«مكيدة الأساتذة » من لينين إلى بريجنيف

Picture1.png

لإدوارد  ماكاريفيتش

أحمد م الرحبي

تظهر ثمرة الجهد العقلي للعالم والباحث في الأفكار والنظريات والمفاهيم التي ينتجها. وفي هذا الصدد يتساءل مؤلف هذه الدراسة المتعلقة بالتاريخ الروسي المُعاصر: هل قُدّر لرجل المعرفة أن يؤثر في مسار تاريخ البلاد ويتدخل في وضع القرارات السياسية القيادية وأن تؤثر آراؤه الاجتماعية والفكرية في تسيير دفة الحكم؟

تشير بعض الوقائع إلى استحالة هذا التأثير وتؤكد على مقاومة العقلية السياسية لتوجيهات العلماء وآرائهم مهما كانت صائبة. فها هو الرئيس السوفيتي يوري أندروبوف في عام 1983 وفي واقعة شهيرة دخلت السجل السياسي السوفيتي، ها هو يوجه ردا قاسيًا إلى الأكاديمي السوفيتي ومدير معهد الولايات المتحدة وكندا التابع لأكاديمية العلوم السوفيتية جورجي أرباتوف حين وجه له نصيحة ضمنها مذكرة علمية تحليلية يدعو فيها إلى الحاجة الماسة لإشاعة حرية الفكر في الاتحاد السوفيتي. وجاء رد الرئيس كالتالي: "إن الملاحظات التي تسوقونها لنا غير نافعة في شيء البتة. فليس لها شكل واضح ويشوبها الاضطراب. والأهم من ذلك أنها لا تتيح لنا أن نستخلص منها أي استنتاج عملي" (ص 3).

 

ولمقاربة هذا الموضوع تحضر هنا قصة للكاتب الروسي أنطون تشيخوف بعنوان "قصة مملة" يعترف فيها بطل القصة (وهو عالم بارز) بنقصان العلم وقلة حيلته إذا واجه العالم الواقعي بالجفاء والنكران. يقول البطل: "إن مشاعري وأفكاري التي تعيش في داخلي إنما تعيش منعزلة عن كل شيء. جميع أحكامي عن العلم والمسرح والأدب وعن التلاميذ وبكل الصور التي ترسمها مخيلتي لن يجد فيها أي محلل، ولا حتى الأكثر مهارة بينهم، ما يسمى بالفكرة الرئيسية، التي بغيابها ينتفي وجود تلك الأفكار ولن يعود لها أية قيمة".

لا يمكن لنا إلا أن نتفق مع رؤية الكاتب الروسي الكلاسيكي آنف الذكر في أن غياب الفكرة الرئيسية هو غياب للمعنى وهو غياب للموقف الصلب وبالتالي فهو غياب لما يمكن تسميته بالأستاذية، أي غياب الأستاذ نفسه. وعلى هذا النحو فقد اكتسب شرف صفة "الأستاذ" أولئك النفر من العلماء ممن توفرت لديهم فكرة داخلية خاصة وواضحة، الفكرة التي تلهم أفعالهم الكبيرة والتاريخية وتؤسس إما للمقاومة والسيطرة وإما للتنمية والتطور المدني. مثل هؤلاء الرجال هم أبطال هذا الكتاب التوثيقي. فالبحوث التي يعملون عليها تثمر عن قوة قادرة على طرح الأفكار والنظريات والمفاهيم وعلى ابتكار التقنيات التي تتحول في أرض الواقع إلى أسلحة للتغيير الاجتماعي وأدوات فعالة لكبح الأنظمة السياسية الغاشمة، ولذلك، ومن الجهة المعاكسة، فقد وِسمت أعمال هؤلاء الأساتذة بـ "المؤامرة العلمية".

 يتحدث الكتاب عن "العلماء المتآمرين" منذ مرحلة لينين التأسيسية وحتى عهد بريجنيف مثلما يشير عنوان الكتاب، أي بين أعوام 1917 و 1982 وهم علماء لما تزل أفكارهم تنطوي على أهمية وتأثير حتى أيامنا الراهنة. ويقتصر المؤلف هنا على النظر إلى مفاهيم العلوم الإنسانية لا غير، ولا سيما التاريخية والسوسيولوجية منها، أي المفاهيم التي تركت أثرا بالغا في تاريخ الاتحاد السوفياتي وأرست أُسساً لمقاومة نظامه.

 في طليعة أبطال هذا الكتاب هناك رئيس جمهورية تشيكوسلوفاكيا توماش مسارك؛ أحد مدبري الحرب الأهلية في روسيا بعد ثورة عام 1917 حيث قاد تمردا للأسرى التشيكوسلوفاكيين ضد الدولة السوفيتية، مستفيدا من مناخ الحرب العالمية الأولى، الأمر الذي أسفر عن خروج مناطق شاسعة من سيطرة السلطة الروسية.

   ثمة أيضًا الأستاذ المحاضر في جامعة موسكو سيرغي ميلغونوف ( (1956-1879وكفاحه ضد النظام السوفيتي، مؤيدا بنظريته فضح ما أسماه "الرعب الأحمر" الذي أصبح فيما بعد عنوانا لعمله الشائع في اللغات الأوروبية، وهو العمل الذي أجج نار الكراهية ضد النظام السوفيتي في الغرب، فضلا عن أنه، وكما يقول المؤلف: "مهد (أي كتاب الرعب الأحمر) الطريق أمام الكاتب الروسي ألكسندر سولجينيتسين (1918-2008) لحيازة جائزة نوبل للأدب (عام 1970) وذلك عن روايته الشهيرة "أرخبيل الغولاغ" التي وجه من خلالها ضربة قاسية إلى النظام السوفيتي ومعه الإيديولوجية الشيوعية برمتها" (ص 5). ويؤكد الباحث على أنَّ أفكار الأستاذ سيرجي ميلغونوف وكذلك البروفيسور فلاديمير بوريمسكي عززت دعائم الأدب المعادي للسلطة السوفيتية. ومن تجليات ذلك الأدب ما يورده الباحث عن بطل سولجينتسين "سبيريدون دانيلوفيتش" في روايته الشهيرة "الدائرة الأولى" حيث يصيح البطل لأحدهم سائلا: "إذا قيل لك الآن وهنا أن طائرة تحمل قنبلة ذرية بصدد إلقائها، هل أنت مستعد أن تموت هنا مثل كلب وتدفن تحت هذا الدرَج، حيث ستبيدك القنبلة أنت وعائلتك مع مليون شخص آخر، ولكن أيضًا مع أبينا صاحب الشوارب (أي ستالين) وتجتث النظام كله من جذوره، فلا يعاني الناس في السجون من بعدهم ولا في المزارع الجماعية والغابات، فما أنت قائل؟ - "ليس هناك المزيد من الصبر، لا صبر البتة، لو سؤلت هذا السؤال لأجبت: حسنا! فلتلق بقنبلتها! فلتدمر كل شيء، كل شيء!" (ص 304).

وفي السياق نفسه ولكن من زاوية مختلفة، يحلل الباحث الدور التاريخي لمفهوم "الثورة الجزيئية" وهو مفهوم صاغه العالم الكيميائي المنشق فلاديمير بوريمسكي (1909 – 1997) الذي أصبح فيما بعد أكاديميا أمريكيا. تتأسس الثورة الجزيئية على نظرية الصراع ضد الديكتاتورية الشمولية ولكن في الفترات السلمية، ومن مقولاتها أن الهيكل التنظيمي لأي معارضة ليس بذي أهمية كبيرة، بل إن دور التنظيم نفسه يتراجع أمام الفكرة الكبرى التي توحد الجماهير وتتكفل برص بنيانهم وتحويلهم إلى كتلة واحدة موحدة، مهما كان الجمهور عريضا أو متباعدا. أما تثقيف هذه الكتلة والتحكم بتوجيهها فيمكن أن يتم من خارج البلاد. وقد التفت الأمريكان إلى نظرية بوريمسكي وأخذوا بمعطياتها كما يشير المؤلف إلى ذلك: " لقد أخذ بها الأمريكان حينما تراجعوا في أوائل الخمسينات عن خطة الهجوم النووي على الاتحاد السوفيتي واضطروا إلى البحث عن سبل تقنية لخلخلة الاتحاد السوفيتي من الداخل" (ص 6).

 يخصص الباحث جزءا مستقلا من الكتاب للعلماء السوفيت الذين، ولأسباب مختلفة، لم يتمكنوا من إلهام قادة البلاد بأفكارهم ولم تجد نظرياتهم صدى في أرض الواقع. مع ذلك قيَض لهم أن يكتسبوا رمزية برّاقة ويتحولوا إلى نماذج وموديلات أدبية شهيرة. من بين أولئك عالم الأحياء نيكولاي كولتسوف

(1872 – 1940) وهو أحد مؤسسي علم الوراثة الروسي ورائد فرضية تحسين النسل التي خرجت من رحمها في الاتحاد السوفياتي دراسات وأبحاث زائفة.

على النقيض من البيولوجي كولتسوف، حاز الأكاديمي يفغيني تارلي ((1955-1874 بفضل أسلوبه الفريد في الكتابة، ومصداقية أوراقه العلمية، اعتراف السلطة السوفيتية ووضع في صف المؤرخين الرسميين القلائل في عهد ستالين، وترجمت أعماله إلى اللغات الأجنبية حيث أثارت اهتماما كبيرا في الغرب، منها كتاب نابليون وكتاب غزو نابليون لروسيا وكتاب حرب القرم وغيرها من كتب التاريخ التحليلي.  ومما يذكر عن هذا المؤرخ الفذ والمؤثر في الشؤون السياسية السوفيتية أن ستالين قربه إليه ثانية بعد عودة الأول من منفاه السياسي، كما أن دراسة تارلي حول حملة نابليون على روسيا عام 1812 تركت أثرا بالغا على شحن معنويات الروس وقيادتهم عشية هجوم هتلر على الاتحاد السوفيتي، إذ كانت تمجد طبيعة الروح الروسية بطريقة تاريخية مدروسة. ويورد المؤلف في كتابه هذا مقاطع من تحليل يفغيني تارلي لهزيمة نابليون في روسيا ومنها المقطع التالي: "إن جيوش نابليون التي جالت أرجاء الأرض ومنها مصر وسوريا لم تتصرف بالوحشية والعجرفة ولم تمارس التعذيب والقتل مثلما فعلت في روسيا (...) فلماذا كل تلك القسوة التي أنزلها الفرنسيون على الروس؟ ببساطة لأن الروس كانوا شرسين للغاية في مقاومتهم للمُحتل وانتقموا من الفرنسيين بحرق قراهم نفسها ومدنهم ومن بينها موسكو حتى قبل دخول الفرنسيين إليها. لقد انتقم الفرنسيون من عناد الشعب الروسي الذي لم يخفت أواره منذ بداية غزوهم البلاد وحتى خروجهم منها" (ص 264).  

 لم يقتصر المؤلف على سرد سيرة العلماء السوفيت الذين وضعوا بصمتهم على التاريخ الروسي في القرن العشرين، ولا بجمع الوثائق المثبتة لاضطهادهم من قبل السلطات السوفيتية، أو وصف الأهمية السياسية لأطروحاتهم في حينها، إذ راجع حقائق تاريخية كثيرة أخرى تخص أساتذة وأكاديميين غيروا مجريات الأحداث العالمية في القرن العشرين. ومن بين أهم هذه الأحداث حينما استطاع نخبة من أساتذة جامعة هارفرد ثني الحكومة الأمريكية عن فكرة ضرب الاتحاد السوفيتي بالسلاح النووي وبالتالي إبعاد شبح حرب نووية مدمرة. فبعد دراسة أعدها علماء هارفرد شملت مجموعة من الهاربين السوفيت من الحكم الستاليني في ألمانيا وطرح استبيان عن رأيهم في سؤال يتعلق بإسقاط قنبلة نووية على موسكو يكون هدفها الأساسي سحق القيادة البلشفية ولكن أضرارها ستشمل عدة آلاف من المواطنين الأبرياء. وقد جاءت نتيجة الاستبيان مخيبة لآمال الجنرالات الأمريكان المتعطشين لتوجيه الضربة النووية إذ تبين أن المواطنين السوفيت، بمن فيهم المتضررون من سلطة بلادهم والهاربون من جبروتها، غير مستعدين لمواجهتها بهذا الأسلوب، وبالتالي فإنَّ أي ضربة كبيرة من هذا النوع ستأتي بنتيجة عكسية وستوحد الجماهير حول السلطة لمواجهة التهديد الخارجي.

والحال كذلك فلابد من وجود طريقة أخرى غير استخدام العنف المباشر لتدمير النظام الاشتراكي السوفيتي. ولكن كيف السبيل إلى ذلك بالنسبة لشعب مليء بالفخر بالانتصار على ألمانيا النازية؟ كيف يمكن استدارج شعب غير مدلل ولا تغريه الحريات المثالية؟ فنتيجة للحرب العالمية الثانية فقدت روسيا نحو ستة وعشرين مليونا من مواطنيها وكانت البلاد تتعافى من جروحها العميقة وتقوم بكنس مخلفات الحرب وإعادة إعمار ما دمرته من مدن وقرى ومؤسسات وسكك حديدية. وهنا ينبري العلماء والأساتذة الغربيون مرة أخرى لتعيين نقاط الضعف في الاتحاد السوفيتي ووضع الوصفة المناسبة لتقويضه، فكانت على الشكل التالي: بما أن الفارق بين مستوى الصناعة العسكرية ومستوى ثقافة الاستهلاك في الاتحاد السوفيتي شاسع للغاية، فإن اختيار التخلف المادي في الحياة السوفيتية وندرة التنوع السلعي سيكون مناسبا لإطلاق الدعاية الغربية المُدمرة. وفي هذا السياق تُمثل مقالة عالم الاجتماع الأمريكي ديفيد ريثمان (1909 – 2002) المعنونة بحرب النايلون أفضل السيناريوات لكيفية تدمير الاتحاد السوفيتي بالدعاية الموجهة وحدها؛ فحسب رؤيته التي صاغها بأسلوب خيالي، يكون إسقاط سلع استهلاكية على مدن الاتحاد السوفيتي عن طريق آلاف القاذفات الأمريكية كفيل بتحقيق الهدف. يقول المؤلف: "ومع أن السيناريو الذي وضعه ريثمان منسوج من الخيال، إلا أن الوقائع أثبتت فيما بعد واقعية خياله، فالقوة الضاربة للحرب الباردة تمثلت في قصف الشعب السوفيتي بالأفكار الاستهلاكية ونشر الصور المثالية للمعيشة الغربية الباذخة" (ص 321).

ختاما، ومع أن كتاب "مكيدة الأساتذة من لينين إلى بريجنيف" ينظر في فترة زمنية ماضية ويحلل مناخاتها ضمن مساحة معينة وهي الاتحاد السوفيتي السابق، إلا أن ترسانة أمريكا من أسلحة الحرب بالأفكار مازالت فعّالة ولها عرّابوها من أساتذة وأكاديميين أبرزهم اليوم: زبيغنييف بجيزينسكي وجوزيف ناي ومارك بالمر وجين شارب، أما أحدث منتجاتهم الفتّاكة في عالمنا المعاصر فهي الديموقراطية.

--------------------------------------------------------------------

الكتاب: مكيدة الأساتذة ... من لينين إلى بريجنيف.

المؤلف: إدوارد مكاريفيتش.

الناشر: فيتشي/ موسكو 2017.

اللغة: الروسية.

عدد الصفحات: 384 صفحة.

 *كاتب عماني            

 

 

أخبار ذات صلة