الفقر: الأسباب، والأشكال، والحلول

Picture1.png

لفيليبس لينيس

*رضوان ضاوي (باحث في الأدب والأدب المقارن/ مختبر الدراسات المقارنة، جامعة محمد الخامس، الرباط).

صدر كتاب "الفقر: الأسباب، والأشكال، والحلول" لفيليبس لينيس (Philipp Lepenies) ضمن سلسلة "علوم" عن دار النشر (C.H.Beck) في ميونيخ بألمانيا. وجاء في تعريف دار النشر لهذه السلسة أن القارئ يتلقى من خلال هذه السلسة علماً من العلوم بطريقة منهجية، ذلك أن هذه السلسلة شارك في إعدادها باحثون ينتمون إلى الحقل العلمي الناطق بالألمانية. درس الكاتب فيليبس لينيس علم الاقتصاد الشعبي وحصل فيه على الدكتوراه، كما نال الأستاذية في مجال العلوم السياسية. والمؤلف أستاذ للعلوم السياسية المقارنة في معهد أوتو- زور (otto-suhr)بجامعة برلين الحرة ومدير لمركز البحث "الفقير ومقياس الفقر"، بهذا يكون المؤلف قد خبر هذا المجال العلمي.

محتوى الكتاب واضح ومكتوب بأسلوب علمي شعبي ومدرسي تعليمي بحسب ما سطرته السلسلة العلمية لدار النشر، وبلغة علمية تصف حياة الإنسان الذي يعاني من الفقر، وتساعد على فهم الفقر وتقويمه على مدى التاريخ.

إن الهدف من هذا الكتاب هو تجديد تعريف الفقر ورفع القلق عن مفهومه، انطلاقاً من دراسة نماذج عديدة أغلبها من بريطانيا باعتبارها ذات إرث عميق في أبحاث المجتمع ودراسات الفقر والحرمان. ولكن هذا الكتاب يهم بالطبع كل عربي وكل من ينتمي إلى العالم الثالث، مع ملاحظة أن مؤلف هذا الكتاب ينتمي إلى العالم المُتقدم وليس إلى العالم الثالث. وهذا معناه أن موضوع الفقر قد لفت انتباه العلماء في بريطانيا، إلا أنه بات جزءا من المناقشات الدائرة عن السياسة الاجتماعية في ألمانيا وفي البلدان الصناعية.

        عالج المؤلف في هذا الكتاب موضوع الفقر من منظور تاريخي، ابتداءً من العصر القديم حتى النقاشات الراهنة. وضم بين دفتيه جزءا كبيرا من الوصف الخاص بعلاقة المجتمع بالفقر وتعامله معه في إنجلترا في القرن العشرين، ولم يتحدث المؤلف عن الفقر في الولايات المتحدة الأمريكية إلا حين أراد التطرق إلى الأزمة الاقتصادية العالمية في سنة 1929. فكيف يتم تقييم الفقر وفهمه بين الحاضر والماضي وعبر التاريخ؟ وما ردود الفعل السياسية والاجتماعية في هذا التقييم؟

لكي يُعالج المؤلف هذه الإشكالات، جاء كتابه في عشرة فصول. ومع أن الكاتب خصص فصلا بأكمله (الفصل الأول) كمدخل للكتاب للحديث عن موضوع الفقر، ومن أجل عرض آرائه الشخصية في حديثه عن الفقر الحقيقي والفقر المزور، وضرورة إعادة النظر في المفاهيم، إلا أن الكتاب يزخر في فصوله كلها بإشارات عن أهمية ضبط المفاهيم المتحولة والمتنقلة.

   تناول الكاتب في الفصل الثاني موضوع الفقر في العصر القديم وفي تصورات الديانة المسيحية باعتبارها ديانة الفقراء، كما اهتم المؤلف في كل من الفصول الثالث والرابع والخامس بمقياس تقييم الفقر وطرق التعامل معه في القرن السادس عشر حتى سنة 1950 في إنجلترا، كما تنظر هذه الفصول إلى مسألة قوانين الفقراء القديمة والجديدة ونظرية البؤس، والمسألة الاجتماعية في الفكر الغربي قديمه وحديثه. لكن الفصل السادس يركز على نقاشات الفقر وثقافة الفقر مع الأزمة سنة 1929. ويناقش في الفصل السابع مقياس الفقر وتقويمه عالمياً، والمقولات المتعددة الخاصة برغبة السياسة العالمية في إنهاء الفقر. وينظر الفصل الثامن في التصورات الجديدة عن الفقر مثل الاستبعاد الاجتماعي، في حين خصص الفصل التاسع للحديث عن الفقر في ألمانيا ابتداء من سنة 1960، وفي الفصل العاشر قدم الكاتب وصفًا تاريخيًا يبدأ من العصر القديم وينتهي بالنقاشات الراهنة عن مفهوم الفقر ومقياسه. وتقوم الصفحات الثلاثة من البيبليوغرافيا في نهاية الكتاب بسد النقص وإرشاد القارئ إلى مصادر جديدة.

هذا الكتاب يُلقي نظرة تاريخية على إشكالية الفقر ويقدم محاور مضمونية شاملة ومعاصرة لهذه الظاهرة: فقد أورد تقرير الفقر في ألمانيا أن اثني عشر ألف شخص كانوا "فقراء". أنتج هذا العدد المفزع نقاشات عن الفقر، ولكن هل نتحدث فعلاً عن نمو كبير للفقر الحقيقي؟ أم يتعلق الأمر فقط بفقر نسبي؟

     كانت أرقام البنك الدولي قد قالت إن الفقر العام قد تراجعت نسبته في السنوات الأخيرة. وكان البنك الدولي قد أعلن بدوره عن هدفه الذي يكمن في العمل على تراجع نسبة البشر الذين يعيشون في فقر شديد إلى النصف. وقد تحقق هذا الهدف قبل خمس سنوات من الموعد المحدد له. وفي زمن احتفال منظمات دولية بالنجاحات التي حققتها في الكفاح ضد الفقر العالمي، يقول المؤلف إن 12% من سكان العالم يعيشون بأقل من 1.90 دولار في اليوم، أي ما يقرب من 900 مليون إنسان. أما في ألمانيا فقد أقر تقرير لجمعية الرعاية الاجتماعية والمساواة في سنة 2014 بأن الفقر في ألمانيا بلغ "ارتفاعا قياسيا جديدا ومحزنا". أما الاجتماع العام للأمم المتحدة فقد سطر دليلا لأهداف التطور الشاملة التي يفترض أن يتم تحقيقها في أفق سنة 2015. ولخص هذا الاجتماع هذه المطالب في العبارة الآتية: ينتهي الفقر بكل أشكاله في كل مكان.

ويقول الخبراء بلغة واضحة: إذا كان يتوجب على الأغلبية أن تكون عاطلة عن العمل أي 59%، وإذا كان أكثر من 40% من الأمهات الوحيدات (أمهات بلا زوج ولا شريك) يعشن في الفقر فإن هذا يعني أن هناك شيئا غير صحيح في سياسة هذا البلد (ألمانيا).

      يعتقد الكاتب أن المرء يتوجب عليه أن يلم بتاريخ الفقر وتاريخ التعامل مع الفقر، ويقول المؤلف إن فهم الفقر في ألمانيا هو فهم ذاتي يعود إلى سنة 1960، حيث اعتبر الخبراء أن الفقر لا يوجد لفترات طويلة كما عرفته الدولة أثناء فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، لهذا لم يكن الفقر موضوعا في النقاشات السياسية الداخلية، وهو الأمر الذي تغير في سنة 1990، أي بعد الوحدة الألمانية. في هذا الإطار مازالت مسألة وجود الفقر من عدمه في ألمانيا، وإذا ما كان يتزايد أو يتناقص قيد النقاش، وحتى في بلدان أخرى وفي معظم البلدان، كان من الصعب على الحكومات التعامل المفتوح مع الفقر ومع الإحصائيات التي لها علاقة به (الأرجنتين نموذجا)، فلا الدولة ولا الحكومة يريدان الاعتراف بأن هناك مشكلة اسمها الفقر.

ولكي نفهم جيدا ظاهرة الفقر في النقاشات الحالية، وعن قياس الفقر، وعن نظريات الفقر، اقتبس الكاتب عبارة مهمة "لأورسانسكي" (Molie Orshansky) المتخصصة في الإحصاء وهي: "الفقر مثل الجمال، يوجد في عين الملاحظ". من هنا يجب علينا فهم تاريخ الفقر وتاريخ التعامل معه. فمنذ قرون تم جزئيا مناقشة مجموعة من الأسئلة والإشكالات، ولم تفقد هذه النقاشات أهميتها.

نخلص دائماً إلى أنَّ هناك أساسا للقرارات السياسية في محاربة الفقر، وتطبع تصورنا عن الفقر وتحدد نقاشاتنا عنه، كما أنه توجد على ما يبدو مجتمعات انتهى الفقر فيها وأصبحت عالماً بدون فقر، وبالتالي الأمل موجود في العالم ولاسيما للبلدان النامية في تحقيق النتيجة نفسها، أي: عالم خال من الفقر. من ناحية أخرى يشير الكاتب إلى منهجية مهمة، حيث يمكن للمرء فهم الفقر أولاً حين يلقي الضوء على رد فعل الأغنياء  إزاء الفقر وبالتالي نحن إزاء ثنائية مفادها أنه: لا يمكن للمرء أن يكون فقيرا وغنيا في الوقت نفسه، ثانيا رد فعل الأغنياء مؤثر فعلا: عقوبات، احتقار، شعور بالتهديد، والنتيجة هي محاربة الفقراء بدل محاربة الفقر. وتتصف ديناميات الفقر بالتعقيد، يعرف بعض الباحثين الفقر تبعًا للدخل، وآخرون يقيسون الفقر بمقدار عدم استطاعة الفرد الحصول على الاحتياجات الاجتماعية الضرورية، إضافة إلى تراجع مكانة التعليم والتدريس بوصفها السبيل المضمون للحصول على عمل بتأهيل المتعلمين لسوق الشغل المعاصر وبالتالي قيادتهم إلى الاندماج  الواقعي في المجتمع، وكان لتوسيع الاتحاد الأوروبي دور كبير في المفاهيم والإحصاءات والمراقبة الاجتماعية فمفهوم  الفقر أصبح محددا من منظور الإقصاء الاجتماعي، فمفهوم الفقر نفسه لم يخضع للدراسة مما أدى إلى ظهور مناهج متعددة للقياس في البلاد الغنية والفقيرة على حد سواء.

  يذكر المؤلف أن جيورج زيميل (Georg Simmel) في كتابه "نحو سوسيولوجية الفقر" (Zur Soziologie der Armut) (1906) أن الفقير هو الذي يقبل المساعدة في تأمين حاجيات حياته. فقد كان الفقير بائسا، لكنه بقبوله للمساعدات همشه أهله. يخلص الكاتب إلى أنه لا يجب اعتبار الفقير عدوا وبالتالي تهديدا للمجتمع، بل يتوجب إدماجه في صيرورة التعلم. وقد عرّف زيميل الفقير كمتلق للمساعدة من الآخرين، وله الحق في تلك المساعدة وليس الفقير هو من ينقصه المال، بالرغم من أن زيميل ركز على الفقير لتطوير قطاع عريض من الأفكار المثيرة للاهتمام عن الفقراء والفقر. إن العون للفقراء بواسطة المجتمع يدعم النسق الاجتماعي، فالمجتمع بحاجة إلى مساعدة الفقراء: "حتى لا يصبح الفقراء أعداء نشطين وخطرين على المجتمع وحتى يجعل طاقاتهم أكثر إنتاجية وليتمكن من منع إعادة إنتاجهم". لذلك فإن العون للفقراء هو من أجل المجتمع وليس من أجل الفقراء في ذاتهم. وتؤدي الدولة دوراً أساسيا فيه مما أدخل معاملة الفقراء ضمن آليات تقديم العون وليس بطريقة شخصية. كان لزيميل رؤية نسبية للفقر، فالفقراء ليسوا هم الذين يقفون في قاع المجتمع. وهو يرى أن الفقر موجود في كل طبقات المجتمع، هذا المفهوم مهد للمفهوم السوسيولوجي المتأخر عن الاستبعاد الاجتماعي النسبي. كما يرى أن رعاية الفئات الهشة باتت واجبا وطنيا حرصت عليه التقارير الأخيرة عن التنمية البشرية الصادرة عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.

        عمل الكاتب على إظهار أمثلة متنوعة ومختلفة من الفقر وعمل على إضاءة بعض العصور المهمة وبعض الأدوات التي ساعدت القارئ على فهم النقاشات حول الفقر من خلال تجارب بعض البلدان. على سبيل المثال تؤدي انجلترا دورا خاصا في هذه النقاشات، وتؤثر على العالم الغربي. ففي القرن السادس عشر كان لدى إنجلترا أساس تشييد نظرية الإفقار، كما نما في إنجلترا ضغط عام من أجل البحث عمليا في الفقر وتلخيصه في أرقام، بالنهاية يقول المؤلف إن تقسيم العالم إلى دول غنية ودول فقيرة، تعود جذوره إلى النقاشات الإنجليزية عن الفقر.

      عرف العصر القديم أشكالا مختلفة في المساعدات المقدمة للمواطنين الأحرار المحتاجين، مثل المساعدات الطبية، أو مساعدات مصاريف الدفن أو عند الحاجة الملحة أو في فترات الأزمات، كما يتلقى جرحى الحرب مساعدات، ويحصل المواطنون الفقراء على المساعدات المالية مرة واحدة في الإمبراطورية الرومانية.

 ويلاحظ الكاتب أن العصر القديم كان يعتبر الفقر قدرا خاصا وذاتيا، إنه عقوبة إلهية وأساس الشر الاجتماعي، كما عانى الفقراء من التحقير والتجريم في اليونان وروما، فرغم أن المسيحية قدمت نفسها على أنها "ديانة الفقراء"، إلا أن روما اعتبرت كل من يتوجب عليه الحصول على غذائه بالعمل اليدوي فقيرا وكل من لا يتوجب عليه ذلك غنيا. فالمجتمع المنحط هو ذلك الذي يعمل أفراده في أعمال يدوية. كما أن من يعتمد على المساعدات من أعضاء العائلة يعاني في كبره من الفقر، لا سيما وأنه لا يستطيع العمل بيده. أما المقعدون والمعوقون فيعتبرون جالبين لسوء الحظ ويتم إقصاؤهم من المجتمع. وبالتالي كانت الأسئلة التالية: كيف ينشأ الفقر؟ كيف يمكن مساعدة الآخرين؟ وكيف يمكن إنهاء الفقر؟ مثل هذه الأسئلة كانت غريبة عن الأغنياء في العصر القديم، وقد كتب أحد التجار على حائط دكانه: "أحتقر الفقراء".

وفي ألمانيا تزعم الوزيرة الاتحادية للعمل والاجتماعي أندريا نالس بأنه لا يوجد فقر مادي في ألمانيا. تتحدث هذه الوزيرة في صحيفة جنوب ألمانيا في 2015 عن "الفقر الحقيقي" و"الفقر النسبي"، فحين تكون هناك أرقام جديدة عن وضعية الفقر في ألمانيا يأتي نقاش ساخن في وسائل الإعلام عن شرعية النتائج المعروضة.

طرح الكاتب سؤالا مهما عمن يمكنه تعريف الفقر، ويحيل في جوابه إلى قول عالمة اجتماع أمريكية: "الفقر يوجد في عين الملاحظ ويشبه الفقر الجمال، إلا أن الفقر ليس جميلا". ويتأسف الكاتب في كون الغائب اليوم هو أن الفقر لا يوجد له تعريف واحد، بل تعاريف مختلفة يتم تفسيرها تاريخيا. ويجب أن ننظر جيدا إلى المجتمعات التي وجد فيها الفقر، كما يجب على الباحث طرح أسئلة مثل: ما معنى أن يكون المرء فقيرا؟ وهل لدى المرء ما يكفيه من الطعام؟ ثم ما الذي يفعله الأغنياء مع الفقراء؟ ما ردة فعل المجتمع على الفقر؟ هل يحاول الفقراء مساعدة الفقراء؟  وكيف يتقبل المرء الفقر؟.

 وأخيرا يلاحظ القارئ أن الكتاب الذي بين يديه حافل بمعطيات جديرة بالقراءة عن الفقر وأن الرؤية التي يبسطها هذا الكتاب درس يدعو إلى إدراك متغيرات العالم المعاصر وإلى إعادة النظر في مصطلح الفقر ورفع القلق عن هذا المفهوم، وإن ما عرضه الكاتب في هذا الكتاب هو خارطة طريق جديدة في البحث في المؤسسات وفي مناهج الجودة أي "الاقتصاد السياسي للإحصاء"، في ظل تنامي وفرة البيانات عن البلاد الفقيرة مع إشراف البنك الدولي على جمع هذه البيانات.

---------------------------------------------------------------

الكتاب: "الفقر: الأسباب، الأشكال والحلول".

تأليف: فيليبس لينيس.

باللغة الألمانية.

الناشر: (C.H.Beck) في ميونيخ بألمانيا

سنة النشر .2017:

 

أخبار ذات صلة