ميشال أونفراي
عزالدين عناية*
يستهلّ الكاتب ميشال أونفراي مؤلّفه الضخم (704 ص) المتعلق بمآلات الحضارة اليهودية المسيحية بقوله: "جميعنا يعرف أن الأهرامات المصرية، والمعابد الإغريقية، والمنتدى الروماني، ما هي إلا سوى بقايا أطلال، تخبر أنَّ الحضارات مآلها الزوال والاندثار. وحضارتنا اليهودية المسيحية، التي عمّرت على مدى ألفَيْ سنة، لن تفلت من هذا القانون القاهر". لكن قَبل أن نبدأ في عرض مؤلّف أونفراي ومناقشته، نلفت النظر إلى انتشار نوع من الكتابة، في الأوساط الأوروبية، في العقدين الأخيرين تحديدا، ديدنها التحذير من مخاطر الانهيار أو المسخ والتبدل الذي تتعرض له أوروبا، لِتتطور تلك النُّذر إلى نعي فاجع للقارة العجوز، كما نجده في كتاب أونفراي "الانهيار.. صعود الحضارة اليهودية المسيحية وأفولها". وإن يصرّح أونفراي أن كتابه لا يطبعه طابع التفاؤل أو التشاؤم، وإنما هو كتاب تراجيدي، لأن الأمر في هذه اللحظة لا يتعلّق بالنحيب أو الابتهاج بل بفهم الأشياء على ما هي عليه. فالانهيار كما يردّد المؤلّف ليس مفهوما أخلاقيا، بل استنتاجا مخبريا. هذا ونشير أن الكتاب المذكور قد بِيع منه، في فرنسا وحدها، أكثر ربع مليون نسخة خلال العام الحالي.
في الأثناء لا بد أن نذكر أن موجة الكتابة المشحونة بالتحذير والأسى على أوروبا، قد باتت مألوفة بين لفيف من الكتّاب في الغرب. يربط بينهم خيط ناسج ألا وهو الرؤية "الأخروية" (الأبوكاليبسية) لمصائر القارة، حتى وإن لم تكن منطلقات هؤلاء الكتّاب إيمانية وصيغت من قِبل من يجهر بقناعاته اللادينية في تصريحاته وكتاباته. فالواقع أن ذلك الصنف من الكتابة "الأخروية" المشحونة ضد الآخر، والموسومة بطابع عدائي صريح أو مضمر ضد المهاجرين والمسلمين منهم تحديدا، قد راجت في بلدان أوروبية عدة في السنوات الأخيرة، وبشكل ملحوظ في فرنسا، مع بيار مانون وآلان فينكيلكرو وفرانسيس هجاج وباسكال بروكنر. ما جرّ إلى تصنيف تلك الموجة تحت يافطة "النازيون الجدد" لقُرب مقولات كتّابها من طروحات الأحزاب اليمينية المتطرّفة. ولعلّ أبرز كتّاب تلك الموجة الفرنسي إريك زمّور المحرّر في "صحيفة لوفيغارو"، وهو يهودي من أصول جزائرية، وصاحب كتاب "انتحار فرنسا" الذي لقي رواجا واسعا منذ ثلاث سنوات. وبالمثل يجد هذا التيار امتدادا في إيطاليا مع مقولات اليمينية المتطرفة أوريانه فالاتشي التي طالما صرّحت قَبل مماتها بأنها "كاثوليكية ملحدة"، وكذلك مع جملة ممن يطلقون على أنفسهم خبراء في العالم العربي، مع أنهم لا يفقهون العربية، مثل رنزو غولو وفرانكو كارديني وليللي غروبر وغيرهم كثير.
يدور القسم الأول من كِتاب "الانهيار.. صعود الحضارة اليهودية المسيحية وأفولها" الذي نحن بصدد عرضه، حول تساؤلات رئيسة يثيرها الكاتب، تتناول أزمة الديمقراطية الغربية، وتداعيات الهجرة، وتجذّر الإسلام، وفتور الطروحات الثقافية الغربية، والتراجع الديمغرافي المستشري في دول أوروبا. وبناءً على تلك القضايا يحاول الكاتب صياغة رؤية فلسفية تاريخية لمصائر الحضارة الغربية، يعارض من خلالها ما تبنّاه كِلا المفكريْن الروسي الفرنسي أليكسندر كوجيف والياباني الأمريكي فرانسيس فوكوياما حول نهاية التاريخ. فالتاريخ من منظور ميشال أونفراي هو حركة دؤوبة وإن تخللتها انتكاسات أو تحدّرات. فكل حركة في التاريخ هي تهشيم لسابقاتها وبناء عليها. وهو ما ينطبق حسب الكاتب على المسيحية البدئية في عهودها الأولى. فما كانت المسيحية ناشئة عن أسطورة المسيحية الإنجيلية المسالمة، بل عن اللاهوت السياسي المسلَّح لبولس الطرسوسي، كما يصف أونفراي، حين أعملَ معولَ الهدم في الوثنية وإلى غاية أن استتبّت الأمور عبْر ما تلخّص في نظريتيْ "الحرب العادلة"، التي جعلت من الفتك والغزو عَمَل إحسان، و"قتل الشر"، التي برّرت قتل الأعداء بغرض اجتثاث الشر الكامن بداخلهم. فالحضارات وفق تفسيره تتولّد من داخل القوة التي يعضدها الإيمان، مقرّا ألاّ وجود لحضارة من صنع دعاة السلام أو أنصار اللاعنف أو القديسين (ص: 141). لكن في ضوء ما يطرحه أونفراي، لا يمكن تصنيف نصه ضمن الكتابة الفلسفية أو التاريخية الصرفة، بل ضمن الكتابة الإيديولوجية المدجّجة بالسندات التاريخية والفلسفية والدينية.
في القسم الثاني من مؤلف أونفراي تأتي مضامين الكتاب إنعاشا للذاكرة المسيحية ومراجعة في تشكّل الهوية الغربية، لتنحصر تلك الهوية مع الكاتب في الرافِدين اليهودي والمسيحي، وكأن هذين العنصرين ليسا وافدين من بلاد المشرق وتحديدا من الفضاء الحضاري العربي. ومع أن أونفراي يشكّك في وجود المسيح التاريخي (ع)، فهو يقرّ بأنّ: "كافة حضارة الغرب تبدو وكأنها قائمة على محاولة إعطاء تجسيد لذلك الكائن الذي لم يحظ بحضور سوى على سبيل الوجود المعنوي. لم يتواجد يسوع الناصري تاريخيا، وإن غدا مجسدا بذاته على مدى ألفيْ عام من تاريخ الغرب. حيث تبقى طفولة المسيح مجهولة سوى مع ما يتردد من صدى له في "إنجيل الطفولة" الأبوكريفي (المنحول). لكن شاول الطرسوسي (بولس لاحقا)، الشخصية المحورية في الديانة المسيحية التي يُنسب إليها البناء العقدي الثالوثي الذي تقوم عليه المسيحية، لا نعرف في الحقيقة اسمه الكامل، كما نجهل تاريخ مولده وتحدّر نسبه. هو يرمز، وفق أونفراي، إلى تحول عميق من الفكر اليهودي إلى الفكر اليهودي المسيحي، وقد تجلى بشكل رمزي في إقرار تحول أتباع المسيح من ختان الأبدان إلى ختان الأرواح. وهو ما نجد صدى له في رسالتيْ بولس إلى مؤمني فيلبّي وغلاطية "فإننا نحن أهل الختان الحقّ، لأننا إنما نعبد بروح الله ونفتخر في المسيح يسوع، ولا نعتمد على أمور الجسد" (الرسالة إلى مؤمني فيلبّي3: 3)، و"ليس الختان بشيء، ولا عدم الختان بشيء، وإنما المهم أن يصير الإنسان خليقة جديدة" (الرسالة إلى مؤمني غلاطية6: 15).
فمع شاول (العبراني) الذي غدا بولس (الروماني) توقّف المسيح عن أداء أدواره المعنوية ليرتدي بزّة المحارب، كما خرج التلاميذ من المغاور ليلِجوا القصور. نذكّر أن المسيح (ع) وشاول كلاهما مختون، وكلاهما يقرّ أن جوهر اليهودية لا يكمن في مراعاة شكلانية للطقوس والأعراف، بل في الامتثال لجوهر الناموس. إذ يبشّر يسوع بأنه الحقيقة النازلة، في حين يذهب اليهود إلى أن تلك الحقيقة هي بصدد المجيء: طرف يقول إن النبي المعلَن هو من جاء أخيرا، في حين يردد الطرف الآخر إن هذا النبي (المسيا) يبقى منتظَرا مجيئه. ليخلص أونفراي إلى حصول التهام روما الذئبة (التي تأسست مع ريموس ورومولوس سنة 753 ق.م) من قِبل الحَمْل المسيح، أي منذ إعلان مرسوم ميلانو في الثالث عشر من يونيو 313 ميلادية الصادر عن قسطنطين والذي أقرّ حياد روما بشأن أمور العبادة، وليُعلَن بالتالي تأسيس الحضارة اليهودية المسيحية.
في ضوء تلك القراءة التاريخية لمسار الحضارة الغربية ثمة رؤية دموية لدى أونفراي لدين الإسلام، لم تتحرر من براديغمات القرون الوسطى الكَنَسية, وهو ما يتجلى في العديد من المواضع من مؤلّفه الضخم (صفحات: 174-187-296-580). بما يجعل أونفراي أحد المنكبين على تحنيط العداوة وتأبيدها بين عالم الشرق وعالم الغرب. وإن كان من حين إلى آخر، يطفو اعتراف في ثنايا مؤلفه بفرادة النبي محمد (ص) لما جمعه في شخصه من عناصر فائقة استوعبت التاريخ المسيحي: تجلّت في مسارات كل من المسيح عيسى (ع) وبولس الطرسوسي وقسطنطين القيصر، أو بعبارة أخرى فقد جَمَع محمد (ص) إعجاز النبي وتحفّز المبشّر ونباهة السياسي.
يرى أونفراي أن أوروبا التي شيّدت حضارة العالم الحديث قد ماتت، ودليل ذلك محاولات السّاسة اليوم إعادة إحياء ذلك الواقع دون توفيق. إذ لم يعد المنظورُ اليهوديُّ المسيحيُّ الطرحَ المقبول والناجح في البلدان التي ساد فيها على مدى قرون. ونلحظ في أوروبا، التي تميزت بطابعها الليبرالي، حضورا مكثفا للأفكار والقوانين التي تبرّر التملّص من "الإيديولوجيا المسيحية"، كما يسمّيها أونفراي. يتجلى ذلك خصوصا في تشريعات الشأن الأسري المغالية، حيث المسعى للتمييز بين العملية الجنسية وتقنيات الإخصاب بالمساعدة، والسماح اللامشروط لموانع الحمل، وإطلاق العنان للإجهاض، وتيسير الطلاق إلى حد الابتذال، والقبول بتبنّي الأطفال من قِبل والدين أو والدتين من جنس واحد، وإجراء عمليات التحوير على الجسد إلى درجة تجارية. وهو ما يشي بتفجّر مفهوم الأسرة الكلاسيكي وسيطرة حالة الترحل على الأذهان. لكن الأسرة ليست الكيان الوحيد المهدَّد بالتفجر، بل يرافقها في ذلك وضع الجماعة والدولة والأمة، التي أصيب جميعها بنوع من الصقيع، لتتحول القارة، العتيدة والحصينة، إلى قارة للبيع قِيَميّا وفعليّا كما يخلص أونفراي. وهي كلها مؤشرات على استنفاذ الطاقة، فأوروبا قوة غاربة ونجم آفل، قد أدّت دورها (ص: 317). وفي تحليله لأدواء الغرب المستحكمة يقول: تتجلى أعراضُ ذلك في "العدمية"، وفي سيطرة العواطف الكئيبة، وفي انتصار السلبية. إنها أزمنة الانحطاط والتفكك العقلي. ذلك أن ديمغرافية أوروبا المتراجعة بشكل فاجع حافز للتمعّن في ما يحصل، فقد لا يأبه المرء بتلك النّذُر ولكن الاصطدام بالوقائع مدعاة لليقظة. يقول أونفراي هناك رافضون لذلك الواقع في الغرب، وفي أوروبا تحديدا، ولا يودّون سماع خطاب حوله، ليس نكرانا له بل لهوله وبشاعته ولما يخلّفه من غثيان. لكن أوروبا الغاربة لا يعني أنها تندثر وتتلاشى، بل تبدّل ثقافتها وهويتها وروحها، ليتغير سياقها الوجودي. وأغلب هؤلاء الأوروبيين الجدد هم من المسلمين، يأتون فرارا من سياسات الغرب المدمرة والفوضوية في ديارهم.
في القسم الثالث من الكتاب الذي يحشد فيه الكاتب الدعامات لتأييد أطروحته، يتطرق أونفراي إلى قضايا على صلة بالتوترات السياسية التي يعيشها العالم الراهن. نشير أن ضمن تلك الرؤية التهويلية لمصير أوروبا قد سبق لميشال هولباك، أحد كتّاب موجة النازيين الجدد، أن نشر مؤلَّفا حظي بانتشار واسع بعنوان "استسلام"، صاغه في قالب روائي، وتخيل فيه فرنسا تقع في قبضة الإسلام السياسي. يعاود هذا الهاجس الظهور بقوة لدى ميشال أونفراي. ففي مؤلفه "الانهيار.. صعود الحضارة اليهودية المسيحية وأفولها" يعتبر أن الحضارة الغربية تسير وفق نسق تنازلي لا رجعة فيه. وقد تولّد ذلك عن إزاحة الإيمان اليهودي المسيحي واستبداله بخليط من الطروحات الاستهلاكية مثل الديمقراطية الواهنة ومراعاة الحريات الفردية، وهو ما ترافق مع خريف ديمغرافي، بما قاد إلى خروج مؤكد من التاريخ، ليُفسح الطريق للإسلام المتحفز ديمغرافيا والمستعصي على الذوبان. في هذه النقطة يبدو أونفراي يعانق أفكار صامويل هاتنغتون حول صراع الحضارات، فيلخّص الأمر بـ"تنكر الغرب لذاته"، وهو نوع من الكره لإرثه الحضاري وفق تفسيره. وضمن هذه الدرامية الفاجعة انتهى الغرب، لكنه لن يهنأ بالأمان.
لكن ينبغي أن نشير إلى أن الكاتب أونفراي فوضوي أحيانا في صياغة نصه، فبرغم التصريح بإلحاده، نجده يتشبث بالتراث اليهودي المسيحي كسدّ يحول دون الزحف الخارجي، والمقصود به الخطر الإسلامي. وعتبة الانقلاب الأخروي التي يتوقف عندها أونفراي، لا تنفتح على أمل للغرب، بل على ورثة جدد، إنهم المهاجرون والمسلمون تحديدا. يورد في كتابه: حضارتنا التي نشأت بموجب تحالف المسيحية مع سلطة القياصرة في روما هي بصدد خسران المعركة مع الإسلام، الذي ينعته بأنه "دين فحْل محارب، غاز وعنيد، بجندٍ على أهبة للموت في سبيله" (ص: 459). ويشبه أونفراي أفول الغرب الحالي بانهيار روما السالف كونه يأتي "صامتا بدون ضجيج". خالصا إلى أن "التاريخ يعلّمنا أن الانتصار لا يكون بالحقيقة الأكثر صدقا أو بالعدالة الأكثر إنصافا، بل بالقوة الأكثر بأسا"، فالقوة المنتصرة تطلق على نفسها سمة "الخيّرة" وبالمقابل تطلق على خصيمتها المهزومة سمة "الشريرة".
يلحّ أونفراي في هذا القسم على أن صراع الأديان هو إعلان لنهاية الإنسان الغربي، في ظرف ما عاد فيه المكوَّن الروحي قويا في ذاته، وما عاد محفِّزا للنشاط لديه. وهو بالحقيقة إعلان موت هادئ للغرب يقابله تحفّز الأديان الشرقية الزاحفة على الغرب ولعلّ الإسلام أبرزها. لكن هناك تقاليد أخرى شرقية تطلّ على الغرب وتريد أن تنال نصيبها من إرثه، مثل البوذية التي تشهد تطورا ملحوظا لنواديها وتجمعاتها، ناهيك عن تقليعات الرياضات الروحية سواء في شكل نوادي اليوغا أو جماعات التأمل، وهي كلها مظاهر لوراثة الغرب روحيا.
لكن ينبغي أن نعي أن أونفراي يكرر ما يتردد في الصحافة أكثر مما يستلهم استنتاجاته من معين الواقع. إذ يبدو في ما يخلص إليه، كمن يخضع إلى عصاب آسر، مثل قوله: "الحضارة اليهودية المسيحية، أي الغرب، واجهت الإسلام الغازي منذ القدم ولا تزال"، في غفلة تامة عن عهود التعايش والتحاور والتمازج التي شهدتها الحضارتان وتشهدها إلى غاية اليوم.
-------------------------------------------------------------------------
نبذة عن الكاتب: ميشال أونفراي فيلسوف معاصر مشاكس. صدرت له الكثير من الأعمال، منها "تأملات في الإسلام" (2016)، "فرويد.. أفول نجم" (2011)، "رسالة غير لاهوتية" (2005)، وقد حظيت مؤلفاته بترجمات إلى عدة لغات أوروبية.
الكتاب: الانهيار.. صعود الحضارة اليهودية المسيحية وأفولها.
تأليف: ميشال أونفراي.
الناشر: منشورات بونته ألّي غراسييه (ميلانو) 'باللغة الإيطالية'.
سنة النشر: 2017.
عدد الصفحات: 704 ص.
* أكاديمي تونسي مقيم بإيطاليا
