الكاهن يوحنا.. من مخطوطات التاريخ إلى روايات الأدب الحديث

أسماء عبدالله القطيبي

في مقاله "أوروبا والإسلام.. مملكة الكاهن يوحنا" يتحدث الباحث حاتم الطحاوي عمّا أسماه خرافة الكاهن يوحنا، الكاهن الذي زعم المسيحيون أنّه أسس مملكة في الشرق في القرن الثاني عشر، وأنّ هذه الخرافة روّجت من رجال الدين وحكام أوروبا الشرقية لتكون ذريعة للاستعمار السياسي، وطريقا ممهدا لعبور الحملات التبشيرية. ويورد الطحاوي في مقاله العديد من الأدلة التي يستند عليها لتأكيد زيف هذه الأسطورة منها تضارب الروايات الغربية، والخلط بين بلاد الهند وبلاد الحبشة في الروايات المتداولة حول هذا الكاهن، وعدم وضوح هويته في المصادر، فلكل زمان كان هناك الكاهن يوحنا باسم مختلف، وتبدل مكان إقامته كما يذكر المستشرقون الذين حاولوا الالتقاء به، بالإضافة للشكوك الكبيرة حول مصادر المخطوطات المنسوبة إليه.

إنّ صناعة الوهم نوع من السياسة مارسها كثير من القادة والمؤثرين على مر التاريخ خاصة في فترات الصراع، لمحاولة التأثير على العقل الجمعي بغية الوصول لأهداف معينة. وخرافة الكاهن يوحنا ليست إلا مثالا واضحا لذلك. ففي عصور كانت وسائل التواصل فيها شحيحة وبطيئة روّجت الكنيسة الكاثوليكية لشخصية مثالية تدعى الأب يوحنا، وهو كاهن يعيش بين أتباعه في بلاد المشرق، متنعما بحياة رغيدة ومؤديا فيها دوره في الدعوة إلى المسيحية. ففي رسالته التي أرسلها للإمبراطور البيزنطي مانويل كومنين عام 1165 والتي يعتقد المختصون اليوم بعدم صحتها وأنّه تمّ تدبيجها في ألمانيا، يقول الكاهن يوحنا: "... وتوجد في بلادنا كميات ضخمة من الذهب والفضة والأحجار الكريمة، وكذلك حيوانات من جميع الأنواع والأعداد، نؤمن أنه لا يوجد مثلها تحت السماء، كما لا يوجد لدينا فقراء، ونقوم بالترحيب واستقبال جميع الغرباء والرحالة والمسافرين ولا يوجد مكان للصوص وقاطعي الطرق والزناة في بلادنا...."  ويستمر في وصف البلد والحاشية حتى يقول: "غاية الأمر أنّه إذا تمكنت من عد نجوم السماء، وحبات رمال البحر، عندها ربما تكون قد نجحت في عد وإحصاء مدى قوتنا وثروتنا ومساحة بلادنا"، وهي رسالة بلا شك دغدغت أحلام كل من قرأها بالسفر إلى بلاد الله المختارة (بلاد الأب يوحنا) في وسط الشرق، وملأت كل مسيحي فخرًا وأملا في انتشار الدين المسيحي على يد الكاهن الحكيم يوحنا. ولأنّه كان من الصعب التأكد من صدق رسالة كهذه، فلم يكن للمتلقي خيار سوى تصديقها، خاصة وأنّ صورة الشرق لم تكن واضحة المعالم لدى المسيحي الغربي.

إنّ الهدف من اختلاق شخصية أسطورية كالكاهن يوحنا لها أبعاد عدة؛ ففي زمن تتنافس فيه الأمم على توسيع حدودها وزيادة نفوذها كان الانتصار الأكبر هو تأسيس مملكة داخل بلد الأعداء، ومملكة الكاهن يوحنا حسب الروايات كانت مملكة تنعم بالاستقرار السياسي والسلام التام مع ما يجاورها من ممالك، ولا يتأتى لها ذلك إلا بعِدة وعتاد جاهزين دومًا للدفاع والهجوم. وتناقل الروايات عن هذه المملكة كاف لوحده لجعل العدو يعيد حساباته ويضع توقعاته.

إضافة لذلك فإنّ كاهنًا مسيحيًا في بلاد المسلمين يعني نواة لانتشار الدين المسيحي، وفي رسالته للإمبراطور البيزنطي مانويل كومنين ذكر الكاهن يوحنا بأنّه في وقت العشاء يكون عن يمينه اثنا عشر أسقفا وعشرون قسا، ويحضر البطاريك والمطران بشكل دائم هذه المأدبة، في إشارة لأهميّة التدين في تلك المملكة وحرصها على تأصيل الكاثوليكية بين الأتباع، وهو ما تمّ استغلاله في بلاد الغرب لجمع المساعدات من أجل رسالة الكاهن يوحنا في الشرق، وجميع هذه المكاسب السياسية والاقتصادية ما كانت لتتحقق لولا حنكة السياسيين الذين استطاعوا على مدى عقود أن يجعلوا من الأسطورة حقيقة في أذهان الكثيرين.

انتقلت شخصية الكاهن يوحنا من كتب التاريخ والرحالة من أمثال فاسكو دي جاما وبدر وطافور بعد أن حققت أهدافها واستهلكت بما يكفي إلى الأدب في العصر الحديث. ولعل أبرز ما كتب عنه رواية باودولينو للكاتب أمبرتو إيكو في عام 2000، وهي رواية تدور أحداثها في نفس الفترة التي تواردت فيها الأخبار عن الكاهن الأسطوري. ورغم أنّ شخصية الكاهن يوحنا هي شخصية دينية لكن الاعتراف بكونها شخصية مزيّفة جعل منها مادة للإبداع دون أن تثار تلك الحساسيات التي نجدها عند كثير ممن ينظرون للتاريخ الديني بقداسة حتى لو ثبت بطلانه بالدليل؛ فالتجاوز الحقيقي ليس بمحو الأثر بل بتخليده بصور عدة كشاهد على مرحلة زمنية مهمة في التاريخ. وفي الحقيقة فإنّ أسطورة الكاهن يوحنا تقودنا إلى التساؤل حول مدى الزيف الذي يحفل به تراثنا العربي والإسلامي هو الآخر، فالتاريخ كما يقال يكتب بيد المنتصر، وما أكثر المنتصرين الذين تعاقبوا على كتابة تاريخ المنطقة، وصوروا أنفسهم بأبهى صورة، وشوّهوا صورة الآخر وحجموه حتى لا يبقى ذكره. وكم شخصيّة لدينا في الشرق هي شخصيّة أسطوريّة أو شخصيّة واقعية تم تلميعها وإضافة أمجاد زائفة إليها حتى أصبحت رمزا نحتفي به إلى اليوم. فعلى سبيل المثال يُعتقد في الوقت الحالي استنادا للدلائل أنّ شخصيّة المرأة العربية الشجاعة خولة بنت الأزور هي شخصية أسطورية؛ فالقصص التي رويت عن شجاعتها لا تكاد تصدق، وهي لم تذكر سوى في مصادر محدودة بينما غاب ذكرها في مصادر أكثر تحقيقا. ولعلنا قبل التمحيص في التاريخ علينا أن نكون مستعدين ومتقبلين لما سينجم عنه البحث من أرقام زائفة وشخصيات لا وجود لها ومعارك لم تكن إلا في أذهان كاتبيها مع ما ينجم عن ذلك في تغير للحقائق وغربلة للمفاهيم، سعيا لتاريخ أكثر واقعية وأملا في تقديم الحقيقة دون زيف ومبالغة للأجيال القادمة.

أخبار ذات صلة