رومانسية الاتحاد السوفيتي.. وطفولتنا الجميلة

Picture1.png

لفيودر رازاكوف

أحمد م الرحبي*

"الأفضلية للأطفال" – هذا واحد من أعتى شعارات الاتحاد السوفيتي وأعلاها شأوا في المحيط المجتمعي للدولة الغاربة. كانت الأقمشة واللافتات تزهو بهاتين الكلمتين وتتزين بها القاعات والساحات والأماكن العامة ومرافق رعاية الأطفال في البلاد قاطبة. كما تضمن هذا الشعار تقارير المسؤولين في الدولة وتصدر خطبهم وكان ركنا أساسيا في معاملة الأطفال داخل الأسر. "الطفولة السوفيتية السعيدة" - وهذه عبارة أخرى خرجت من رحم الدولة السوفيتية وتحولت إلى نوع من الكليشات لا يفقده الزمن أهميته وجاذبيته كما هو حاصل في روسيا الحديثة، حيث الحنين إلى الحياة السوفيتية يتكشف أحيانا كانكشاف نافذة على فردوس مفقود. فما هي سمات الطفولة السوفيتية السعيدة؟ للإجابة عن هذا السؤال قام الصحفي الروسي الشهير فيودر رازاكوف برصد مفصل لكل المراحل العمرية للفرد السوفيتي، منذ ازدياده في مستشفى الولادة وحتى انضمامه إلى الحزب الشيوعي. ومن هذا المنحى يقدم العمل نفسه كموسوعة للطفولة السوفيتية إذ جمع فيه المؤلف تفاصيل من الحياة المادية والأخلاقية والروحية للطفل السوفيتي، ومن خلال مطالعة الكتاب، سيتسنى للمتلقي تقييم حياة الطفل السوفيتي والاستنتاج إن كانت جميلة (كما يشير عنوان الكتاب) أم أنّها غير ذلك.

يفضي بنا المؤلف عبر كتابه إلى حقبة استثنائية من التاريخ الروسي الحديث ويغمرنا بذكريات عن الطفولة السوفيتية، أفراحها وأتراحها والتحديات التي واجهتها والإجراءات التي اتخذتها الدولة لجعل الطفولة ظاهرة اجتماعية خاصة، وهي ظاهرة انقضى أجلها بزوال الاتحاد السوفيتي. ومنذ سطوره الأولى يتخذ الكاتب موقفا حازما من التغير الجذري الذي طرأ على رعاية الطفولة في روسيا الراهنة، فيشير إلى الجوانب التي تعوز الدولة الحديثة لتوفير حماية لازمة وحقيقية للطفل لا سيما ما يتعلق بإقرار المعايير الأخلاقية الموجبة والضامنة لطفولة صحية. يقول في مقدمة الكتاب: "أكثر من عشرين عاما على سقوط الاتحاد السوفيتي ما انفك فيه الإعلام الليبرالي يصور النظام السوفيتي باعتباره جريمة كبرى في حق الإنسانية، معولا على كثافة الدعائية في التأثير على الوعي الجمعي للشعب. ولكن اتضح أن النتيجة جاءت عكس ذلك تماما. فاستنادا إلى استطلاعات للرأي أجريت في السنوات الأخيرة في روسيا ارتسمت أمام القوى الليبرالية هذه الصورة الكئيبة: إن أفضل حاكم روسي هو ليونيد بريجنيف (الزعيم السوفيتي بين أعوام 1964-1982). وتشير هذه النتيجة بوضوح إلى أنّ الشعب لا يرغب في نظام ليبرالي "تجديدي" ويفضل عليه النظام المحافظ، وأن الاتحاد السوفيتي السابق - رغم كل شيء - لا يثير أية مشاعر سلبية عند السواد الأعظم من الناس " (ص 6).

 ويشير المؤلف إلى مفارقة غريبة اكتنفت هذه الإحصاءات السوسيولوجية، فعلى الرغم من الفترة الزمنية التي تفصلنا عن الاتحاد السوفياتي (مرّ على زواله 26 عاما) وانخفاض أعداد الناس الذين يحتفظون بذكرى عن تلك الحقبة بسبب الوفاة، إلا أنّ الحنين إلى الزمن السوفيتي ما برح ينمو في المجتمع الروسي ويتأجج سنة تلو أخرى. ونجد أن نسبة الحالمين بعودة الزمن السوفيتي قبل عشر سنوات قد بلغ 29% فلماذا يحدث هذا؟ يتساءل الكاتب ومن ثم يصيغ إجابته على النحو التالي: ثمة فئة من الناس انضمت إلى صفوف المتحمسين لعودة الزمن الماضي، وهذه هي الفئة التي، وبعد أن ذاقت طعم المسرات الرأسمالية، فقدت الثقة بها وأصبحت تتذكر الماضي السوفيتي بحب واعتزاز. الفئة الثانية هي فئة الشباب الذين رأوا في الاتحاد السوفيتي، وبشكل مفاجئ، نفس الجنة التي رآها المراهقون السوفيت في سبعينيات القرن الماضي والتي تجسدت في الحلم الأمريكي. ويبدي الكاتب استغرابه ودهشته من قطاع الشباب الذين لم يعيشوا في الاتحاد السوفيتي قط إذ ولدوا بعد انهياره بيد أنهم يضمون بين جوانحهم حنينا إليه.

 يتجزأ الكتاب إلى أربعة وعشرين فصلا، يتضمن كل منها ظاهرة اجتماعية معينة من ظواهر الطفولة السوفيتية. ولم تكن خواطر المؤلف وذكرياته الشخصية بمنأى عن التوارد في صفحات الكتاب جنبا إلى جنب التعليقات التي جمعها الباحث من الإنترنت لشرائح مختلفة من رواد الشبكة العنكبوتية. وفيما يلي نخبة من عنواين الفصول التي تعبر عن مزاج الفترة السوفيتية: "مرحى للمدرسة"، "رياضة أطفالنا"، "اللعب"، "أدب الأطفال"، "شرائط فلمية"، "تلفزيون الأطفال" ، "ألذ بوضة في العالم" ، "مسرح الطفل"، "سينما طفولتنا"، "السيرك".

 حازت السينما السوفيتية للأطفال والشباب مساحة كبيرة من الكتاب، ولا غرو في ذلك، إذ تعد السينما واحدة من الوسائل الأكثر قدرة على توجيه المجتمع وبث الأفكار في أوصاله. وقد شهدت السينما السوفيتية الموجهة لفئة الأطفال طفرة كبيرة منذ السنوات الأولى لقيام النظام الاشتراكي حيث بلغ عدد الأفلام المنتجة في العام الواحد ثلاثين فيلما مختلفة الأنواع. وفي أواخر سنوات العهد السوفيتي تقلص العدد إلى أحد عشر فيلما مع جودة فنية وفكرية متدنية في معظم هذه الأفلام. وبهذا الصدد يقول الكاتب: "ثمة سبب مقنع لذلك إذ كانت البلاد تخطو سريعا نحو الانهيار الشامل، وفي مثل هذه الظروف لا يهتم أحد بسينما الأطفال والشباب. في ذلك الوقت كان الغد الرأسمالي "السعيد" بانتظار أطفالنا السوفيت حيث تتولى فيه هوليوود والانترنت كل الوظائف التعليمية وتحل محل الأفلام المحلية للأطفال، تلك الأفلام التي دمرها الديمقراطيون" (ص 270).

وفي هذا الفصل يُجري الكاتب تحليلا مقارنا للتحولات التي دمغت سينما الأطفال في الاتحاد السوفيتي في مراحله الأولى حين احتوت الأفلام مشاعر التفاؤل وحب الوطن، وفي مراحله المتأخرة حيث خفتت روح الوطنية في هذه السينما وتراجع دورها التعليمي واكتنفت مواضيعها الرمزية والتجريدية.

 في فصل "الحلويات السوفيتية" يتوقف المؤلف عند إنجازات الصناعة الغذائية المحلية التي عُرفت بمستوى انضباطها العالي وانتفائها من المواد المُصّنعة وغير الطبيعية. ويتطرّق الكاتب في هذا الفصل الشيق إلى ظاهرة الاندهاش بأي شيء غربي في الفترة المتأخرة من الاتحاد السوفيتي حيث بلغ مداها أحيانا إلى مستويات تفوق الخيال، وحيث استطاع المظهر الخارجي للمنتج الأجنبي أن يبلبل أدمغة المستهلكين السوفيت، بل وأكثر من ذلك إذ شهد الناس حوادث مأساوية جراء التدافع على اقتناء البضاعة الأجنبية كما حدث في واقعة العلكة؛ فلعقود طويلة مُنعت العلكة من الاستهلاك في الاتحاد السوفيتي، وصنفت كمنتج ضار صحيا وغير لائق سلوكيا. يقول الكاتب: "ظهرت عادة مضغ العلكة أول الأمر في خريف عام 1972 وذلك عقب أول مباريات للهوكي بين الاتحاد السوفياتي والمنتخب الكندي التي تم بثها مباشرة على التلفزة. كان العديد من لاعبي المنتخب الكندي يمضغون العلكة ما رسم صورة برّاقة لدى الشبيبة السوفيت. وفي وقت لاحق دفعت مباريات الهوكي مع الكنديين الحكومة السوفيتية إلى الرضوخ لإنتاج العلكة فكانت البداية، ولكنها بداية مأساوية. لقد انضم إلى طاقم المنتخب الكندي ممثلون عن شركات صناعة العلكة حيث قاموا بمنح كل لاعب من لاعبي المنتخب خمسة عشر كيلو غراما من العلكة للترويج لها، وأدرج يوم توزيع العلكة مجانا ضمن برنامج إقامة المنتخب (...) كان ذلك حدثا كبيرا للمراهقين السوفيت لما كان للعلكة نفسها من تصور غريب ومغر، فهرعوا إلى مكان الفعالية هروع الحمام على الخبز المنثور، وانبرى الكنديون لتصوير الحدث لاستخدامه (فيما يبدو) للدعاية ضد الاتحاد السوفيتي (...) أما نتيجة الفعالية فكانت مروعة حيث توفي جراء التدافع واحد وعشرون شخصا من بينهم ثلاثة عشر دون عمر ستة عشر عاما" (ص 211-215).

يفرد المؤلف مساحة من كتابه لعمل اللجان العامة والمؤسسات الاجتماعية للأطفال التي كانت متوفرة في العهد السوفيتي، مشيرا إلى فعاليتها لتوحيد الطلبة وإرشادهم ليس فقط من منطلق أيديولوجي محض وإنما لدفعهم إلى عمل مفيد اجتماعيا وتجنيبهم العطالة الفكرية وما ينتج عنها من شرور أخلاقية. وقد انتظمت أنشطة الأطفال والشبيبة السوفيتية في منظمة كشفية يديرها المعلمون والتلامذة وتتبلور أعمالها في سلسلة أنشطة ومسابقات تقام خلال العام الدراسي وفي الإجازات أيضا؛ حيث انتشرت المخيمات الصيفية للطلبة. ومن الأعمال التي زاولها التلاميذ في المخيمات: بناء بيوت الأغذية للطيور وتنظيف الساحات وجمع المواد القابلة لإعادة التدوير، أما الإنجازات الكبرى التي سجلتها كشافة الاتحاد السوفيتي يذكر منها جمع آلاف الأطنان من الخردة المعدنية لبناء خط أنابيب النفط "الصداقة" وزراعة نحو مائة مليون شجرة في مختلف أرجاء البلاد. كما حظيت المخيمات الصيفية باهتمام بالغ من قبل الدولة وأنيطت بها أدوار محورية لتنشئة الأطفال فكانت بمثابة مؤسسات صحية وتعليمية متكاملة. وتشير الأرقام إلى الشعبية الكبيرة لهذه المخيمات حيث بلغ عددها أربعين ألفا في عهد الرئيس السوفيتي ليونيد برجنيف وكان يستخدمها سنويا أكثر من تسعة ملايين طفل.

 وفي سبيل المقارنة بين الماضي والحاضر يعرض الباحث نخبة من آراء وذكريات مواطنين عاديين يشدهم الحنين إلى الماضي السوفيتي وما انطوى عليه من عدالة اجتماعية راسخة لم تعد موجودة (برأيهم) في الوقت الراهن. يقول أحدهم: " لقد بُني هذا المخيم في مصنع سيفاستوبول البحري. وكان بإمكان أي طفل أن يلتحق به سواء كان طفلا لمدير شركة أو لعامل نظافة والبقاء فيه طيلة العطلة الصيفية إذا رغب في ذلك، أما التكلفة فكانت تقريبا مجانية. كان الأطفال يتوافدون إلى المخيم من المدن الأخرى. بعد انهيار الاتحاد السوفيتي قام بعض النافذين بإعلان إفلاس المصنع، وذلك من أجل الاستحواذ على مرافقه الترفيهية المطلة على الشاطئ الجنوبي من شبه جزيرة القرم، والتي كان يستخدمها المصنع لترفيه عماله وأسرهم ومن بينها هذا المخيم. لقد نجح النسور في تحقيق غايتهم وأفلسوا المخيم واستولوا على ملكيته. الآن تبلغ تكلفة الاستجمام للطفل الواحد ألفا وخمسمائة يورو (...) وهذا ما يسمونه اقتصاد السوق" (ص 76-77).

 لا يقل بؤسا مصير أكبر مخيم للأطفال في الاتحاد السوفياتي: مخيم "آرتيك" الذي كان أكثر رواده أطفال أجانب. يقول الكاتب في هذا الصدد: "بعد انهيار الاتحاد السوفياتي فقد "آرتيك" مجده السابق. بادئ ذي بدء رفضوا المكون الإيديولوجي في التعليم وأحلوا مكانه ما يعرف بالوظيفة التواصلية. ومع الانخفاض في المستوى المهني لمستشاري المخيم، انخفض تدريجيا المستوى العام في العمل التربوي. اليوم يقتصر دور المرشد والمربي في كثير من الأحيان على الأنشطة الترفيهية لا غير. (ص 86).

 وفيما يتعلق بوضع الرياضة في الاتحاد السوفيتي ومقارنتها بروسيا الجديدة يرسم المؤلف صورة واقعية تستند إلى عدد الإنجازات العالمية التي تحققت في العهد السابق وما يقابلها من إنجازات الحاضر. يقول عن ذلك: "بفضل اهتمام الدولة بالشباب والرياضة كان الهوكي السوفيتي هو الأقوى في العالم. اليوم تضعضعت هذه القوة وهو ما يبدو على نتائج لاعبينا في الساحة الدولية. ففي السنوات الثلاثة والعشرين الماضية التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفيتي أحرزنا أربع ميداليات ذهبية في بطولة العالم للهوكي لا غير. أما في دورة الألعاب الأولمبية الشتوية فلا نزال من دون أي ميدالية وذلك منذ العام 1992 (...) وفي آذار/ مارس من عام 2014 كان فشل آخر ينتظرنا في هذه اللعبة، وذلك ضمن الألعاب الأولمبية المنزلية في مدينة سوتشي (الروسية). حينها قال أحد المدربين المشهورين: "علينا أن نتعامل مع ما يحدث بدءا من المدارس الرياضية للأطفال. فللأسف لا يتم الاختيار فيها على أساس المواهب وإنما على مقدرة الأسرة على الدفع. أولئك الأطفال يلعبون اليوم في فريقنا، وهذه هي النتيجة التي نحصل عليها" (ص 127).

 ختاما يتجاوز هذا الكتاب التغني بالماضي التليد وإحصاء إنجازاته فتتوارد على صفحاته موجة من الانتقادات اللاذعة للمجتمع الروسي الحديث، ويدعو - بصريح العبارة - إلى إعادة التفكير المعمق في مسألة تربية الأجيال والرؤية للمستقبل، كما يؤكد على أهمية الحفاظ على الجانب الإيجابي من التركة السوفيتية العتيدة وعدم إهدارها مقابل حزمة من الأوهام.
------------------------------------------------------------------------

الكتاب. رومانسية الاتحاد السوفيتي.. طفولتنا الجميلة.

المؤلف: فيودر رازاكوف.

الناشر: ألغوريتم، موسكو 2017.

اللغة: الروسية.

عدد الصفحات: 352 صفحة.

كاتب عماني

 

 

 

أخبار ذات صلة