ناصر الكندي
في مقالته المنشورة بمجلة التفاهم "الاستخلاف والعمران في ضوء الوعي بقيم وسنن النهوض والسقوط" يستعرض الباحث سعيد شبار مفهومي الاستخلاف والعمران من ناحية الإعمال غير العلمي لاستخدام هذين المفهومين، ذلك أنه طال هذه المنظومات والقيم إهمال شبه كلي لمنطق اشتغال السنن والقوانين المتحكمة في صياغة وبناء النماذج والكيانت الحضارية، وأصابها اختزالات وتضييقات عدة حدّت من معانيها المستوعبة والمؤطرة للوجود الإنساني ككل.
ومن هذه الاختزالات حصر مفهوم الخلافة بأنّه التدبير لمصالح العباد في المعاش والمعاد، بما يحقق كسبهم وسعيهم وفق هداية الشرع وكأنّها غاية الاستخلاف والمقصد الأعلى، أمّا بشأن مفهوم العمران فقد فهم كأنّه كسب دنيوي محض وسعي في الأرض وتفاعل مع سنن الكون فقط، وكأنه مقطوع الصلة بسنن الدين. ويؤكد الباحث أنّ سوء فهم هذين المنظومين أدى إلى الخلاف والفرقة وتحكم النموذج المادي في البناء العمراني والحضاري، وتراجع الوعي بمنظومة القيم والسنن الضابطة في عمليات النهوض والسقوط.
يتناول الباحث سعيد شبار بعد ذلك مفهومي الاستخلاف والعمران ضمن الدلالات الإنسانية والحضارية الجامعة، فقد أثار التعبير بالاستخلاف في الآية الكريمة "أنّي جاعل في الأرض خليفة" خلافًا بين العلماء يمكن إجماله في أمرين: القيام بالتكاليف والواجبات، ومبادئ تكريم الإنسان وتفضيله وتزويده بالقيم المناسبة لأداء دوره وواجبه الاستخلافي. والخلف في لسان العرب يكون بالتحريك للخير والتسكين للشر. وتأتي بمعنى النيابة عن الغير إمّا لموته أو لعجزه. والخلافة عند ابن خلدون بأنّه النيابة عن صاحب الشريعة في حفظ الدين وسياسة الدنيا به. وأشار الباحث إلى دلالات أخرى أوسع لمفهوم الاستخلاف وفقا لثلاثة نماذج: سؤال الملائكة لله عن سبب استخلافه لآدم فكان ذلك من باب المشورة، وتجربة الإنسان المتجددة حين يتعرض للشجرة المحرمة استعدادًا للمعركة الأرضية، وقدرة الإنسان بفضل من الله أن يتصرف في مخلوقات الأرض بوجوه عظيمة لا تنتهي.
يخلص الباحث من كل هذا إلى أنّ الاستخلاف أوسع معنى ودلالات وتعبيرا عن مراد الله تعالى من الإنسان في هذه المهمة، وهي لا تنحصر فقط في ممارسة السلطة والحكم، فالخلافة وجدت لخدمة الإيمان والتعبّد والصلاح والإصلاح والسعي بالحق والعدل وفعل المعروف والخير...إلخ. ويضيف شبار بأنّه ليس مطلوبا في تديّن الإنسان التماهي الكلي مع أي من المفاهيم والقيم المقررة في الدين، فذلك غير ممكن، وهو فوق الجهد والطاقة البشرية، لأن تلك المفاهيم تنتمي إلى عالم المطلق، الكامل التام المستوعب للزمان والمكان. ومن نتائج عدم العودة إلى هذه الدلالات أن تم اختزال الدلالات والمعاني الشاملة للاستخلاف إلى نظم محددة في السلطة والحكم والتجبير الضيق لهذه الممارسة.
ومن المعاني الضيقة للاستخلاف التوقف عند حدود ورسوم تاريخية معينة في الخلافة بمعناها الضيق، أي ممارسة للسلطة والحكم، ومحاولة نقلها كما هي، أي نقل واستنساخ تجربة الخلافة والحكم كما مرّت في التاريخ الماضي إلى العصر والواقع الراهن. فالمراد من الحكم إقامة العدل ورفع الظلم وضمان كرامة وحقوق الناس وتحقيق السلم، وليست الخلافة مطلوبة لذاتها، وهذا يطابق كلام محمد عابد الجابري في أحد كتبه أنّ الشريعة لا تطبق من من أجل الشريعة وإنّما من أجل حكمتها. فكيف يطلب من الخلافة من خلال مناقضة أصل التوحيد في تحريره للناس من العبودية، ومناقضة مقاصد الشريعة في حفظها للأمن وصوتها للأنفس والأموال والأعراض!
وبخصوص العمران، فإنّ الباحث يؤكد على أنّ الإنسان خلق من طين كدلالة على أصله الأرضي ونفخ فيه من روح الله كدلالة على أصل فطرته الإيمانية المتجاوزة للمذاهب التطورية والاجتماعية والأنثروبولوجية الحديثة. وهناك دور وظيفي تقويمي للقيم والسنن في بناء العمران والحضارة، والإشكالية تكون حين تختزل هذه الوظائف كشعارات بلا مضامين مثلما هو الحال في الاتجاهات الفكرية والسياسية والدينية التي ترفع شعارات جوفاء بلا مضمون. ومن خلال علاقة الإنسان بالكون وإدراكه للسنن الفاعلة فيه، يتحدد نموذج الحضارة والعمران: أهو تفاعل سلمي تعارفي إصلاحي، أم هو تفاعل سلبي صدامي تحكمي يراعي مصالح دون أخرى؟ إنّ هذا الوعي بالقيم والسنن الاستخلافية العمرانية نبهت إليه تعاليم الإسلام منذ وقت مبكر مثل سنة "التعارف" و" عدم الإفساد" و"الإصلاح" و"التسخير".
ويشترط الوعي بسنن التغير من السلبي إلى الإيجابي بأن يغير الناس بما في أنفسهم تسليما لما نصت عليه الآية: "إنّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"، ويكون هذا التغيير في مسؤولية الإنسان في كسبه وسعيه تبعا لحرية اختياره، وذلك بعد البيان والإرشاد إلى سبل الصلاح والاستقامة ووجهة الاستخلاف والعمران، وعلى الإنسان بذل الجهد والكدح من أجل استبانة تلك السبل بإعمال ما أودعه الله فيه من وسائل الوعي والإدراك، عقلا وقلبا، وسمعا وبصرا، وعلما وتعلما. فلذلك قرن الاستخلاف بالعلم والتعلم، فالله خلق آدم وعلمه الأسماء ثم استخلفه على الأرض ودعاه إلى عمارتها وفق دليل الهداية والإرشاد.
وينبه الباحث بأنّ هناك مساحات تحتل حيّزا وافرا في الخطاب القرآني تتعلق بآيات الأنفس وآيات الآفاق كأنها ليست من آيات النص ومشمولات أحكامه، فلم ينظر إليها على أنّها أحكام تكليفية موجبة للفعل مثل الأحكام الأخرى، وأنّ إهمالها أو سوء إعمالها تترتب عليه مفاسد ومضار تستوجب عقوبات تشمل الكيان الجماعي والحضاري ككل. ويختتم الباحث نصّه بسنة الاستبدال والتداول الحضاري بين الأقوام والشعوب، فقد نبّه القرآن إليها في أكثر من سياق وآية مثل قوله تعالى: "وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم" وضمن سنة الاستبدال هناك الاستدراج والإملاء للمخالفين للسنن الشرعية أو المهملين لها، ظانين أنّ السنة الكونية كفيلة لوحدها ببناء النسق الحضاري المطلوب، حتى إذا ظنّوا أنّهم تمكنوا منها أتاهم الله بأمره. وهناك أيضًا شروط توفر القيم المعنوية وليست المادية فقط للاستخلاف، ومبدأ نصرة الله ولزوم هديه.
