«التاريخ المضاد للزمن الراهن» 

0.jpg

لغابرييل روكهيل

سعيد بوكرامي

هل نستخدم دائمًا الكلمات الصحيحة والتصنيف الصحيح لتحديد وفهم العالم الراهن؟ كيف يسهم الخيال السياسي المدعوم بوسائل الإعلام في تأريخ انتقائي، وبلغة أيديولوجية تكرس مفاهيم ملتبسة ومجزأة ومحصورة لتصبح تدريجيا حقائق ومسلمات مشكلة جوهر تاريخنا المعاصر؟ هل تسهم هذه اللغة العادية، والشعبوية في كبح جماح رغباتنا الفكرية في التحرر من التاريخ الرسمي؟ يمكن القول إن هذه الأسئلة الأساسية تمثل رهانا منهجيا جذابا وجريئا لكتاب "التاريخ المضاد للزمن الراهن" لمؤلفه غابرييل روكهيل، الذي يدعو القارئ لإعادة النظر في المفردات المستخدمة عادة في مجال التاريخ.. مُذكِّرا أن اللغة في عصرنا الراهن مرتبطة في أغلب الأحوال بالأيديولوجيات.

يعيد الكاتب غابرييل روكهيل النظر في ثلاثة مفاهيم رئيسية؛ هي: العولمة، والتكنولوجيا، والديمقراطية، وهذه الأخيرة بصورة أكثر تفصيلا.. المؤلف هو أستاذ الفلسفة في جامعة فيلانوفا، ومؤسس ورشة النظرية النقدية في جامعة السوربون. وقد سبق له أن نشر كتابا مهما ومؤثرا في مجال علم التاريخ "منطق التاريخ" في العام 2010. في هذا الكتاب الجديد، يحاول غابرييل روكهيل تفكيك شيفرة عناصر اللغة التأريخية، التي تؤرخ لبعض الظواهر المعاصرة. كما يهدف أيضا لصياغة الأدوات النظرية التي تسمح بمقاربة إشكالية الأخبار الراهنة. مؤكدا أنه ليس هناك حاضر شمولي في كل مكان، وإنما هناك حاضر صالح لكل مجتمع. يجب أن نكون حذرين من الكلمات التي تحاول اختزال حقبة بأكملها. ويجب الاعتراف بصرامة الكاتب وقلقه من عدم التحول إلى تأريخ نظامي يضع المعطيات التاريخية عن العولمة والتكنولوجيا والديمقراطية جميعها في سلة واحدة، لصياغة تاريخ الزمن الراهن بشمولية تسهم في ترسيخ أنظمة سياسية وأيديولوجية مسيطرة وفرضها كنمودج للتأريخ للزمن الحاضر.

أصبح من العادي القول إننا نعيش في عصر عالمي حيث الشبكة الاقتصادية والتكنولوجية تزداد ربطا للأركان الأربعة من العالم، وحيث الديمقراطية تغدو شرطا أساسيا لازما للحياة السياسية. ومع ذلك، فإن هذه الصورة عن عصر عالمي متقدم ومتحضر بعيدة كل البعد عن أن تكون بديهية أو حقيقية. لأن هذه الشبكة المتجذرة في حقل القوى الاجتماعية - السياسية والاقتصادية، وهي غالبا ما تكون وسيلة سريّة لمشاريع مريعة. إن مثل هذه الرؤية في الوقت الحالي، فضلا عن الخيال التاريخي والسياسي الذي ينتجها، تحتاج إلى المساءلة، لاسيما ما يتعلق بالمفاهيم الأساسية للعولمة والتكنولوجيا والديمقراطية. وهذا لا يعني تقديم وصف بديل لعصرنا انطلاقا من الظواهر الأساسية نفسها، ولكن محاولة لوضع تاريخ مضاد يهدف لإعادة تشكيل المحتمل التاريخي لهذه الظواهر المريبة. إن الهدف من هذا الكتاب هو محاولة فتح ثغرة في نسيج شبكة معقدة من أجل التعرف عليها وحلحلتها؛ بهدف بناء مستقبل حقيقي، بخلاف ما يفرض علينا من تاريخ معد بعناية ووصاية يتمكن دائما من حبسنا داخل شرنقة متصلبة من الأفكار الجاهزة.

يقدم كتاب غابرييل روكهيل مساهمة تنويرية ومحفزة جدا للتفكير في الزمن والتاريخ؛ انطلاقا من منهج أصيل. إن مفهوم التاريخ المضاد يثير التساؤلات حول فكرة وجود حاضر وحيد، الذي يتحدد بمفهوم واحد أو خصائص مشتركة. منذ البداية، يصر المؤلف على أن "التاريخ المضاد" لا يهدف للتعميم. إضافة لتأمله حول التاريخ والشؤون الراهنة، يدعونا الكتاب لإعادة النظر في المنهجية التاريخية لجعلها "ظاهرة متعددة الأبعاد"، أي بعيدة كل البعد عن مفهوم التاريخ الكرونولوجي والتسلسلي.

يبلور الكاتب منهجية لفهم الزمن والتاريخ، ليست مرتبة ترتيبا زمنيا متسلسلا، وليست محددة مكانيا واجتماعيا. وهو بذلك يعزز مفهوم "المرحلة" من خلال انتقاد مفهوم "العصر"، ويمكن أن تستند المنهجية إلى المعطيات الثقافية أو حتى الجغرافية. وحسب روكهيل، فإن التاريخ يستند لمراحل من "اللاتسلسل الزمني التاريخي" و"جغرافيا الزمن الراهن" و"طبقات من الممارسات الاجتماعية". ومن أجل تسليط الضوء على تعقيد التاريخ واستحالة تقليصه إلى مفهوم الزمن، يعتمد روكهيل على ثلاثة مفاهيم رئيسية تميز عصرنا الحديث، وتعرض الممارسات الاجتماعية والثقافية؛ وهي: العولمة، والتكنولوجيا والديمقراطية، التي يختارها الكاتب من بين أمور أخرى ممكنة. واستنادا للكاتب؛ فمن أجل "صناعة التاريخ" -أو على الأقل عرضه وتقديمه- يجب علينا الابتعاد عن التأريخ التقليدي الخطي، بدءا من المراحل المميزة للحظة التاريخية التي نرغب باستعادتها وترميمها. بعد ذلك، يجب وصف هذه المراحل بطريقة شمولية، أي تاريخيا واجتماعيا ومكانيا. هذه هي الطريقة التي يشرحها ويستخدمها الكاتب لعرض تاريخ الزمن الراهن.

يعتمد روكهيل على مفهوم الخيال السياسي، المعروف بما يخلقه من مفاهيم موجّهة للعالم. يختلف الخيال السياسي عن الأيديولوجيا، لأنه من صنع المجتمع الذي يستند إلى مجموعة من القيم والتأثيرات والمفاهيم، بينما الأيديولوجيا تبعد الكاذب والوهمي. يتجاوز الخيال السياسي هذه المعارضة بين الوهمي والواقع، في إطار جدلية تشارك في العالم الاجتماعي؛ وبالتالي تصوغ "صورة عالمية". هذا هو الخيال السياسي الذي يميل لتبسيط المفاهيم للتقليص من احتمالات المسار الواحد. يعطي الكاتب أمثلة عديدة مثل العولمة أو الليبرالية مبرزا توافق الجهاز المفاهيمي لهذه المفاهيم، حتى وإن أدت لتناقض في الأحكام ذات القيمة والتقدير. من هنا، يسلط روكهيل الضوء على تحيز الخيال، الذي بني من المفاهيم المجزأة للتاريخ -المبالغ في خطيته- منددا بنوع من المقاربات الضيقة التي لم تعد تسمح باستجواب المفاهيم، ولكن فقط بتقييمها. إن معالجة كل الأمثلة المستعملة تبرهن أن "العولمة والتكنولوجيا والديمقراطية" تبدأ بتاريخ خطي لهذا المفهوم.

وفي خطوة ثانية، يظهر المؤلف أن تبسيط المفهوم أخفى المفاهيم المحتملة الأخرى، والنماذج الأخرى، التي يمكن أن تثري التفكير والممارسات. ففي حالة العولمة مثلا، يظهر روكهيل أن المفهوم تم تأسيسه تحت تأثير خيال سياسي حديث، يرتبط بتصور معين عن العالم: فكرة أن إقامة السوق الحرة، ستسير جنبا إلى جنب مع الحرية الفردية والاجتماعية. كما يسلط في تحليله الضوء على تقارب بين الرأسمالية والماركسية، إذ يعتمد كلاهما على تصور اختزالي وغائيّ وحتمي لا محالة للتاريخ، ليس له بديل آخر. ويختتم الكاتب الفصل الأول، المكرس للعولمة، بنقد وهم العمل في المجتمع: وأن المفهوم سيكون كافيا لتمثيل هذا العصر أو ذاك العصر. يريد الكاتب بهذا "الفكر العرفي" أن يدحض هذه الممارسات، ويقدم بديلا عنها "لرسم خريطة طوبوغرافية معقدة" (ص:77). ومرة أخرى، ينتقد الكاتب التبسيط المسيء لصالح نظرة شمولية تأخذ بعين الاعتبار أغوار الواقع وظواهره المتغيرة.

ويمكن الاطلاع على مقاربات مماثلة في الفصل المتعلق بالتكنولوجيا. وكما هي الحال بالنسبة للفصل السابق، يشير مصطلح التكنولوجيا إلى مجموعة متنوعة من الممارسات والاستخدامات التي تكون متباعدة جدا في بعض الأحيان. فعبارة "التكنولوجيا" هي في حد ذاتها عبارة "إشكالية" تميل إلى تبسيط واقع أكثر تناقضا. لا يمكن التفكير في التكنولوجيا بشكل مستقل؛ لأنها مرتبطة بالممارسات الاجتماعية التي تشكلها وتداولها. وبهذا المعنى، فهي ليست مستقلة ولا تابعة، ولا إيجابية ولا سلبية، لأنها لا توجد في حد ذاتها. ولكن خيالا سياسيا انصهر حول التكنولوجيا القائمة على التمثيلات الثقافية (الكتب والأفلام، وما إلى ذلك) والإنجازات الملموسة التي أدت لنشوء خطاب تقييمي ثنائي حولها. يتمثل في آراء المعارضين والمؤيدين الذين ينتجون خطابا تقييميا يحدد الإيجابيات أو السلبيات. واستجابة لهذا النوع من التبسيط، يناقش روكهيل نظريته. ولهذا يقترح بدلا من ذلك أن نتحدث عن "البيئة التكنولوجية"، التعبير الذي يأخذ بعين الاعتبار هذا التنوع في التداول والتمثل للتكنولوجيا في إطار جغرافي، وتسلسل زمني وطبقية اجتماعية.

وأخيرا، يتناول الفصل الأخير مفهوم الديمقراطية.. ويتعلق الأمر هنا باستجواب أسطورة الديمقراطية، التي يظهر أنها الاسم الوحيد الذي يجيز ويبارك جميع أنواع الممارسات، حتى وإن كانت ممارسات مشكوك في مصداقيتها. ويحدد روكهيل بخط عريض تاريخ الديمقراطية والأحكام المرتبطة بها، التي يسودها الكثير من الانحرافات والمغالطات. وبذلك يسلط الضوء على حقيقة مفهوم الديمقراطية، الذي أصبح تاريخيا مفرغا من دلالته، فحل محله في الواقع مفهوم الجمهورية؛ مما أدى لبعض الالتباس بين المصطلحين. يتساءل الكاتب عن الأطر النظرية والمنهجية لتطور التاريخ وتاريخ الأخلاق المشكل لمفهوم الديمقراطية؛ بهدف تقديم تاريخ مضاد يفتح إمكانية التفكير النقدي للديمقراطية ككل، وليس فقط بعض مظاهرها؛ مثل: الرأسمالية أو الليبرالية. لقد أصبحت الديمقراطية منتجا تسويقيا ودعائيا، ومن نماذجه البارزة يقدم روكهيل النموذج الأمريكي، الذي تطور ببطء، مبرزا الفجوة الهائلة بين فكرة الديمقراطية وبعض تطبيقاتها المتناقضة.

إن التشكيك في مفهوم الديمقراطية يعني التساؤل حول نوع المجتمع السياسي والاقتصادي، الذي ينبغي بناؤه وتعزيزه. ينتقد روكهيل تشكيل "مفاهيم القيم" (ص:184) و"التي تميل إلى تجنب أنواع أخرى من القضايا، مثل الحاجة لإيجاد نموذج أكثر ملاءمة للمجتمع السياسي. وبالتالي، فإن مفهوم "المساواة" هو مفهوم يبين أن المجتمع يخضع للقانون نفسه، وهو ما يعني المساواة في الحقوق المدنية وتقاسم الفرص على نحو فعال بين جميع المواطنين، على عكس الأنظمة السياسية الشمولية الأخرى.

وفي النهاية، إن كتاب "التاريخ المضاد للزمن الراهن"، لا يهدف لوصف عصر، ولكن لتسليط الضوء على عدم تفرد هذا الزمن الراهن وتنوعه الغزير. مع الأخذ بعين الاعتبار الأبعاد الثلاثة للتاريخ "الزمان والمكان والمجتمع"، فإنه يسلط الضوء على تعددية الزمن الراهن، ويحبسنا في نسق خطي لا يخدم الفكر المشاكس، الذي يعارض الخيال السياسي السائد والمهيمن. هذا المفهوم للتاريخ يجب أن يكون أقرب إلى الوقائع الراهنة المتداولة إعلاميا، التي ذكرت في الكتاب عدة مرات. ويعتبرها الكاتب المكون الأساسي لتاريخ الزمن الراهن، والمشكلة من مختلف الأخبار (التي تعتبر بمثابة ترابط بين الزمان والمكان والفئة الاجتماعية).

إن الظواهر التي تم تحليلها في الكتاب ترسم صورة العالم الراهن، الذي سيكون فيه "العالم أكثر فأكثر تكتلا بالشبكة التقنية-الاقتصادية الجديدة، وبإجماع ديمقراطي غير مسبوق" (ص:210)، هذه الصورة ربما تكون صحيحة جزئيا، ولكنها تستجيب لخيال سياسي قويّ، بيد أنه ضيق تماما. في الواقع، حتى المعارضين للتكنولوجيا والعولمة والديمقراطية، يُسهمون في إحياء المفاهيم بشكل خاطئ من خلال تناول البعد المحوري فقط. وهذا يجعل الإنسان أسيرًا للتاريخ، أو الخيال؛ لأن ذلك يضر بطريقة أو أخرى بالتفكير المضاد والاقتراح، والإدراك.

وفي الختام، يذكر غابرييل روكهيل بالعديد من أفكاره القوية. ليس هناك مفهوم واحد يمكن أن يمثل عالمنا الراهن؛ لأن الخيال السياسي يهيمن ويشكل تاريخنا الراهن، ويجب أن يؤخذ في الحسبان المكان والزمان والمجتمع؛ لأن "الزمن الراهن" لفضاء اجتماعي محدد ليس بالضرورة مشابها لفضاء اجتماعي آخر. وبالنسبة له، التاريخ المضاد يهدف لـ"صياغة معاني تاريخية جديدة"؛ ولذلك يعد الكتاب محفزا لأنماط أخرى من التفكير في الزمن الراهن، لهذا يمكن القول إن الكاتب نجح في تقديم مقاربة نقدية، لا تنحصر في مساءلات عقيمة، ومع ذلك لا يمكن أن نشاطره الإجابات جميعها، كما لا يمكن أن ننكر ما أثاره من الأسئلة المثيرة للاهتمام، والمحفزة على إعادة قراءة التاريخ والزمن الراهن. ومن الواضح أن روكهيل يتبنى منهجية السباحة ضد التيار ليتم التأريخ للواقع الزمن الراهن بشكل صحيح. ولأجل ذلك، لا بد من تحيين المعطيات التاريخية السابقة، وابتكار مفاهيم جديدة تسمح بإعادة كتابة التاريخ المعاصر بطريقة مختلفة.

--------------------------

- الكتاب: "التاريخ المضاد للزمن الراهن".

- المؤلف: غابرييل روكهيل.

- الناشر: منشورات المركز الوطني للبحث العلمي، باريس، 2017، بالفرنسية.

عدد الصفحات: 208 صفحات.

أخبار ذات صلة