تطور الوعي بالذات في أدب الرحلات

محمد بن علي الكمزاري

وفق سعيد بن سعيد العلوي – أستاذ الفكر الإسلامي والغربي في جامعة محمد الخامس، بالمغرب - إلى حد كبير في تصنيف وتفكيك الرحلات السفارية المغربية إبان القرنين الثامن والتاسع عشر من خلال مقاله (الهجرة إلى الغرب: فرنسا في عيون الرحالة المغاربة) الذي بحث قضية أساسية في هذه الرحلات وهي الطريقة التي يبدو بها الآخر في مرآة الذات، وذلك بالاعتماد على مرجعيات نصية ونماذج مأخوذة من الثقافة المنظورة.- والحديث عنها بصورة يستحضر خلالها الكاتب ثنائية الهوية والغيرية، من الاختلاف الثقافي إلى الأثنوجرافيا حيث حاول الكاتب بداية وضع تعريف دقيق لمفهوم الثقافة والأثنوجرافيا فالرحالة لا ينسلخ أبدًا عن الثقافة رغم ما قد يعيشه من ثقافات جديدة حيث يعتبر الكاتب أن نص الرحلة من الإرهاصات الأولى لعلم الأثنوجرافيا وأهمها رصد لحظات تطور الوعي بالذات وتلقي صدمة التعري الحضاري أمام تقدم الآخر.

 فالوعي الذاتي وتشكيل صورة الغير ينطلق من جدلية التاريخ والغير وتأثير الأول على الثاني فالرحالة- دائم الاستحضار لتاريخه ومنه يكون صورة جديدة عن الآخر. وعلى سبيل المثال لا الحصر رحلة الوزير في افتكاك الأسير(1691-1690م) لمحمد بن عبد الوهاب الغساني. لقد كان الغساني دائم الاسترجاع للتاريخ حيث تتحول الكنسية عنده إلى مسجد، كذلك استحضار أمجاد المسلمين في الأندلس، لنحصل في النهاية على تكوين صورة سلبية عن الغير تحكمت فيها العقيدة ووصلت لدرجة الاتهام، اتهام النصارى بتشويه معالم وتراث المسلمين في الأندلس، وكهروب من هذا المأزق سيحاول الغساني بعث صورة الأنا التاريخية واستحضارها من جديد من أجل استرحال الأندلس إلى المسلمين.

 وفي هذا الإطار نجد أن المؤلف قد صنف هذه الرحلات إلى ضروب متعددة، أبرز هذه التصنيفات اللحظات الثلاث التي شكلت وعي الذات إزاء تمثلها للآخر وهي:

1-لحظة القوة والثقة بالنفس والتي تجسدت في رحلات محمد بن عثمان المكناسي في رحلتيه المشهورتين لافتكاك أسرى المسلمين من يد "النصارى" التي حل من أجلها في كل من إسبانيا ثم بعدها في نابولي ومالطا وغرض المؤلف في هذا الفصل هو: "استخلاص معالم لحظة القوة والثقة في النفس على نحو ما تكشف لنا عنه قراءة ما دوَّنه السفير المكناسي في رحلتيه، وبالتالي، نُريد تبين صورة "الآخر" على نحو ما ترتسم به في الوعي العربي الإسلامي في المغرب في نهاية القرن الثامن عشر".

وأهم ما طبع رحلات المكناسي هي "شعور باطن بالقوة والاستعلاء في مقابل شعور باطن بدونية الآخر ونزول مقداره"، ويظهر ذلك جلياً في حضور الهاجس الديني الذي يغدو "أكثر قوة وهيمنة على الرحلة وعلى الحديث عنها" متى تعلق الأمر بالمقابلة بين دار الكفر التي يتنقَّل بها ودار الإسلام التي يحن إليها وعليه فلا غرابة ألا يحتفل الرجل بمظاهر الحياة اليومية في أوروبا لا "بالألبسة ولا بنظم العيش". ومن أهم أسباب تفسير هذه الصورة التي استقر عليها المكناسي في وصفه لأوروبا التي عاينها في النصف الثاني من القرن الثامن عشر هي غياب الصدمة الحقيقة التي ستخلخل مشاعر ثقة الذات بنفسها وتقلقها بضرورة اللحاق بالركب.

2-لحظة الهزيمة والاكتشاف والتي فككها من خلال قراءة رحلات كل من العمراوي والصفار والطاهر الفاسي والتي تعبر بوضوح عن لحظة "إحداث الخلخلة العظمى في الصورة التي كان ابن عثمان المكناسي قد رسمها للذات والآخر"، ولحظة الاستفاقة هذه أعقبت سلسلة من الصَدَمات التي تلقاها الوعي المغربي بحقيقة تخلفه عقب الهزائم النكراء خصوصًا في إيسلي وتطوان.

لهذا لا يُدهشك أن تكون ميزة هذه الرحلات هي "إرادة المعرفة" في مقابل "غياب حديث إطراء الذات" الذي هيمن على مكتوبات المكناسي. وعليه فإن اهتمام الرحالة المغربي انصبَّ بالدرجة الأولى على العناية بالحديث عن "الاختراعات والصنائع"، وفي المقابل أشاح بوجهه عن رؤية مظاهر الحضارة الأوروبية الأخرى مثل المسرح والمنتزهات وحديقة الحيوان.

3-لحظة الدهشة واستعادة الوعي ويمثل هذه اللحظة محمد بن الحسن الحجوي في نصه "الرحلة الأوروبية" خير تمثيل، بحيث أن ما أبداه الرجل في هذه الرحلة من وعي بالذات وفهم للآخر تماهى بشكل كبير مع مشروعه التجديدي العام، كما أن هذا النص يكشف إلى أبعد الحدود عن تداخل أبعاد ثلاث في شخصية الرجل وهي: "التاجر والموظف المخزني والفقيه المجتهد بدأ الكاتب مؤلف بمقدمة تطرق فيها إلى محاولة تعريف الرحلة بأنها مجموع الكتابات التي لها علاقة بفعل الإنسانية وصورة الآخر التي تحيل على مبحث يسمى "علم الصورة النمطية الثقافية" "Imagology" التي تبنى على ثنائية الحاضر والغائب أو الواقعي والذهني –الخيالي-.

 أما عن جدل إدراك الوعي ومقاومة اللاوعي الثقافي فبدأ الكاتب أولاً الحديث عن الرحلة حيث اعتبر بداية النص الرحلي ملتقى "لتفاعل عدة أنساق تساهم في إنتاجه" ورحلة "تحفة الملك عبد العزيز بمملكة باريز لإدريس العمراوي، وتتأسس بدورها على ثلاثة أنساق: السياسي والديني والعاطفي. فالسياسي: تمثل في ضعف المغرب السياسي والعسكري بعد هزيمة إيسلي 1844م والعاطفي: أثناء التعبير عن انفعالات ووجدان الرحالة تجاه بعض مواقف ومنجزات الغير. وأخيرا الديني الفقهي: حاضر بقوة كضرورة معرفة الغير الكافر ونقاط قوته لدرء خطره المحدق بالأنا.

هذه الأنساق الثلاثة أدت إلى ظاهرة تمزيق صورة أو تمثلات الأنا عن الغير، وصدمة اللقاء توزعت بين الإعجاب والانبهار أو رفض الآخر المختلف ثقافيا لتتكون صورة جديدة هي صورة قوة الغير الدنيوية المتقدم في كل المجالات (القطار- حب العمل- حسن المعاملة) وفي المقابل نجد صورة أخرى هي صورة التدني القيمي للغير منطلقا في ذلك من ثقافته الذاتية التي يجعلها دائما ميزان المقارنة فيظهر حسب ادريس العمراوي- تفوق الأنا القيمي على الآخر.

وختاما لا بد من الإشارة إلى أن هناك شعورا متولدا عند الرحالة بسوء أحوال الإسلام وانحطاط أهله، وتقدم أهل الكفر وعلو شأنهم، إنه شعور الألم و المرارة والأسى؛ فبينما كنت تجد الرحالة المسلم زمن ابن بطوطة ممتلئا بالحماسة والقوة في حديثه عما عنده وليس عن غيره؛ إذا بك تجد عند الشدياق والطهطاوي (بل وعند المكناسي قبلهما في القرن الثامن عشر) شعورا بالأسف.

 

أخبار ذات صلة