم الرسل والأنبياء ليكونوا لهم قدوة في الإيمان ومثالا يحتذى به، وأسوة في العمل الصالح.

فالوحدة في الدين الذي يرتبط ارتباطا وثيقا بالإنسان والإنسانية، لا تتوقف فقط في المعاملات اليومية -التي هي مهما كانت بسيطة ويتم إغفالها ببساطة، لكنها تشكل مجملاً كبيرا من تشكيل السيرورة الجماعية للمجتمع- بل هي تتدخل في الاعتقاد بالغيبيات، كالاعتقاد بأنه مهما يفصلنا من اختلاف عن بعضنا البعض فإن في الدار الاخرة الثواب والعقاب، وهناك مواقيت لا يعلمها إلا الله عز وجل، هي مواقيت واحدة لجميع الخلق رغم اختلافهم في المجمل.

أخبار ذات صلة