«الدين والإرهاب»

علي الرواحي

يتناول هذا العمل عبر ستة عشر بحثاً -وعن طريق الكثير من الباحثين المختصين من جنسيات مختلفة، ينتمون لمراكز بحثية عالمية متعددة- قضية مهمة ومُلحَّة؛ فهي تعتبر في الكثير من الأحيان قضية الساعة؛ أي تلك التي تفرض نفسها على الجميع بين فترة وأخرى، في معظم بقاع الأرض؛ ذلك أن علاقة الإرهاب بالدين، بشكلٍ عام، أصبحت تتصدر نشرات الأخبار، وعناوين الصحف، والأحاديث اليومية، والنقاشات الدائرة في وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، لتأتي أوراق هذا العمل بتنوعها العريض من حيث مواضيع البحث، وأسماء المشاركين؛ لتطرح الكثير من الأسئلة التي تعتبر في حاجة ماسة للحديث عنها، وبشكلٍ خاص من الجانب الأكاديمي المزود بمنهجيات العلوم الاجتماعية، وبمنهجيات علم الأديان المقارن؛ حيث إنه وعن طريق هذه المنهجيات وغيرها من الممكن فهم: لماذا يحدث العنف ويتم ربطه مباشرة بالأديان، وربما بشكلٍ خاص بالدين الإسلامي، رغم أن العنف في الكثير من الأحيان له أسباب أخرى غير دينية؛ قد يكون منها ما هو نفسي، أو اقتصادي، أو هوياتي...أو غير ذلك من الأسباب. كما أن العنف في الكثير من الأحيان لا يكون ضد الآخر، ففي الكثير منه نجد أنه يتوجه ضد الذات كما هو في الانتحار لدى عالم الاجتماع الفرنسي أميل دروكهايم، والذي تتم معالجته في هذا العمل بطريقة مغايرة إلى حد كبير؛ ذلك أن الإرهاب يتم النظر إليه هنا بوصفه أحد طقوس التضحية المنتشرة في العالم، والتي تأخذ منحى مغايرا للصفة الدينية.

هل الدين سبب الإرهاب؟

في البحث الأول (ص:11)، يعنون مارك يورغن سماير بحثه بتساؤل: "هل الدين سبب للإرهاب؟"، وللإجابة عن هذا السؤال يطرح ثلاث أطروحات متضادة؛ الأولى تقول بالإيجاب، والثانية بالسلب، والثالثة ترى أنه ينبغي سبر العلاقة بينهما والغوص فيهما بالكثير من التعمق. ذلك أنه عندما نستيقظ على أي هجمة إرهابية فإن الأسئلة الأولى هي: من فعل ذلك؟ ولماذا قاموا بهذا الفعل؟ وعندما يدخل الدين في هذا المشهد، فإن الأسئلة تصبح مضاعفة، ومعقدة، وفي الكثير من الأحيان لا تأتي الإجابة من دين واحد فقط، بل من الممكن أن تأتي من الكثير من الأديان أو ربما الكثير من المصادر والأسباب المختلفة؛ حيث يصبح السؤال الأكبر من ذلك: هل الدين سبب أم ضحية للعنف؟

وفي الأطروحة الأولى التي تقول بالإيجاب وإن الدين سبب للإرهاب، يناقش الكاتب كتاب "الكلمات القاتلة: أصول العنف الديني" للكاتب هيكتور أفالوس، والذي صدر عام 2005م، حيث يفترض أفالوس في عمله هذا أن الإرهاب يجد أسبابه الرئيسية في الدين، فالدين -يقول أفالوس- يخلق لدى المؤمنين به عدد كبير من المشاعر والصور ذات المصادر المقدسة، وهذه يتقاسمها مع الأنظمة الاجتماعية والسياسية على حد سواء، غير أن الفارق هنا أن الدين يتصل بالله، والشكر، والعبودية، كما أن هذه الأشياء لا تُمنح بالتساوي بين الأشخاص، وهذه الصور والمقدسات تتقاسمها جميع الأديان وبشكل خاص الأديان التوحيدية أو الإبراهيمية. غير أن هذه الأطروحة -يقول يورغن سماير- جدلية إلى حد كبير، وبشكل خاص في الأوساط الأكاديمية، حيث يرى الكثير منهم أن معظم الصراعات الحالية نادرا ما تحدث بسبب الدين، بل بسبب القيادات السياسية، وأنظمة الهيمنة الاقتصادية الاجتماعية، رغم أنها تصب كلها في خانة الدين، ويتم إلصاقها به.

وفي المقابل، فإن الأطروحة الثانية، والتي تقول بأن سبب الإرهاب ليس بالضرورة دينيا، يناقش الكاتب يورغن سماير، كتابا آخر صدر في العام 2005م أيضا، بعنوان "الموت حتى النصر: الإستراتيجية المنطقية للانتحار الإرهابي" للكاتب روبرت.أ.بابز؛ حيث يسعى هذا العمل لإثبات فرضية أن الدين ليس المحُفّز الأساسي للإرهاب، وذلك من خلال نمور التاميل في سيرلانكا في العام 2003م كنموذج لهذا الطرف من العنف. يعتمد بابز في تحليله هذا على الكثير من الإحصائيات التي تذهب في هذا الاتجاه، فالعنف -في هذا السياق- لا يأتي من مجموعات "فقيرة، أو متدنية التعليم، أو من مجموعات متعصبة أو غير ناضجة، أو خاسرة اجتماعياً" (ص:15)، كما يتم تصويرهم بشكل مستمر في وسائل الإعلام المختلفة. إن هذه الهجمات الانتحارية لا تأتي كدفاع عن الثقافة المجتمعية ضد التحالفات والقوى المختلفة التي تهدف لتقويض هذه الثقافة، بل تأتي من جماعات من الممكن وصفها بأنها تنتمي لحركة علمانية وقومية، وليست بالضرورة ذات طابع ديني. وإضافة لذلك، نجد هناك الكثير من العوامل المؤدية للصراع خارج النطاق الديني؛ ومنها: العوامل الاقتصادية والاجتماعية؛ الأمر الذي أدى لتصاعد تلك المقولة التي تقول باستخدام الدين لأغراض سياسية (ص:16) وبشكل خاص في الشرق الأوسط؛ مما أدى لتزايد استخدام مصطلح الإسلامفوبيا، أو في الجهة الأخرى انتشار استخدام مصطلح الأصولية وربطها بالأديان بشكل عام.

وفي الإجابة الثالثة، يُشبّه المؤلف هذا الحل بالاختبارات متعددة الاختيارات، بين الإجابة الأولى، أو الثانية، أو كل ما سبق، أو لا شيء مما سبق؛ ذلك أن الإجابة ليست سهلة، أو محسومة، فنحن نعرف أن المخيال الديني -كما يقول المؤلف- يتعامل مع طبقات مختلفة من المزاج الإنساني العام، أو الوجود الإنساني بما يتضمنه ذلك من سلام، وفساد، وطمأنينة، وعنف...وغيرها. ورغم ذلك، فإن اللغة الدينية والأفكار تلعب دورا محوريا في العنف، ولكنها ليست بالضرورة دورا أوليا؛ فالعوامل التي تقود للعنف بشكل أساسي هي ذات طابع اقتصادي، واجتماعي. قام المؤلف يورغن سماير للبرهنة على هذه الأطروحة الأخيرة (ص:18) بالكثير من الدراسات منذ العام 1980م، والتي شملت مختلف الديانات في معظم بقاع الأرض، ووجد من كل ذلك أن هناك أطروحة واحدة من الممكن تعميمها على هذه الأنواع المختلفة من العنف، وهي أن العنف يأتي كاستجابة للظروف المحيطة بالفرد منها ما هو اجتماعي، واقتصادي، أو بما يشمل العوامل السياسية المختلفة؛ لأن ثمة وعيا منتشرا بأن العولمة والحداثة والعلمنة أو الأنماط المعيشية المعاصرة لا تتمتع بالأخلاقيات الكافية أو اللازمة في هذا الوقت الحالي من جهة، وبأنها -من الجهة الأخرى- تهدد بفقدان الهوية، أو بتغييرها؛ الأمر الذي يؤدي لانتشار مشاعر الإحباط والظلم بين الكثير من الأشخاص -خارج المجال الديني- مما يتوجب العودة للأيديولوجيا الدينية، التي من خلالها يتم النظر للواقع أو يتم الاحتماء بها في أوقات الأزمات النفسية والوجودية.

 

قواعد المُمثل المخلِّص في الحرب

يطرح الباحث والمفكر الشهير سكوت أتران نظرية من الضروري مناقشتها لفهم الأسباب النظرية للعنف (ص:68)، وهي التي أطلق عليها بتضافر جهود الكثير من الباحثين في حقول معرفية مختلفة، نظرية الممثل المخلِّص، حيث تتلخص هذه النظرية في وجود كثير من الأشخاص الذين لديهم الاستعداد التام للتضحية بالنفس، أو كما يقال بالغالي والنفيس، من أجل المجموعة التي ينتمون إليها، وبشكل خاص عندما يشعرون بتهديد خارجي لهذه المجموعة، أو في حالة الشعور بالخطر تجاه أي مرجعية مركزية لهذه المجموعة.

يتضمن الإطار النظري حتى الآن لهذه النظرية قسمين رئيسيين، متداخلين في برامج الأبحاث المتعلقة بنظرية الوعي؛ وهما: القيم المقدسة، والهويات المندمجة.

ففي جانب القيم المقدسة، نجد أن الأشخاص لديهم الاستعداد الكافي لبذل مجهود كبير وعظيم للتضحية بأنفسهم من أجل مجموعة معينة من الأفكار والمعتقدات؛ وذلك للإجابة عن أسئلة تبدو مصيرية من قبيل: من نحن؟ أو من أنا؟ حيث من الممكن اعتبارها بأنها امتيازات اللامعقول، وهي الأسئلة التي شغلت الكثير من المفكرين الدينيين وغير الدينيين على مرّ التاريخ القديم والمعاصر؛ مثل: أغسطينوس، كيركغارد، جاليليو، وهوبز...وغيرهم الكثير. فحسب الكثير من المختصين، فإن الآراء الدينية لا تُمثل القيم الحقيقية التي لا تقبل المراجعة، بل تستتبعها أيضا الكثير من الطقوس التي تؤسس لما يمكن تسميته الرابطة المعنوية بين أفراد الجماعة الواحدة؛ ذلك أن الالتزام الكبير والمكلف عن طريق هذه التعبئة والتجييش يولّد التضامن والتكاتف بين الأفراد؛ وبالتالي ينزع الثقة والإيمان من المجموعات الأخرى، بل يزيد من فرص التوتر والعنف بينها.

وفي المقابل، فإن الأسباب الاجتماعية المقبولة والتي تشبه العقد الاجتماعي، من الممكن أن تسن قوانين المصلحة الشخصية التي يتم على أثرها تقاسم التكاليف، كما أن منافع المشاركة من الممكن أن تؤدي للتقارب بين أفراد المجموعة، لكنها أيضا أكثر عُرضة للانهيار، حتى وإن كانت هذه القيم ظاهريا على الأقل ذات طابع دنيوي، وأممي، مثلما هي الحال في معظم الحركات التحررية التي تدافع عن حقوق الإنسان، فإنها تتضمن أفكارا ذات طابع الديني أو شبه ديني للطقوس والمعتقدات المختلفة. ورغم ذلك، فإن هذا الممثل المخلِّص -كما يقول أتران- لا يتأثر كثيراً، أو لا يهتم بالأدوات والمحفزات، بل بالقيم المقدسة التي تقود للفعل المستقل والمنفرد، خارج كل الحسابات والنتائج. فالإخلاص هنا يُمثل في وجه من وجوهه استجابة للنداء العالمي على المدى الطويل (ص:71)، الذي يثوي خلف المصالح الشخصية والمنافع قصيرة الأمد، وهذا ينطبق على معظم المعتقدات والديانات كما هي الحال في عبادة البقر لدى الهندوس، أو في عقيدة يوم السبت في الديانة اليهودية.

وفي ختام هذا الفصل (ص:81)، يطرح أتران تساؤلاً حول مستقبل الديمقراطية الليبرالية والدولة الإسلامية ومستقبل العالم، في ظل تقلص قيم حقوق الإنسان وتزايد النزعات الإثنية والقومية الضيقة وصعود الإسلام المتطرف؟ وهل تشبه هذه الأوضاع ما حدث في 1920م و1930م من صعود للنزعات الفاشية؟ ليخلص بذلك إلى أن العنف ليس جديداً في التاريخ البشري، لكنه من الصيغ المختلفة للتعبير عن الطبيعة البشرية التي انحرفت عن مسارها الطبيعي بما فيه من آثار جانبية مدمرة؛ حيث نجد أن معظم مقترفي العنف يعتقدون بأنهم يقومون بأفعال رفيعة الشأن، ولها أهمية دنيوية وأخروية لا تقدر بثمن.

 

الإرهاب وطقوس التضحية

وفي هذا الفصل (ص:116)، يقدم الباحث لورنز جريتل وجهة نظر تجاه الهجمات الانتحارية من منظور عالم الاجتماع الفرنسي الشهير إميل دروكهايم، وتحديدا من خلال كتابه "الانتحار" الصادر عام 1897م؛ حيث يتم النظر لهذه الهجمات الانتحارية على أنها أحد طقوس التضحية بالنفس، والتي تزايدت في الفترة الأخيرة وبشكل خاص بعد العام 1980م؛ حيث وقعت فيما يصل إلى 40 دولة مختلفة حول العالم، كما أنها وصلت لأرقام كبيرة في العام 2015م.

وفي كل الأحوال، فإن السؤال عن سبب تزايد حالات الانتحار من وجهة نظر دوركهايم، والتي أصبحت رائجة ومنتشرة في مراكز البحوث العالمية تبدو مختلفة ومتعددة، غير أنها تقع في الجانب الاجتماعي بشكل خاص؛ لأنَّ العوامل غير الاجتماعية (117) كالمرض العقلي، واستهلاك الكحول، والعوامل المناخية، والمحاكاة، ليست عوامل حاسمة في هذا المجال، أو ليست عوامل كافية أو مقنعة تبعث بالأشخاص على الانتحار والتضحية بأنفسهم، بل نجد أن العامل الاجتماعي هو العامل المهم والحاسم في هذا السياق؛ فالاندماج الاجتماعي من جهة والقوانين الاجتماعية من الجهة الأخرى، تشكلان أهم هذه الأسباب، وذلك في حالة زيادة القوانين الاجتماعية أو نقصانها أيضا في المقابل. لذلك؛ فإن دوركهايم يقسم أنواع الانتحار لأقسام مختلفة، وهي الانتحار الفردي، الذي يحدث بسبب نقص في الأعراف والقوانين الاجتماعية، والذي يظهر في أوقات الانفصال، وفقدان الوظيفة، أو الأزمات الاقتصادية. وإضافة لذلك، نجد أن هناك الانتحار الجبري وهو الذي يحدث بسبب الإفراط الزائد في القوانين والأعراف الاجتماعية، والتي لا تترك للفرد حرية التصرف والاختيار. كما نجد أيضا الانتحار بسبب الأنا المتضخمة، وهذا الذي يعود لفشل الأنظمة الاجتماعية بما فيها العائلة والأماكن الدينية في توفير شروط الاندماج المجتمعي؛ مما يُفقد الشخص حماسته للحياة ويصبح منعزلاً بشكل تدريجي.

غير أنه وبالرغم من كل ذلك، يبقى السؤال مطروحا: لماذا يوجد لدى الكثير من الأشخاص الاستعداد لقتل أنفسهم وغيرهم الكثير؟ (ص:119)، وهذا يحيلنا لعمل مهم صدر عام 2005م للباحث روبرت بابز بعنوان "الموت حتى النصر"، والذي يعود إليه كاتب هذا الفصل بالكثير من الشرح والتفنيد.

وفي ختام هذا الفصل، نجد أن العامل الاجتماعي -وحسب نظرة دوركهايم- هو أهم العوامل المؤدية للانتحار؛ وذلك تفاديا للتهميش وعدم الاندماج؛ الأمر الذي يؤدي للشعور بالعزلة، وربما في معظم الأحيان عدم الاعتراف بالذات وأهميتها.

 

"شارلي إيبدو" وخطاب العنف الديني

يتناول الباحث بير إيرك نيلسون في هذا الفصل (ص:191)، واقعة مجلة شارلي إيبدو الساخرة الشهيرة في فرنسا، والتي حدثت في 7 و8 يناير 2015م؛ وذلك من خلال ثلاثة عناصر مترابطة، ومتداخلة؛ هي: المطابقة، والإزاحة، والتوسعة. فالأحداث التي جرت بعد واقعة شارلي إيبدو بما يشمله من تفاعل إعلامي دولي كبير، والتعاطف غير المسبوق، والمسيرة التي حضرتها شخصيات سياسية دولية، وغير ذلك، جعلت التركيز البحثي على ارتباط العنف بالدين موضع سؤال بحثي جاد وموسع، وبشكل خاص ارتباط العنف بالدين الإسلامي.

تقوم المطابقة أو مجاز المماثلة على تقسيم الأشخاص بين "نحن" و"الآخرون"، "الأصدقاء" و"الأعداء"، "الدين" و"العلمنة"؛ لأن هناك صورة نمطية تضع الجميع في سلة واحدة، دونما الأخذ بعين الاعتبار الاختلافات بين الاتجاهات ضمن الاتجاه العام. فالمسلمون جميعهم -حسب الخطاب الإعلامي لما بعد واقعة شارلي إيبدو- إما سيئون أو جيدون، ولا وجود لغير ذلك؛ الأمر الذي جعل الكثير من الأشخاص يرفعون شعارات جماعية، تسعى لتبرئة جميع المسلمين والإسلام كنظام ديني من تُهمة العنف، والإرهاب. إضافة لذلك، نجد أن هناك مقالات صدرت في وسائل الإعلام وضعت جميع المسلمين في سلة واحدة، رغم أن مرتكب الجريمة يعتبر من الجيل الثالث الفرنسي؛ حيث ولد وعاش في فرنسا، لكنه تم تجاهل كل تلك المحددات كالجنسية، والطبقة، والجنس...وغيرها من العوامل، وتم التركيز على انتمائه للإسلام؛ مما جعل الانطباع السيئ عن الإسلام والمسلمين يترسخ في الأذهان، ويتم تداوله على ألسنة النخبة السياسية والإعلامية في فرنسا، مثل المفكر الفرنسي الشهير: مارسيل جوشيه (ص:193). من المهم في هذا السياق فهم كيف تشكلت مثل هذه الصور بعد المركزية الأوروبية، وأدبيات ومنطق دراسات ما بعد الكولونيالي، وكيف قسمت وأعادت بناء سكان الضواحي، إذا عرفنا أن شارلي إيبدو تقع في قلب باريس (ساحة الجمهورية)، وبأن موقع الضواحي بعيد عن العاصمة، ومليء بالأقليات الدينية، والعرقية، والفقر، والعنف...وغيرها من الصور النمطية المرتبطة بها، التي تعتبر مرتعا مناسبا للسلفية، وانعدام القانون.

وفي الجانب الثاني، فإن هذه الصورة النمطية تحتاج لزحزحة؛ ذلك أن منطق المطابقة، والزحزحة يعتبران كمحاكمة لسياسة الدولة القومية؛ حيث إن هذه الزحزحة اعتراض على هذا التنميط، أو وضع العنف في عرق واحد، أو ديانة واحدة. فبالعودة إلى الفرق بين العنف الموضوعي والعنف الذاتي، نجد أن الذاتي يعود إلى ذلك الفعل العنيف الواضح من قبل الجناة والضحايا، مثلما هي الحال في العنف الجسدي تجاه القتل الجماعي، أو العرقي، أو التحريضي، وهذا يغذي نزعة التفاخر، والمباهاة به؛ فهذا العنف يعتبر أحد تجسيدات أفلام هوليوود ونظرية هنتنغجتون عن صراع الحضارات (ص:195). في حين أن العنف الموضوعي هو ذلك العنف المتأصل في نظام الأشياء؛ حيث يأتي على صيغتين: رمزية (نظام المعنى)، وهيكلية ترتبط بالنظام؛ ذلك لأنه مرتبط بالاستغلال الاقتصادي، واللامساواة الاجتماعية، والأنظمة الاجتماعية التراتبية، والتمييز العرقي...وغيرها من الأشكال المختلفة من العنف، فهذه الصيغ يتم النظر إليها في البداية على أنها محايدة، وغير واضحة، ثم ما يلبث الوضع أن يتغير إلى اعتبارها مرضا أو يتم عقلنتها، كما هي الحال في معاداة السامية، التي تتزايد بشكل مستمر (ص:195) وبشكل خاص في فرنسا؛ فالنظر إليها هنا يعتمد على الشخص الذي يصرح بآرائه وأفكاره تجاهها.

وفي جانب التوسعة، من الضروري الحديث -وحسب النقاشات التي رافقت هذه الأحداث- عن فك الارتباط أو نزع الشرعية بين الدين والعنف، وهو النقاش الذي أقامه المفكر طلال أسد؛ لأن مفهوم نزع الشرعية يعتبر من المفاهيم المركزية في هذا السياق؛ فهناك الكثير من الآثار التي حدثت، وتم من خلالها تنميط الأشخاص بناء عليها كما هي الحال في أحداث الحادي عشر من سبتمبر وغيره.

وكخاتمة لهذا الفصل، نجد أن خطاب العنف الديني بمراحله الثلاثة التي أقامها الكاتب قد تفوّق على خطاب العلمنة بحد ذاته. وربما السؤال هنا: أين شارلي إيبدو؟ والجواب هو في كل مكان، وفي اللامكان أيضا في نفس الوقت، في مشاريع الإسكان، وساحة الجمهورية، وقصر الإليزيه، في المسجد، وفي الشارع على حدٍّ سواء.

وفي نهاية هذا العمل، وعلى مدى صفحاته وفصوله وأبحاثه المختلفة، نستطيع القول بأنَّ هناك وجهات نظر مختلفة -وليست على صعيد واحد- حول علاقة الدين بالإرهاب؛ فالعامل الاجتماعي للأفراد يعتبر عاملا مهُما في هذا المجال، ولا يمكن اعتبار الدين السبب الرئيسي للإرهاب، كما نجد أيضا أن هناك بحوثا مختلفة حاولت تقديم نظريات حول أسباب الفعل العنيف، ولماذا يضحي البعض بأنفسهم في سبيل أفكاره، أو قيمه المقدسة التي يعتنقها مع المجموعة التي ينتمي إليها. وإضافة لذلك، فإن الفعل الإرهابي يقوم بتنميط الأشخاص والديانات ووضعها في سلة واحدة، دون النظر للاختلافات والتمايزات بين الأشخاص وعناصرهم المختلفة: كالطبقة، والجندر...وغيرها؛ مما يعني في النهاية أننا أمام موضوع شائك ومعقد، وليس بتلك السهولة المتوقعة، أو التي يتم تداولها في وسائل الإعلام المختلفة.

----------------------------

- الكتاب: "الدين والإرهاب".

- المؤلف: مؤلف جماعي.

- الناشر: Cambridge University Press,2017.

عدد الصفحات: 267 صفحة.

أخبار ذات صلة