ضد الزحف الفاشي

Picture1.png

لألكسندر ريد روس

فينان نبيل

كاتبة وباحثة مصرية
 

تمثل الفاشية وصفا تاريخياً لتجارب حركات قومية أو وطنية، ونظم أسستها تلك الحركات، تبلورت عبر تجارب سياسية خاضتها عدد من بلدان أوروبا في فترة ما بين الحربين العالميتين لتصل إلى شكل أيديولوجي واع بذاته، سعت الحركات الفاشية لتوحيد الأمة التي ينتمون لها عبر الدولة الشمولية، وتميّزت بحركات تهدف إلى إعادة تنظيم المجتمع وفقا لمبادئ متسقة مع الأيديولوجية الفاشية. تتميز الحركات الفاشية بملامح مشتركة تتضمن تبجيل وهيبة الدولة، والحب الشديد لقائد قوي، والتشديد على التعصب الوطني والعسكرة. ترى الفاشية في العنف السياسي والحرب والسطوة على أمم أخرى طرقاً للوصول لبعث ونهضة وطنية. ويقر الفاشيون برؤيتهم أن الأمم الأقوى لها الحق في مد نفوذها بإزاحة الأمم الأضعف.
 

قدم روس في كتابه "ضد زحف الفاشية" مخططا هائلا لبعض الشخصيات والمجموعات والأيديولجيات والتكتيكات، والحركات الاجتماعية، والميليشيات الفاشية الرئيسة، في السياقات السياسية عبر الديموقراطيات الغربية في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. تساءل روس حول أصول الارتفاع الحالي للفاشية في الولايات المتحدة وحول العالم، وما الرابط بينها وبين دونالد ترامب، وستيف بانون، وجيف سيسيونس، وكريس كوباش، وكين بلاكويل، وغيرهم في الإدارة الأمريكية الجديدة، ويرى أن الانتخابات التي أتت بترامب تتسم" بالفاشية" من حيث قوميتها البيضاء وانتمائها لليمين المتطرف. إن صعود اليمين الوطني المتطرف في الولايات المتحدة وأوروبا هو امتداد لتاريخ الفاشية وليس مصادفة، فقد نال الحزب النازي 1933 ما يقترب من نصف المقاعد، كما أيد الشعب "هتلر" عندما أعلن نظام الحزب الواحد، فعارضه أقل من عُشر الناخبين، وحصل موسوليني 1929 على 98,8 من أصوات الناخبين، إذا فالفاشية يمكن انتخابها، ويمكن أن تهاجمنا بالديموقراطية ذاتها، وأقرب مثال هو "ترامب"و"نتينياهو"، لا سيما أنّ الناخبين الأمريكيين لم يكتفوا بالتصويت لترامب فقط بل انتخبوا مجلسا للنواب مدججا باليمينين والعنصريين، وهنا تكمن خطورة الفاشية فقد اعتبرتها الجماهير في لحظة تاريخية معينة حلاً ناجعا لمواجهة الكساد والضعف الاقتصادي وهشاشة القيم والهجرة، ووسيلة للبحث عن ثروات وأسواق جديدة، فنجد أن التاريخ ينبئنا كيف حظرت الولايات المتحدة 1882 دخول الصينيين ثم الآسيويين جميعا، والآن يبررون حظر المكسيكيين، ودعوات كارل هنلي" أبرز داعمي ترامب لوضع المسلمين في مراكز الاحتجاز واخضاعهم لإجراءات دقيقة، كما لا يمكن تجاهل تصاعد الفكر المعادي لكل ماهو أجنبي وخاصة أصحاب البشرة المختلفة منذ أحداث سبتمبر، والاعتقالات الواسعة للشرق أوسطيين استنادا للأصل العرقي، كما يفسر في ضوء ذلك العدوانية الأمريكية المتصاعدة وهوس التسلح، لا شك أنّ اليمين المتطرف الأمريكي يتبنى الاستبعاد والتمييز العنصري والاضطهاد العرقي.
 

يرى روس أنّ المجتمع الأمريكي يشعر بالرضا عندما يتعلق الأمر بارتفاع الاتجاهات الفاشية، فعندما قتل "ديلان روف" تسعة من الرعايا السود في كنيسة "شارلستون "عالج الإعلام الأمر بسطحية، وارتفعت أعلام المنظمات التي ألهمت عمل "روف" الذي أعلن أمام الشرطة أنه "أراد بدء حرب عنصرية" وظهرت علاقة تلك الاتجاهات بالسياسيين على المستويات المحلية والفيدرالية، تكمن تحت سطح هذه الجماعات، والمجموعات الطليعية التي أسسها مفكرو الأيديولوجية الفاشية، شبكة من العلاقات المعقدة ومستويات أكثر قتامة من الفاشية والكراهية. عرّف "روس" الفاشية في كتابه على "أنها الاعتقاد في المجتمع الوطني كوحدة عضوية مؤسسة على نظرية العرق البيولوجي، أو الثقافي واللغوي". ويبدو هذا التعريف دقيقا من الناحية الظاهرية، في حين أنه أهمل الأساس المادي للفاشية.

يعرض الكتاب نهج "روبرت أوباكستون" لفهم صعود العمليات الفاشية من خلال عرض المراحل التي تمر بها الفاشية، وحددها نظريا في خطوات هي: بناء قاعدة للحركة من أجل خلق "نظام جديد"، وعملية تأصيل في النظام السياسي" والاستيلاء على السلطة، وممارسة السلطة، وفي المرحلة الأخيرة إما انخفاض أو تنازلات، أو تطرف من الجماعات الفاشية المتشددة الذين يدعون إلى ثورة ثانية، تشكل فيها المجموعات الفاشية تآزرا للتحالف بين اليسار واليمين، هذه التشكيلات المبكرة تميل إلى كراهية الأجانب والمحافظين التقليديين، والمسيحين الأصوليين. تحافظ الجماعات الفاشية "الزاحفة" بين الشعبويين اليمينين المتطرفين" على موقف ثوري وحركة جماهيرية، ولكنها تفتقر إلى التماسك لتنظيم الآخرين على مستوى ثوري حقا، وقد يأتي زعيم فاشي يوحد كل تلك الطوائف المختلفة وغير المنظمة، وترتفع القدرة القيادية للعناصر الفاشية داخل اليمين الراديكالي، وفي هذه المرحلة يكتسب الفاشيون شعبية، وهيبة على نحو متزايد مما يجعلهم يسعون لفتح مجال للتوسع داخل السلطة.

تتبع روس عدة خطوط لمعرفة بنية الفاشية وأيديولوجيتها منذ حزب موسوليني "الحزب الفاشي الوطني"، وحزب هتلر "العمال الاشتراكي الوطني" الذي ظهر في ألمانيا في الفترة التي انتشر فيها العديد من الفاشيين في العالم لنشر بذور الكراهية، وهو يرى أنّ الفاشية الموجودة في أوروبا، والولايات المتحدة منذ 1950 حتى يومنا هذا تتقاسم أصولا مشتركة مع الزحف الفاشي الحديث.

تعمق الفاشية من الإمبريالية فقد ارتبط غزو جيوش "هتلر" لبولندا ثم روسيا في مرحلة لاحقة، وغزو الأراضي السلافية برغبة في خلق مفهوم مرتبط بالأيديولوجية النازية يفترض "أن الحرب أمر لا مفر منه" وذلك فهم مشوش لنظرية المساحات الجغرافية الكبيرة، والعنصرية البيولوجية، كما ارتبطت الفاشية الإيطالية بالتوسع الاستعماري في أفريقيا، وأصرّ الفاشيون على أنّ غزو ليبيا من شأنه تمكين الطبقة العاملة بطرق لا يمكن أن تحلم بها الاشتراكية، الفاشية كأيديولوجية سياسية بدأت من خلال الدمج بين اليمين واليسار، ثم تحولت لديكتاتورية تقتل المقاومين والمعارضين، وتستخدم القمع من أجل تحقيق أهداف شخصية. يبرر الكابوس الفاشي إعادة بناء أنقاضه من خلال الزحف على هامش اليمين واليسار ويغذي كلا الجانبين بوعود راديكالية ثورية.

يوضح الكتاب كيف تتوغل الفاشية عن عمد في قلب الجسد السياسي، عن طريقين: الأول التسلل إلى الحركات الاجتماعية اليسارية، واستغلال الفضاء الأيديولوجي المشترك بينها وبين اليسار، فالأخير يعتبر المساواة سمة مميزة له، والفاشية أيضا لها جوانب اجتماعية مما عزا إلى اعتبارها من حركات اليسار، وهذا الخلط والارتباك بين المجموعات اليمينية واليسارية، هو تكتيك متعمد من قبل الفاشيين لنزع الشرعية عن اليسار، الفاشية مجموعة من المتطرفين تميل إلى الرجعية، إنّها قطعا ليست تيارا يساريا، فعندما يتعرّض الشعب لأزمة اقتصادية، وتحدث تناقضات داخل الطبقة الحاكمة والدولة تخلق عدم الاستقرار والاضطرابات، تعمل الفاشية كجندي المشاة للرأسمالية تتمثل مهمتها في تعطيل وتدمير الطبقة العاملة والجماهير المضطهدة لمنعهم من التنظيم ضد ظروفهم البائسة.

الطريق الثاني: تستفيد الفاشية في زحفها من اليمين أيضا، فالفاشيون يسعون إلى السيطرة على الخطاب العام، والتأثير عليه كوسيلة أساسية للوصول إلى السلطة وممارستها، ومحاولة السيطرة على الشارع ومختلف أجهزة الدولة. الفاشيون لا ينخرطون في صراع، بل يهددون الناس من أجل تأكيد هيمنتهم، ويأتي منازعو الفاشية ليقودوا نزاعا حاسما بين جماعات متنافسة على الأرض ونطاق النفوذ، ويفقد الفاشيون قدرتهم في السيطرة على الخطاب الشعبي نتيجة لحشد مناهضي الفاشية. أهم استراتيجية للفاشية ما قدمه الباحث ستيفن شينفيلد: الانقلاب التدريجي أو الزاحف عن طريق الاختراق المستمر للهياكل الاجتماعية والوطنية، وتراكم الإمكانات العسكرية والاقتصادية، وإيجاد خطوط مشتركة بين اليمين واليسار.

سلط "روس" الضوء على تيارات أقل شهرة داخل الحركة الفاشية، وكيف تتميز عن الأحزاب الشعبية اليمينية المتطرفة التي تكتسب مكانة في العالم الحديث، فهي موجودة في كل مكان في أشكال وأحجام مختلفة، هناك فوضويون، ووطنيون، وقوميون، ومستقلون، وانفصاليون، انعكست على اتجاهات عدة مثل "الفردية العالمية"،" والجنود السياسيين"، "القومية المتكاملة"، و"الروحانية الباطنية"، و"العدمية". أدى الفشل المبكر للأحزاب الاشتراكية في الوفاء بوعودها في هزيمة التقشف لنجاح الحركات التي تدمج اليسار باليمين، في محاولاتها للإطاحة بالهياكل الليبرالية الجديدة التي دمجت الاشتراكية نفسها فيها. وتخاطب الشعبوية رغبات الناس وإحباطاتهم، وتدعو إلى الوحدة ضد بعض الخصوم المخيفة" "المهاجرين والمسلمين"، وتعتمد في ذلك على وعود غامضة، وإثارة الذعر والقلق. تشويه الفاشية واليمين الراديكالي للحقيقة يشكل تهديدًا كبيرا للعالم، وليس الهجرة أو الأسلمة فحسب، على الرغم من أنّ الفاشية لها جذور في المثل السياسية الشمولية التي انبثقت من التنوير، وتعتمد بقوة على تقاليده، وتعتمد على النداءات الأساسية في ممارسة الحرية والمساواة، إلا أنّ الفاشية حقيقة تنتهي لعدم المساواة والوحشية ضد الأجانب والأعداء الداخليين، رغم ادعاء الفاشيين تبني قيم الطبقة العاملة والتأكيد على التضامن العرقي.

تشير القوة المتزايدة للأحزاب الشعبية اليمينية الراديكالية في أوروبا إلى انحراف الاشتراكيين والليبرالين والمحافظين إلى الفاشية، ومثال لهذه الأحزاب "الأَخوان في إيطاليا" و "الجبهة الفرنسية الوطنية"، و"حزب الحرية النمساوي"، والأوكراني "سفو بودا". وهناك قلق من أن تعود تلك الاتجاهات، عند تحقيقها سلطة فريدة إلى المواقف الفاشية أو على الأقل تقدم الدعم المادي المعزز للفاشية. العلاقة بين الحركة الفاشية واليمين الراديكالي الشعبوي، داعمة وديناميكية لكنّها أحيانا مقسمة ومعقدة، والفكر الفاشي ليس دائما شفافًا ويحيط نفسه بالخطابة المضللة المحيطة بدولة إسرائيل، والإسلام، والتعددية الثقافية، ويميل إلى إخفاء العنصرية. هذا الفضاء من الاستقلال النسبي بين الأحزاب الشعبية الراديكالية، والجناح اليميني للأحزاب الشعبية الأصغر حجما كرّس للجماعات الفاشية، التي تستطيع أيضًا جذب أفراد من اليسار بوعود الرعاية الاجتماعية، وجذب أفراد من الجمهور الذين يرغبون في التحول المعادي للمؤسسات حتى لو كانت تلك المجموعات الصغيرة تتداخل بشكل كبير مع المجموعات اليمنية الأكبر، والجذرية والتقليدية من خلال قنوات غير رسمية أو وسيطة.

يشير مصطلح الزحف الفاشي كما استخدمه الكاتب إلى الحدود الهشة بين الرجعية اليمينية والفاشية، والذي تكون الفاشية قادرة على اختراقه. كشف كتاب "ضد الزحف الفاشي" عن كيفية عمل الفاشية في الماضي وكيف تظهر اليوم، وانتهى إلى أنّ الفاشية هي "شكل شعبي من النزعة القومية القديمة، وأيديولوجية موغلة في القدم حتى في الأساطير العرقية". قدم الفاشية باعتبارها تحالفا عبر الطبقة بين الطبقة البرجوازية الصغيرة والطبقة الحاكمة بهدف تدمير طليعة البروليتاريا، ويأمل الفاشيون في إنتاج نوع جديد من الأساس المنطقي الذي يتصور مصيرا مشتركا يمكن أن يحل محل الحضارة الحديثة.

ربط الكتاب بين أقصى حركات اليسار واليساريين المتخفين الذين يظهرون كفوضويين أو اشتراكيين - ولكنهم ليسوا هكذا على الحقيقة- وبين الزحف الفاشي. تتبع روس أيضا أشكالا متشددة من التطرف اليميني عبر العقود المختلفة، وعبر المعمورة، لإظهار كيفية تسلل "الفاشية" إليه عبر برنامج واع وسري، وتكون مجموعات فاشية جديدة تسعى إلى اقتلاع وتقويض المؤسسات اليسارية الرئيسة من أجل الفوز في الانتخابات، واتخاذ السلطة السياسية، وخلق مجتمع عنصري واستبدادي جديد. يكشف روس شعبية اليمين المتطرف في الولايات المتحدة الأمريكية، وحركة الوطنيين وعلاقتها بالميليشيات والسيادة البيضاء، ويوضح كيفية التكامل بين المؤسسات العنصرية وتبادلها العديد من العلاقات مع الكتاب والمنظمين والسياسيين وقادة الحزب الجمهوري. إنّ عملية "زحف الفاشية" يمكن أن تتم في حزب أو جماعة سياسية، كما هو الحال مع الحزب النازي بعد مسيرة بينيتو موسوليني في روما، ويمكن أيضا أن ينظر إليها على أنّها حركة ثقافية واجتماعية وسياسية عامة.

مكافحة الفاشية تتطلب شجاعة ودعما للحقائق ومعرفة وتعليما حول السياسة، وتخفيف التحامل على الهجرة، والإسلام، واليهودية، لذلك هو يرى أن مناهضة الفاشية تكون بتشكيل منظمات على مستوى الطبقة العاملة قادرة على الدفاع عن نفسها ضد الفاشيين في الشوارع، والمحاكم، والقفز عليها.

---------------------------------------------------------------------------------------------

المؤلف: ألكسندر ريد روس -محاضر في جامعة ولاية بورتلاند، صحفي مستقل، ومحرر.

الكتاب: ضد الزحف الفاشي

المؤلف: ألكسندر ريد روس

الناشر: AK Press ,US, 2017

اللغة: الإنجليزية

 

Alexander Reid Ross - Against the Fascist Creep- AK Press ,US, 2017.

 

 

 

أخبار ذات صلة