لحيدر جمال
فيكتوريا زاريتوفسكايا*
صدر مؤخرا من أكبر دور النشر في مدينة سانت بطرسبورغ الروسية هذا الكتاب الذي يضم بين دفتيه سلسلة محاضرات لواحد من الشخصيات البارزة في روسيا الحديثة؛ رئيس اللجنة الإسلامية الروسية، الفيلسوف والخبير في مسائل اللاهوت والفلسفة والسياسة الحديثة حيدر جمال الذي توفي في كانون الأول/ ديسمبر من عام 2016. وبهذا الكتاب يكون قد ختم عمله ووضع شهادته الأخيرة لحياته الفكرية. وإذا أردنا تحديد الأطر الفكرية التي طبعت مجمل اشتغالاته فيمكن الإشارة إلى اتجاهين رئيسين، أولهما اتجاه مقاوم للنظام العالمي المفروض من القوى الكبرى وإغفال مفاهيم العدالة والمساواة بين سكان المعمورة والثاني يتعلق بميول الكاتب الدينية التقدمية ومحاولاته صياغة رؤية تجمع بين الفكر اليساري والدين الإسلامي، أو بكلمة أدق استخراج البعد اليساري من روح الإسلام.
يستند الكتاب إلى العديد من المقالات والمحاضرات والمقابلات المُكرسة لحياة المجتمع الروسي ومسائله السياسة المعاصرة مثلما تشير إلى ذلك عناوين فصوله، وهي من قبيل: "المواجهة بين الشرق والغرب"، و"الانتهاء من فكرتي اليسار واليمين، و"من الذي سيحل محل البروليتاريا في دور الهيمنة"، و"استحالة العودة إلى الستالينية"، و"الشخص العادي وأسطورة التقدم"... إلخ. إلى جانب مسائل أخرى تتأمل في الإنسان ومكانته في العالم المادي والروحي وهو ما تشير إليه فصول الكتاب التي جاءت تحت عناوين من بينها "هل للحرية مكان في عالمنا؟" و"الألم والمجتمع" وغيرهما من العناوين.
يأخذ الكتاب خطا تصاعديا يبدأ من مواضيع ومسائل بسيطة ومبذولة بين الأفراد ثم يرتقي تدريجيا إلى مسائل أكثر تعقيدا وارتباطا بالميتافيزيقيا. ومن خلال أمثلة ثقافية ودينية يستخلصها من التاريخ الروسي والعالمي، وعبر أفكاره التي غالبا ما تتسم بالحدية وتجنح إلى مناطق غير مطروقة، يجتذب حيدر جمال قارئه إلى عالم الإيمان ويفتح له قنوات إلى أغواره العميقة.
يضع صاحب الكتاب رؤيته المستقبلية للعالم ودور روسيا ومصيرها في هذا المستقبل، يضعها موضعا لافتا من مجمل عمله. كما يخصص عدة فصول من كتابه للقضايا التي اكتسبت أهميّة خاصة في المجتمع الروسي في السنوات الأخيرة كتعزيز دور روسيا على الصعيد العالمي واحتمال تحولها من جديد إلى النظام الامبراطوري. وترتبط هذه الفكرة ارتباطا وثيقا بعودة ما يسمى "عبادة ستالين" في روسيا، الزعيم السوفيتي الذي أصبحت الدولة الروسية أو السوفيتية في عهده، ولأول مرة في تاريخ البلاد، شريكا للغرب الكبير وندا حقيقيا له، وتم في فترة حكمه القضاء على الأمية وتحولت روسيا من بلد زراعي إلى قوة نووية عظمى. ومن المثير للاهتمام أن المؤلف لا يقرن ظاهرة الستالينية بالقمع والعنف اللذين طالما ارتبطا باسمه فنراه يكتب: "ثمة كثيرون ممن يخلطون بين مختلف الظواهر ويربطون بين الستالينية وبين يد الحاكم الباطشة. إليكم الأرجنتين مثلا، كان فيها زعيم عسكري قوي ولكن الأرجنتين لم تحقق شيئا من النجاحات التي أنجزت في الفترة الستالينية للدولة السوفيتية. وهاكم فرانكو في إسبانيا الذي لم ينشئ امبراطورية بالرغم من قوته وطموحاته. الشيء نفسه يقال عن الزعيم البرتغالي سالازار الذي ظلت دولته ترفل في البؤس ولم تستطع أن تبلغ مستوى بعض البلدان الأوروبية المتوسطة اقتصاديا" (ص 112). أما ستالين فقد بنى امبراطورية، وهي وفق تعريف حيدر جمال "حالة خاصة جدا في مجال التطور واستثمار القوة الكامنة لدى الأفراد حيث كل ساعة من حياة الشخص لها قيمة في الدولة وحيث معدل البطالة وإهدار الوقت يقتربان من الصفر، وبالتالي كان لطاقة الفرد والوقت قيمة كبرى. كما استطاع ستالين تحويل الفئة الدنيا من المجتمع، وهم السواد الأعظم من الشعب والطينة الحقيقية للدولة، استطاع تحويلها إلى القوة الأولى للدولة، بل هي كل شيء في الدولة. وكانت الإمكانيات متاحة لكل فرد من أفراد المجتمع للمساهمة في بناء الدولة وتولي المناصب في جميع المجالات. أضف إلى ذلك، وهنا مكمن القوة الفعلي، أن الإقدام على العمل لدى أفراد المجتمع لم يُفرض من الأعلى كعمل قسري وإنما تولّد من رغبة داخلية وإلحاح ضمني. ففي إنجلترا، على سبيل المثال، تم طرد الفلاحين من الأرض من أجل تحويلهم إلى عمال بما عرف حينها بعملية التسييج أو التطويق، بينما في دولة ستالين كان التغيير منهاجا اجتماعيا" (ص 110-111). تكونت مثل هذه الحالة في التاريخ الاجتماعي والسياسي الروسي أول مرة في عهد الأمبراطور بطرس الأكبر الذي حكم البلاد في بداية القرن الثامن عشر والمرة الثانية كانت في عهد ستالين ولم تتكرر من بعد ذلك مطلقا. وفيما يتردد أن مثل هذه النهضة التاريخة تشهد ولادة ثالثة في الوقت الراهن، فإن جمال ينفي مثل هذا التصور بقوله: "إن توطين مثل هذه الحالة يحتاج إلى ظروف وقدرات خاصة. فأين هم اليوم أفراد المجتمع الذين يحلمون ويسعون لبلوغ المدارج العليا ابتداء من نقطة الصفر؟ إن الجميع أو الغالبية الساحقة ممن يقطنون الأرض الروسية اليوم تلبسهم فكرة كاذبة عن أهميتهم (...) لديهم فكرة جيدة عن الحياة الاستهلاكية العالمية، ولكنهم لا يرغبون في حمل الأداة وشق القنوات في البحار مثلما كانوا يفعلون في العهد السوفيتي. لذلك لا يمكن أن يصنعوا قفزة نوعية للخروج من وضعهم الحالي. بالطبع بإمكان الناس أن يتوهموا أنهم ينتمون إلى روسيا القادرة على جعل الآخرين يركعون أمامها. ولكن هذا محض خيال. لذلك فالنقلة النوعية يجب أن تكون من الصفر إلى المائة، ومن حالة الجليد إلى البخار، بينما طبيعة الواقع (الروسي) اليوم طبيعة رخوة" (ص 116).
فصول أخرى من الكتاب كرسها المؤلف للمسائل الثقافية وخاصة للتحليل المقارن بين الظواهر التي يتم استيعابها بشكل مختلف بين الغرب والشرق (ويعّرف المؤلف روسيا باعتبارها بلدا شرقيا). ففي فصل "الأطلسي وأوراسيا" يتأمل الكاتب في طبيعة الكذب في الدعاية السياسية لمختلف القارات. ووفقا لملاحظات جمال فإن الكذب "يرتقي في بلدان أوراسيا إلى مرتبة الأسطورة المتجذرة والمتفرعة في أرض الحياة. أما في بلدان ما وراء المحيط الأطلسي، وفي طليعتها الولايات المتحدة، يُستخدم الكذب كأداة مؤقتة لمعالجة قضايا ملحة ويكون بمثابة غلاف يحجب جانبا من الحقيقة (...) إن الكذب الأوراسي هو نوع من الدعاية الساذجة، مثلما حدث مع قصة الصلب على سبيل المثال. فلربما لم تكن هذه القصة هي نفسها كما وصلت إلى الناس، أو لربما تكون مختلقة برمتها، مع ذلك فهي مزروعة في أذهان الناس مثل ضربة مسمار (...) أما منتجات الدعاية الغربية فهي خليط من الحقائق والأكاذيب، ولكن يتم إعادة صناعتها حتى تغدو نسخة طبق الأصل من الحقيقة، ذلك لأن الصورة المثلى للغرب لا تتسامح مع الخليط وتدعي النقاء دئما (ص 74-75) وفي السياق نفسه يتطرق الكاتب إلى عملية الخداع الذي تنطوي عليه الدعاية الغربية فيضرب أمثلة على طريقة ترسيمهم للتاريخ والأحداث العالمية، حيث يبدو معها أن الغرب في منأى عن الوحشية التي هي صفة من صفات الآخر غير الغربي. مثالا لذلك نجد صورة القيصر الروسي إيفان الرهيب في المخيال الغربي مغلفة بالرعب ومشبعة بالدماء، بينما الحقيقة أن قسوة إيفان الرهيب لا تقاس بجبروت ملوك أوروبا ودمويتهم ومنهم هنري الثامن ملك إنجلترا وكارل التاسع في فرنسا.
مسألة أخرى أحاطها المؤلف باهتمامه تتمحور في تناقض تقاليد شعوب العالم الثقافية المتعلقة بموضوع "الأرض والبشر" واختلاف أولوية إحدى هاتين الظاهرتين من بلد إلى آخر. ووفقا لجمال فإن "تاريخ البشرية منقسم إلى اتجاهين، خير مثال للاتجاه الأول ما يشكله التقليد اليهودي، حيث الدم هو أساس المجتمع وهو الحصن الحصين في مواجهة آفات الزمن، وبالموازاة يقل في هذا الاتجاه الاعتماد على مكان الإقامة. الاتجاه الآخر تجسده الولايات المتحدة حيث تُبنى الدولة على مساحة محددة وبسواعد حشد من العمال ينتمون إلى طيف متنوع من الجماعات" (ص 152). إن أمريكا من منظور حيدر جمال منطقة خالية أساسا من أي محتوى بشري، وبالتالي لديها قابلية لتمتلئ بأي محتوى منه. وثمة مثال ثالث يجمع بين تقديس المكان وتنزيه المحتوى ألا وهو الصين.
في فصل من الكتاب بعنوان "لماذا تعلو الأقاليم على الشعوب؟" يحاول المؤلف تحديد أي من الاتجاهين الرئيسيين سابقي الذكر ينطبق على روسيا، فيستنتج أن روسيا تنتسب إلى المناطق التي يمثل لها المكان فكرة رمزية وبأنها لا تهتم بالوافدين إليها. "إنها تعيش حياتها الخاصة وتحتضن من يفد إليها لاستخدامهم من أجل تحقيق فكرتها بنفسها" (ص15).
لم يهمل المؤلف موضوع الدين ففرد له فصلا خاصا جاء تحت عنوان "رجل الشارع وخرافة التقدم" ناقش فيه مسألة أزمة الوعي لدى الإنسان الحديث ورسم صورة جديدة للشارع الروسي المعاصر الذي يحتقر الاجتهاد الروحي ويرنو إلى الحياة الاستهلاكية ويعيش خوفا دائما من العقوبة ويعشق موسيقى البوب، وفوق ذلك لا يداخله الشك في أنه جزء لا يتجزأ من عجلة التقدم البشري. هذا هو الإنسان الذي لا تتعدى طموحاته حدود جسده، الذي بدوره لا يبتغي شيئا سوى الراحة اليومية. وبالمقارنة مع هذا الإنسان، وبعودتنا مائة سنة إلى الوراء سنجد أن الغالبية الساحقة من سكان المدن، ناهيك عن سكان الريف، كانوا ينضوون تحت عقيدتهم الدينية التي تعني فيما تعنيه الإيثار والتضحية والجاهزية لضبط النفس والبدن. وفي روسيا كانت المُثل الأخلاقية العليا شائعة في طبقة النبلاء وكان ثمة نموذج أخلاقي يحتذى به في صياغة العلاقات العامة والويل لمن يتجاوزه، حيث العار يقف بالمرصاد. ويرى جمال أن السبب الرئيسي لأزمة المواطن الحديث هذه في أنه "حتى الخالق أصبح مؤسسة اجتماعية، والطبيعة تحولت إلى مؤسسة اجتماعية" (ص 54).
وفي انتقاداته للمجتمع الحديث يتخذ الكاتب من اللغة مرجعا يتم من خلاله إحياء الفكر أو قتله. يقول في ذلك: "إن لغة المجتمع العالمي اليوم تتخلى شيئا فشيئا عن وظيفتها كأداة تفكير وتغدو وسيلة من وسائل الاتصال وحسب، ثم وسيلة لما بعد الاتصال، وفي المرحلة النهائية ستصبح اللغة مجموعة من الإشارات غير القادرة على إنتاج حديث متماسك إذ ستغيب فيه قيمة المحتوى" (ص 55).
في الختام يعتقد المحلل السياسي الروسي بوريس كاغارليتسكي الذي عرف حيدر جمال جيدا وكان صديقا له يعتقد أن تراث جمال الفكري تراث مثير للجدل، وبأن صاحبه شخصية برزت في الحياة الفكرية والاجتماعية الروسية. يكتب عنه قائلا: "لقد تبدلت أفكاره ووجهات نظره وتقلبت كثيرا إلى حد التناقض أحيانا. وكان يعبر عن آراء غامضة يختلط فيها اليمين باليسار. مع ذلك فقد فعل الكثير من أجل عملية تطوير حركة اليسار وشارك في إنشاء "جبهة اليسار"، والأهم أنه بذل جهدا في إعادة تفسير الإسلام ودور الدين في الحياة المعاصرة".
-----------------------------------------------------------
الكتاب: في الإيمان والسياسة.
المؤلف: حيدر جمال.
الناشر: دار بيتير للنشر، سانت بطرسبورغ 2017.
اللغة: الروسية.
عدد الصفحات: 400 صفحة.
*أكاديمية ومستعربة روسية
