شتات الموريسكيين وذوبان الأندلس

أمجد سعيد

يطرح الباحث المغربي سعيد عبيد في مقالته التي تحمل عنوان: "محنة الموريسكيين، ألم التاريخ وأمل المستقبل" تساؤلاً لا غنى عنه في أية بداية مهما كان الهدف منها للبحث عن الموريسكيين وتاريخهم. فمن هم الموريسكيون؟ بالرجوع إلى تاريخ التسميات فهنالك تسميات عدة سبقت الموريسكيين، وإذا كانت تسمية المدجنين "los mudejares" قد أطلقت منذ القرن الحادي عشر الميلادي على الفئة المُسلمة الذين كانوا تحت سلطان الحكم النصراني في شمال الأندلس تحديدا في قشتالة وأراغون- حدث ذلك مع بداية الانحسار والتراجع الإسلامي إلى حدود غرناطة في الجنوب- فإنَّ تسمية الموريسكيين جاءت من العقلية الإسبانية الصليبية مع بداية سقوط غرناطة في سنة 1492م؛ لوصف الطائفة العفنة والبذرة المشؤومة- كما عبَّرت بعض محاكم التفتيش- من المُسلمين، وأغلبهم من أحفاد الإسبان الأندلسيين أنفسهم، مع قلة من العرب والأمازيغ الفاتحين، ممن بقوا في الأندلس وفرض عليهم التنصير الإجباري، وأتى ذلك بعد خروج مملكتي قشتالة وأراغون منتصرين من حروب الاسترداد بفضل اتحاد وزواج الملكيين إيزابيل الأولى وفرناندو الثاني، وبهذا الاتحاد والانتصار تمَّ إنهاء ثمانية قرون من الحكم العربي الإسلامي للأندلس، مع إجلاء آخر أمراء المُسلمين محمد الثاني عشر عن مملكة غرناطة التي كانت تمثل ضمانًا قويًا لمُعاملة المسلمين في شبه الجزيرة الإيبرية باحترام. وهكذا عاش الموريسكيون الذي بقوا في هذه الأرض أكثر من قرن في ظل الإرهاب والإبادة الحضارية الشاملة، والتي بدأها الملك فرناندو بمرسوم ملكي سنة 1502م يقضي بتعميدهم وتنصيرهم كرها، ولم تنته هذه المراسيم الملكية بعد قرن كامل من الاضطهاد بمرسوم ملكي آخر من الملك فيليب الثالث سنة 1609م الذي يقضي بطرد المتبقين من المسلمين طردا نهائيا، وما ترتب على هذا المرسوم هو هجرة أول دفعة إلى منطقة وهران الجزائرية، وفي سنة 1614م تمَّ الإعلان عن طرد آخر مسلمي منطقة لامانتشا كانتهاء لعميلة الطرد والتهجير.

فتسمية الموريسكيين هي تسمية قدحية في الأصل، وتم اشتقاقها من التسمية الإسبانية بصيغة التصغير المورو والتي هي بمعنى المسلمين الأصاغر؛ فقد كانت تسمية الإسبان من قبل لمسلمي الأندلس وشمال إفريقيا بالمورو تأتي مشوبة بمعاني النفور والرهبة والخوف، وتمَّ تصغيرها بال"المورسيكوس" بدلالة التصغير والازدراء. يقول المؤرخ التونسي عبدالجليل التميمي مختصرا ماسأة الموريسكيين:" ما حل بالموريسكيين الأندلسيين بعد سقوط غرناطة سنة 1081م يُعد أشنع مأساة إنسانية عرفها التاريخ البشري على الإطلاق؛ ذلك بأنها كانت إبادة حضارية ممنهجة مُمتدة لأكثر من قرن بكل آليات القهر والترهيب والتنكيل التي قادتها شراكة الحكومات الملكية المتتالية مع دواوين أو محاكم التفتيش المقدسة."

ولم يكن الاضطهاد ليستثني اللغة العربية من الأمر، حيث أصدر فيليب الثاني سنة 1556م قانونًا علق على أبواب غرناطة العمومية يحرم استعمال اللغة العربية كتابة ومُشافهة، وذلك استمرارا لقوانين سابقة صدرت منذ 1502م تحرم وتجرم كل ما هو إسلامي أو عربي من مظاهر وعادات وتقاليد، شملت حتى التخضب بالحناء والاستحمام في الحمامات، وقد أمهل القانون الموريسكيين ثلاث سنوات لتعلم القشتالية، ثم لا يسمح لأحد بعد ذلك منهم أن يتكلم أو يكتب أو يقرأ اللغة العربية أو يتخاطب بها. في هذه الظروف العسيرة والرهيبة سيبتكر مسلمو الأندلس لغة سموها باللغة الأعجمية Aljamίa أو Aljamίado ألخميا أو ألخميادو؛ وهي لغة رومنسية متفرعة عن اللغة اللاتينية الأم، في صيغة اللهجة القشتالية أو اللهجات الأراغونية والكتلانية والبرتغالية، مكتوبة بالحرف العربي. ومع تباعد عهد المدجنين ثم الموريسكيين من بعدهم مع اللغة العربية خاصة بعد الحظر الرسمي الذي توج بأمر ملكي من إيزابيل سنة 1501م بإحراق كافة المؤلفات العربية في غرناطة، مما حوته خزائن جوامعها ومدارسها من ذخائر لامعة، اضطروا إلى الكتابة والتواصل الثقافي واليومي بهذه اللغة الأعجمية؛ تثبيتاً لأنفسهم وأبنائهم على الهوية العربية الإسلامية؛ فترجموا بها أمهات المصادر الدينية العربية، وعلى رأسها معاني القرآن الكريم، كما ألفوا بها كذلك كثيرا من تصانيفهم منذ عيسى الشقوبي نسبة إلى مدينة شقوبية Segovia، ولا تزال هذه المخطوطات السرية تُكتشف إلى يومنا هذا بحكم السرية التي فرضت نفسها على تداولها ضمن حدود دوائر إسلامية ضيقة جداً، كما فرضت إخفاءها في الكوى، وتحت الأرضيات، وخلف الجدران، وبين السقوف أماكن أخرى تحمل طابع السرية والتكتم، ولعل اكتشاف الباحثتين كارمن بارثيلو وآنا لبارتا لـ168 قصيدة موريسكية أعجمية بالخط العربي في مدافن الأرشيف التاريخي الوطني بمدريد، لدليل على أنَّ ذاك التراث المدفون لا يزال يخبئ الكثير من الأسرار والتاريخ في خباياه.

مع كل ذلك الجحود تُشير الآن كل المؤشرات إلى أن موريسكيي الأندلس والشتات وخاصة في إسبانيا وتونس والمغرب يشهدون صحوة سيكون لها ما بعدها، ليس تاريخيا وعلميا وأدبيا فحسب، بل على أرض الواقع كذلك من خلال تأسيس جميعات ومنظمات مدنية للدفاع عن حقوق الموريسكيين المسلوبة، منذ وجود الانبعاث الجبار الذي بذلته مجموعة مثقفة من أحفاد الموريسكيين في الأندلس والمغرب وعلى رأسهم المفكر السياسي الثوري بلاس بيريز الذي أعاد بوعيه الثاقب الذي يسبح ضد تيار تاريخ قشتالة المصنم تاريخ بلاده الأندلس والذي ابتدع علماً ذا شعار خاص بالأندلس رفعه على بلدية إشبيلية ليرفرف لأول مرة في العصر الحديث بعد قرابة خمسمائة سنة، كما أبدع أيضاً نشيدًا وطنياً أندلسيا خاصاً، واستمر على جهوده الحثيثة لانتزاع الحكم الذاتي لها إلى أن تمَّ اغتياله على يد جنود فرانكو سنة 1936م في إشبيلية.

ومن بعده استكمل السباق المحموم الشاعر الأندلسي آبل قدره الذي زامن ورافق المفكر بلاس بيريز- يعدان أبوي القومية الأندلسة المعاصرة- والذي حضر مؤتمر الشعوب التي لا دول لها في عام 1930م المعقود في دلهي بالهند مصرحاً بهذه الكلمات: من نحن؟ وإلى من ننتمي؟.

أخبار ذات صلة