كاسيا سانت كلير
سعيد الجريري*
"الحياة السرية للألوان" دراسة لونية للحضارة الإنسانية من جهة، كما أنه من جهة أخرى إجابة مفصلة، وفق رؤية ثقافية اجتماعية، عما يثار حول علاقة الألوان بالسياسة، والفن، والحرب، والأزياء، وهو مقاربة جديدة للألوان في سياقات تاريخية وثقافية، بما يحفل به من حقائق مثيرة، على تماس مع حقول معرفية عديدة كالفيزياء، والكيمياء، والأحياء، والتاريخ، والفلك، والفلكلور، والميثولوجيا، وعلم النفس، وعلم اللغة، والأدب، والسيميائية، والأزياء، والدين، قد تحفز من زاوية ما، على إعادة النظر إلى اللون لكي يكون هو نفسه تحديداً. ولعله لذلك حظي بطبعات عديدة في الأسبانية، والألمانية، والصينية، والروسية، والرومانية، والهولندية التي طُبع فيها سبع طبعات خلال عام واحد، 2017، بعد أشهر من صدوره في طبعته الإنجليزية 2016. ولعل تصدير الكتاب بعبارة "إن العقول الأكثر نقاءً وعمقاً هي تلك التي تحب الألوان أكثر" للمؤرخ والناقد الفني الرائد في العصر الفيكتوري جون راسكن، يمثل عتبة مفتاحية دالة بذاتها كفكرة تختزل موقفاً من الألوان عابراً للتاريخ، ودالة أيضاً من حيث إحالتها الذكية إلى كتابه (حجارة البندقية)، عن فن الهندسة المعمارية، إذ تتفحص كاسيا سانت كلير الألوان بشغف، باحثةً عن أسرارها العميقة؛ لتضع قارئها إزاء إحساس جديد باللون كأنه يراه أول مرة.
(1)
متنُ الكتاب يتوزع على عشرة فصول يمثل كل فصل منها لونٌ أساس، وهي متبوعة بألوان أخرى مثيرة، ثم ببليوغرافيا شاملة. أما المقدمة فإطلالة واسعة عن اللون والضوء، وكيف نرى الألوان، وأصباغ الرسامين عبر العصور، وطرائق تعاملهم مع اللون، وثراء اللغة اللونية، ثم محاولة الإجابة عن مدى تحديد الكلمات أيّ الألوان نرى.
ويبدو أن البناء العشري لفصول الكتاب وألوانه، يؤشر قصديةً تغاير سباعية ألوان الطيف التي استقرت منذ أن أنجز إسحق نيوتن أبحاثه التجريبية في القرن السابع عشر: الأحمر، البرتقالي، الأصفر، الأخضر، الأزرق، النيلي، والبنفسجي، فقد اقترحت المؤلفة ثلاثة أخرى هي: الأبيض، البني، والأسود، باعتبارها ألواناً أساسية. وتمثل تلك الألوان العشرة عوائل لونية لكل منها تفرعات تختلف عدداً، فتفرعات الأبيض اللونية 7، والأصفر 10، والبرتقالي 6، والوردي (النيلي) 7، والأحمر 7، والبنفسجي 6، والأزرق 8، والأخضر 8، والبني 8، والأسود 8 أيضاً، ليصل مجموعها إلى 75 لوناً، لكل منها حكاية ذات أهمية، أو طرافة، أو غرابة على نحوٍ ما، في سياقها المتصل أحياناً بفنانٍ ما، أو مصمّم، أو فكرة، أو عادة أو ظاهرة اجتماعية، أو ثقافية، أو سياسية، أو حضارية، أو إنسانية عامة.
(2)
إن للألوان أهمية كبرى، ولا غنى للإنسان عنها في علاقته بما يحيط به في هذا الكون، من أدق التفاصيل الصغيرة إلى أكبرها، حسيةً كانت كلون البشرة، و الشعر، والعينين، أوالعلامات (الماركات) التجارية مثلاً، أم ذهنية كالمعاني والمفاهيم أو العلامات التخييلية الشعرية. ولكن كيف نرى ذلك فعلاً؟ وهل يمكن أن نقول إن اللون الذي نشعر به هو اللون نفسه؟. تشير المؤلفة إلى النقاش الميتافيزيقي المثار منذ القرن السابع عشر حول ما إذا كانت الألوان موجودة بالفعل، أم هي مجرد ظاهرة داخلية؟. ثم تستدعي في السياق نفسه الجدل الذي أثير مؤخراُ على شبكة الإنترنت 2015)) حول لون أحد الفساتين: أسود على أزرق أم أبيض على ذهبي؟، لتخلص إلى أن تضارب إجابات المشاركين يبين مدى معيناً من الغموض، وبفضله أصبحنا ندرك فجأة عملية المعالجة التي تجري في أدمغتنا، ومحاولات التفسير العلمي (للسر)، غير أن المؤلفة تؤكد، بإشارات وإحالات علمية، أن أكثر من 4% من سكان العالم مصابون بعمى الألوان كلياً أو جزئياً، ومن الواضح أنه عادةً ما يكون وراثياً، وهو أكثر شيوعاً بين الرجال (واحد من اثني عشر رجلاً تقريباً) بينما يقل بين النساء (واحدة من بين مائتي امرأة).
(3)
في إطلالة موغلة في التاريخ تحيل المؤلفة إلى بلينيوس الأكبر (23/24 – 79م) الذي ذهب إلى أن الإغريق كانوا يستخدمون أربعة ألوان فقط هي: الأسود، والأبيض، والأحمر، والأصفر، غير أنها ترجح أن قوله مبالغ فيه، فحتى المصريون القدماء كانوا يعرفون بالفعل في2500 ق.م طريقة لجعل اللون الأزرق أكثر زهاءً. لكن الصحيح أن الفنانين القدامى عموماً كانوا يستخدمون عدداً محدوداً من الأصباغ المأخوذة من الأرض، أو المصنوعة من بعض النباتات والحشرات، إذ عرفت البشرية عدداً من صبغات الأرض كالأحمر والأصفر والبني. غير أن أقدم الأصباغ استُخدم منذ وقت مبكر في العصر الحجري الأول قبل 350,000 سنه مضت.
وفي القرن التاسع عشر تسارعت عملية الحصول على مواد التلوين وتجميعها وتداولها، بفضل الثورة الصناعية، ثم أصبح كثير من المواد الكيميائية من المنتجات الثانوية للعمليات الصناعية. لكن ما الأصباغ المتاحة أو التي تم اختراعها وكان لها دور رئيس في تاريخ الفن وتطوره؟
لقد طوّر فنانو عصر النهضة والعصر الذهبي تقنيات لتصور الضوء والظل بشكل واقعي، ولكن تم تحديد لوحاتهم على حد سواء من خلال حقيقة أن لديهم متاحاً أوسع من الأصباغ. إلا أن بعض الأعمال في ذلك الوقت ظلت غير مكتملة أو لم تتجاوز الرسم التخطيطي؛ لأن الفنان لم يكن لديه المال الكافي لاقتناء الأصباغ المكلفة اللازمة لإكمال اللوحة. فعلى سبيل المثال كان ألترامارين الأزرق الزاهي ثميناً جداً، حتى أن أصحاب العمل أنفسهم يشترونه، غالباً، لأن الفنان لا يستطيع الدفع، وأحياناً يرون ضرورة وضع عقد يحدد كمية الصبغ الباهظ الثمن المستخدم في اللوحة، لكي لا يختار الفنان صبغاً بديلاً أرخص. وفي السياق ذاته عانى الفنانون القدامى في علاقتهم بالأصباغ، فمنها ما هو مغشوش أو سريع التحول أو التفاعل سلبياً مع القماش، وهي معاناة لا يمكن تخيلها بالمقارنة مع ما أتيح للفنان المعاصر من مواد وإمكانيات وتقنيات، امتداداً لمرحلة ما بعد اختراع الطلاء المعدني عام 1841. يقول المؤرخ الفرنسي المعاصر مايكل باستوريو معبراً عن هذه الجزئية: "يمكنك أن تقول تاريخ اللوحة، لكن تاريخ الألوان حكاية مختلفة جداً، وأوسع من ذلك بكثير".
(4)
وكخلفية لما آل إليه راهن الألوان توثق المؤلفة ما بذله كثير من العلماء والفنانين والمصممين واللغويين جهوداً مهمة لتعيين الألوان وتوزيعها وتصنيفها. لكنها تنوه، خصوصاً، بما بذله الفنان الهولندي أ. بوجرت في نهاية القرن السابع عشر من جهد واسع لالتقاط جميع الألوان المعروفة إذ ألف كتاباً من 800 صفحة عن فن خلط الألوان المائية واستخدامات كل لون، وطريقة إنتاج أشكال جديدة من الألوان.
لكن الاهتمام بالألوان يتجاوز كونها ظاهرة طبيعية مجردة، إلى كونها مسألة ثقافية أيضاً. فلنأخذ، على سبيل المثال، فكرة تصنيف الألوان إلى دافئة وأخرى حارة. سوف نقول إن الأحمر والأصفر دافئان، وإن الأزرق بارد. إلا أن هذا التصنيف لم يكن موجوداً إلا منذ القرن الثامن عشر، فهناك دلائل تشير إلى أن الأزرق كان يُعَد في القرون الوسطى لوناً دافئاً، بل أكثر دفئاً من الألوان كلها. فالنظر إلى الألوان ينبغي، إذاً، أن يكون باعتبارها ذاتية (إبداعية ثقافية)، وبخاصة أنْ لا وصفَ عالمياً دقيقاً لجميع الألوان المعروفة.
لقد كان الكتاب الكلاسيكيون الغربيون ينظرون إلى الألوان كطريقة أو أسلوب من أساليب التهريج، أو السلوك الشاذ أو الطفولي. حتى أن كاتباً كالأمريكي هيرمان ملفيل (1891-1819) يصفها بأنها ليست سوى خداع خفي، وليست جزءاً من الأشياء حقاً ولكنها موضوعة من الخارج.
وليست وجهة نظر ملفيل هي الأولى أو الوحيدة في هذا التصور، فقد أظهر البروتستانت سذاجة عقلية بشكل رئيس من خلال لوحة من الأسود والأبيض، وإزالة الألوان المرحة مثل الأحمر، والبرتقالي، والأصفر، والأزرق عن جدران الكنيسة، ومن خزائن ملابسهم الخاصة. على الرغم من أن الألوان ارتفعت، في نظر الإغريق، في خط ناعم من الأبيض إلى الأسود: فالأصفر أغمق قليلاً من الأبيض، والأزرق أخف قليلاً من الأسود، وكان الأحمر والأخضر في الوسط. ولم تظهر قبل القرن السابع عشر فكرة أن الأحمر والأصفر والأزرق ألوان أساسية، والأخضر والبرتقالي والأرجواني ثانوية، ثم أتت فكرة نيوتن عن أن الأبيض والأسود ليسا من الألوان أساساً.
(5)
إن للألوان وظيفة في إنتاج المعنى والقيمة الثقافية، حد أن وُجدت قواعد وقوانين رسمية للون، لدى الإغريق والرومان، وهناك مثلها في الصين واليابان، ثم ظهرت وازدهرت في أوربا في منتصف القرن الثاني عشر ولم تخفف إلا في العصر الحديث. في تلك القواعد والقوانين يحدد كل شيء ابتداءً مما يأكله الناس إلى ما يرتدونه من ملابس وكيف يؤثثون ويرتبون منازلهم. الأمر الذي يوفر نظاماً يمكن التعرف عليه بوضوح يجعل التمييز بين الطبقات الاجتماعية جلياً، ويحدد، من ثمَّ، الفوارق الاجتماعية. على سبيل المثال كان على المزارعين أوالريفيين أن يأكلوا ويلبسوا ما يدل على أنهم مزارعون أوريفيون، فألوان ملابسهم بنيّة صدئة، وكذلك الحرفيون وغيرهم، فلا يتعدى كل منهم حدوده الاجتماعية، فيتشبه بفئة أو طبقة اجتماعية "مختارة" لها الألوان المُشرقة المشبعة، كالأحمر القرمزي مثلاً. وهنا يتضح الدور المهم الذي أدته الألوان بهذه اللغة الاجتماعية، فضلاً عن الدلالات الرمزية للألوان كما ساد في منتصف القرن العشرين مثلاً من نظرة إلى أن الوردي باعتباره لوناً للفتيات والنساء، والأزرق للأنثى الناعمة، مستوحى ربما من رمزيته المرتبطة بصورة مريم العذراء، أو كارتباط الأبيض منذ فترة طويلة بالثراء والسلطة، أو رمزيته للطهر الديني والصوفية، أو النقاء الجنسي كدلالة لون فستان العروس. ولكن لا انغلاق للرمزية فالأبيض أيضاً لون الموت والحداد، وهناك توسيع للأثر حد الاعتقاد بوظيفته الأخلاقية والروحية.
(6)
ولكن هل تحدد الكلمات أيّ ألوان نراها؟ تتساءل المؤلفة مشيرةً إلى البريطاني وليام إيوارث غلاستون ( 1898 – 1809 ( باعتباره أول من لاحظ أن هناك خطأ ما بصدد الألوان في الأدب اليوناني القديم. فقد كان غلاستون معجباً كبيراً بهوميروس، لكنه واجه خصائص مربكة في أثناء اشتغاله على نماذجه، فانكب على دراسة الألوان في شعره، ليخلص إلى تواتر الألوان على النحو التالي: الأسود أكثر شيوعاً (170) مرة، والأبيض (100) مرة، والأحمر (13) مرة، والأصفر والأخضر والأرجواني (أقل من 10 ) مرات، والأزرق (مرة واحدة)!. فذهب غلاستون إلى أن ليس لذلك من تعليل ممكن سوى أن الإغريق كانوا مصابين بعمى الألوان. لكن في الواقع كان للناس، منذ آلاف السنين، القدرة على رؤية الألوان، لذلك لايمكن أن يكون عمى الألوان هو السبب، إذ كان في إمكانهم رؤية الألوان الجميلة، لكنهم ربما لم يشعروا بروعتها كما يبدو.
على أن هناك جهداً آخر للفيلسوف وعالم اللغة الألماني لازاروس جيجر ( 1870 – 1829 ( بذله في التحقيق في اللغات القديمة الأخرى، إذ قرأ القرآن، والكتاب المقدس بالعبرية، ودرس القصص الصينية القديمة والملاحم الأيسلندية وترانيم الفيدا من الهند، فلاحظ أنها كلها تحتوي على الإشارات الغريبة نفسها عن اللون، وأنها تركت العديد من الألوان بعيداً. ويعتقد جيجر أن تطور حساسية البشرتجاه الألوان المختلفة يمكن التحقق منه من خلال لغاتهم، فقد بدأت جميع اللغات من كلمات النور والظلام: الأبيض والأسود، ثم جاء الأحمر فالأصفر، فالأخضر ثم الأزرق. وقد أكد ما ذهب إليه جيجر دراسة موسعة في أواخر الستينيات أجراها كل من الأنثروبولوجي الأمريكي برنت برلين واللغوي الأمريكي بول كاي، ما يعني أن فئات اللون فطرية، وأنه لم تكن لدينا كلمة (اللون) التي تؤثر في تصورنا لهذا اللون. لكن تحقيقاً أوسع أُجريَ في الثمانينيات أظهر أن هناك استثناءات كثيرة، فبعض اللغات لم تتطور بالضرورة بهذه الطريقة، وأخرى جعلت للألوان تقسيماً آخرَ مختلفاً، مثل (هيمبا) لغة قبيلة في جنوب غرب أفريقيا التي تقسم الطيف إلى خمسة أجزاء، أو خصائص المعجم اللوني كما في الكورية والروسية مثلاً.
(7)
"الحياة السرية للألوان" بقدر ما هو كتاب مميز في تاريخ الألوان، فهو مادة ثرية بالمعلومات، والتساؤلات التي تثيرها المؤلفة وتحيط بأطرافها بسلاسة متنقلة بين ما هو تاريخي وما هو ثقافي، أو جمالي عبر العصور، عابرة حواجز تعدد اللغات والثقافات والاتجاهات الفنية، معنية بما يمكن تسميته بألوان الهامش بموازاة ألوان المتن في الحضارة الإنسانية ما كان متعلقاً فيها بالأشياء أو الإنسان أو الطبيعة وتحولات إيقاع الحياة، وما يحف بها من إشارات وشواهد تاريخية وسياقية أو خرافات ومعتقدات وعادات وموضات، فهو يجمع بين دقة البحث وسلاسة التعبير، ولعل مردّ ذلك إلى أن المؤلفة تجمع بين منهجية الباحث ومهنية الصحفي وحرفيته، فمشروع الكتاب كان وليد فكرة شغلتها في أثناء إنجازها أطروحة الماجستير في جامعة أكسفورد عن أزياء النساء التنكرية في القرن الثامن عشر، ثم اشتغالها في المجال الصحفي وتطور اهتمامها باللون وثيماته الألوان وحقوله المجاورة في عملها الثقافي كمحررة للفنون مجلة الإيكونوميست.
-----------------------------------------------------
الكتاب: الحياة السرية للألوان
المؤلف: كاسيا سانت كلير ، تر: أنيمي دي فريز
الناشر: مكتبة مولنهوف، الطبعة الهولندية، أمستردام 2017
عدد الصفحات: 322
*كاتب عربي مقيم في هولندا.
