الحكماء المتألهون العلاقة بين الفلسفة والتصوف

أم كلثوم الفارسي

 

ما من شكٍّ في أنّ العقل ينبغي أن يكون رائدنا إلى إدراك ما يحيط بنا من عالم المحسوسات وما وراءَه من المعقولات، وإدراك أنفسـِنا وموقعنا في الكون. وليس من شيء محرَّماً على عقلنا يتدبَّره حتَّى المقدَّساتِ التي جعلتها الإنسانية في أعلى عِليِّين؛ لأنّه وسيلتنا إلى المعرفة. ولكننا وباستخدام عقولنا يصعب علينا أن نضع خطا ناظما بين المتصوف الذي يعتمد على الإشارات، وبين المنطق الذي يضعه العقل بما يسمى الفلسفة التي تدلل على القضايا بالبراهين، والأدلة العقلية، فالأول يعتمد على العاطفة أما الثاني فيعتمد على العقل، فكلاهما لا ينفصلان عن حياة الإنسان، وتدل كل البحوث والدراسات التي طرقت هذا المجال بأنّ الفلسفة توصل إلى نهاية الطريق في العلوم بالاستناد إلى طرق العقل ومعاييره، ولكنها لا تستطيع أن تجيبك عن علوم، ومجالات أخرى في مجال التصوّف وحالات الإشراق التي لا يمكن الإفصاح عنها إلا بالمجاهدة، فهي بلا شك لا تخضع لمعايير محددة وطرق خاصة في نظرتها للحياة .

 

فبين مساري المعرفة (الفلسفة والتصوف) يناقش الباحث فيكتور الكك في مقاله (من الإشراق إلى الحكمة مجمع مساري المعرفة) العلاقة بين التصوف والفلسفة وحال الإنسان بينهما حيث إن مسيرة الإنسانية -مذ بدأت تعي واقعها حتَّى اليوم- توزَّعت في هذين الاتجاهين؛ غير أنَّ فئة من الآخذين بالتوجُّهين عمدت إلى التوليف بينهما، وليس هذا أمرًا بِدْعًا؛ فقد حفل تاريخ الإنسانية بمحاولات الجمع بينهما. والجدير بالذكر أنّ مسار الفكر العربي الإسلاميّ انطوى على محاولات انتقاء وجمع بين مذاهب فكريَّة مختلفة، وبين الفلسفة والدين، مذ كانت محاولة الكنديّ (256 هـ) بين الدين -بصورة عامة- والفلسفة كذلك، وترسّخ هذا التيَّار التوفيقيّ في الفلسفة العربيّة الإسلاميَّة مع الفارابي (339 هـ) الذي قال بوحدة الفلسفة، فجمع بين رأيي الحكيمين: أفلاطون وأرسطو إلاَّ أنَّ التوليف بالمعنى الذي حدَّدناه لم يكن ليتجلّى سوى في حكمة الإشراق التي أحيا رسومها شهاب الدين السهرورديّ، يحيى بن حبش (587 هـ) فعُرف بها، وعُرفت به في لقبه "شيخ الإشراق"، وأنشأ تقليدًا مميَّزًا حمل لواءَه من بعده "الحكماء المتألـِّهون"، بالتوليف بين الفلسفة والتصوُّف، وإطلاق تسمية جديدة تجمعهما هي "الحكمة". ومن أشهرهم: ميرداماد وملّا صدرا وسواهما.

ولتعمق أكثر في العلاقة بين الفلسفة والتصوف نتطرق إلى تكوين الإنسان الذي هو من المادة، والروح، فالفلسفة تنظر إلى هذه المكونات بعين على المادة، وبأخرى على الروح، وأن الفلاسفة الذين جنحوا إلى المادية على حساب الروحية كانوا أقرب إلى الوجودية، وأن الإفراط في مسألة الروحانيات أيضا يظهر في فلسفة التصوف، وإذا كانت الفلسفة لها نواظم في حدود العقل، فإن التصوف هو خارج حدود العقل، ولكنه في حرم المعقول، وما دامت الفلسفة لم تصل إلى حقيقة الروح ولن تصل، فإن قوانين المنطق هي قوانين وعينا المألوف وأن ما يهمنا في هذه الدراسة أن نتلمس الشريحة التي تتميز باتصالها بالجانب الروحي، ومنها أصحاب التصوف والزهد، والذين يتسامون عن كل فعل دنيء، وهم مغالون في العبادة، وأداء الفرائض، ومن هنا نجد الفرق بين التدين والتصوف، فالتدين هو أداء العبادة والمناسك، بينما التصوف هو إشراق في القلب، ويأتي درجة متقدمة في العبادة، وليس الاستغناء عنها. إنّ الإنسان الذي بدأ يحس بوطأة الحياة المادية المفرطة، وحالات الفوضى على حساب القيم والمعايير الاجتماعية النبيلة، ومجموعة الأعراف، والروابط بين الفرد والمجتمع التي كان يتحلى بها، وأخذته الحياة المادية المعاصرة من حيث لا يدري، بات في حاجة إلى تحقيق روحانيته، وإلى ما يرضي عقله، ويشبع روحه ويعيد إليه ثقته بنفسه، وطمأنينته التي بدأ يفقدها في زحمة الحياة المادية، وما فيها من أشكال الصراع الفكري، والعقائدي، وبهذا يحقق مع التصوف إنسانيته. فإذا كان انخراط الإنسان في الحياة المادية بشكل كامل، وابتعاده عن الروحية سيفقده كل إنسانيته، ويجعله ينخرط في شرائح للكائنات الأخرى، فهذا ما ينقله إلى ما يمكن تسميته بالتطرف، وهو الأساس في كل المشاكل الإنسانية على وجه الأرض. وفي المقابل هناك المغالاة كثيرا في حالات الزهد والتصوف التي قد تكون تطرفا عند ما يصبح هذا التصوف والزهد حالة تقاعس عن العمل وانخراط في عالم الروحانيات، وهو ليس هروبا من الواقع، ولا انزواء، أو خلوة فحسب، وليس زهدا ولبس الصوف فقط، وإنما هو محاولة للإنسان للتسلح بقيم روحية جديدة تعينه على مواجهة الحياة المادية، وتحقق له التوازن النفسي حتى يواجه مصاعبها ومشكلاتها، وبهذا يصبح التصوف إيجابيا لا سلبيا. فلقد نشأ التصوّف لأسباب شتّى واستوعب في تياره الذوقيّ توجّهات دينيّة واعتقاديّة وفكريّة كثيرة؛ إلاّ أنَّ علـّة وجوده الداخليّة كانت معاناة فئات تبيّن لها أنَّ العقل عجز عن كشف الحقيقة الكامنة وراء الكون والمكان، كما يقول حافظ الشيرازيّ. فالحواسّ والإدراك الحسّي والاستدلالات المنطقيّة والمبادئ العقليّة لم تكشف السّتر عن لغز الوجود. عندئذ توجهّت تلك الفئات إلى القلب وإلهامه، وبان لها أنَّ الإنسان -إذا تحررّ من علائق الدنيا المحسوسة، وبادر إلى تزكية النفس وتصفية الباطن منه- يمكنه أن يتصل -في لحظة جذب عُلـْوية- بالوجود المطلق أو الحقّ، تعالى وتبارك، وذلك عن طريق الكشف والشهود.

ختاما نؤكد أن أسرارًا كثيرة وألغازًا شتـّى وقف عقلنا دونها عاجزًا عن حلّ معَمَّياتها، فبادرت صفوة من الإنسانية إلى الحدْس بوسيلة أخرى تكشف الغطاء عنها، فاكتشفوا طاقة القلب التي إن هي وُجِّهت في خطّ "سير وسلوك" موصول الأنفاس، بلغت بأصحابها وكرَ العنقاء في جبل القاف، حيث نعاين أنفسنا على حقيقتها في مرآة عُلْويَّة. هذا هو مسار " أصحاب القلوب"، في مقابل نظر أصحاب العقول.ء

 

أخبار ذات صلة