الذات والآخر من منطق اللاهوت المسيحي

عاطفة المسكرية

يتمحور اللاهوت حول الدراسة أو "الكلام عن الله" في الأديان عامة، وفي أحد النصوص التي جاءت بعنوان "اللاهوت المسيحي في ضوء الإسلام" لطوبيا سبيكر نشرته مجلة التفاهم، تمَّ تسليط الضوء فيه على اللاهوت المسيحي والتركيز على قضايا المعرفة والتواصل والجانب المرتبط بالنظرة للآخر (المختلف عنا). تنقسم النظرة للآخر المُختلف إلى ثلاثة أقسام رئيسية في أطر عقائدية بحتة. أولاً قد تكون هذه النظرة هي نظرة تجاهل وعدم اعتراف بالاختلاف حيث إن "الآخر" المعني هنا لابد أنه امتداد طبيعي لنا جميعًا، كيف يكون ذلك؟ مثلاً عبر الاعتقاد بأنَّ الأصول الحقيقية للمسيح واليهود تعود لنا نحن المسلمين فكيفما كان الآخر مختلفاً لابد من نقطة التقاء تجمعنا. ومن هذا المنطلق يتم تجاهل اختلاف الآخر عنَّا. ثانيًا قد تكون هذه النظرة هي نظرة الاعتقاد بإدراك الآخر أكثر من إدراكه لنفسه حتى، وهنا يحصل الحوار المتعالي بين الأطراف حيث يحاول كل طرف إيضاح مكامن الضعف في الطرف الآخر واليقين بأنَّ الآخر مختلف عنَّا بسبب كذا وكذا ولابد من تذكيره باختلافه هذا، بجانب وجود ضرورة لتصحيح هذه الاختلافات. ثالثا وأخيرا تتمحور النظرة للآخر حول مقارنته بالذات حيث لا صلة بينهما تبقى الذات في هذا السياق منفصلة عن الآخر على غرار الأطر السابقة التي تعيد الآخر للذات بسبب نقاط الالتقاء المُشتركة أو التي تحاول تصحيح نقاط الاختلاف.

تعدينا مسألة الذات والآخر لجدل الهوية الذي أشار إليه الكاتب على أنه سبب النزاعات الرئيسية في القرن الواحد والعشرين نافيًا أن تكون الآيديولوجيات سبباً رئيسياً لذلك. وأعتقد أنَّ الخوض في مسألة الهوية قد يتخذ مسارات متشعبة. فالفيصل بين هذه المسارات هو عن المستوى الذي تقرر الخوض فيه. عندما نتحدث عن الهوية فهل نعني بذلك تمايز الفرد عمَّن سواه بصفات محددة؟ يعد هذا المستوى الأكثر عمقاً لأنَّ البشر بطبيعة الحال مختلفون وإن كبر التشابه بينهم. يظل الفرد خلقا إلهيا لم ولن يتكرر على مدى الزمان. أما إذا قررنا الانتقال للمرحلة التي تليها وخضنا في المسألة من منطلق تمايز واختلاف جماعة ما تجمعهم نقاط مشتركة كثيرة تسهم في جعلهم يواجهون الخارج كوحدة متصلة، فتعبر هوية مجموعة ما غالبًا ما يميزها عن الآخر. ويشعر الأفراد بالانتماء المعنوي داخلياً والذي قد ينعكس على الخارج أيضاً من خلال اللبس والعادات الثقافية المتبعة من قبل مجموعة في سياق هوية محددة، ناهيك عن الشعارات الثقافية/ الفكرية أو حتى الدينية التي يروجون لها. من الجدير بالذكر في هذا السياق أن الدين يعد أحد أهم مكونات الهوية، بغض النظر عمَّا إذا كان متبعا إحدى الديانات السماوية أو كونه لا دينيا أو متبعا لإحدى العقائد أو الآيدولوجيات الحديثة. إلى هنا تبدو الأمور سلسة وفطرة يتحتم علينا قبولها كجزء من الطبيعة البشرية.

تبدأ المشاكل بالبزوغ وفقاً للكاتب عندما تظهر علامات "الجموح الهوياتي" والتي تشير إلى محاولة إجبار الآخر على التبرمج على معطيات الهوية وتقبلها بل وأن يصبح جزءا غير مختلف عنها. نلاحظ دائماً أن المشكلة لا تكمن في وجود الاختلافات سواء أكانت عقائدية، أو أيدولوجية، أو عرقية .. إلخ ولكن تبدأ المشاكل بالبزوغ بين الاختلافات هذه عندما يحاول فرد أو مجموعة فرض عقيدته مثلاً على أفراد أو مجموعات أخرى، أو عندما تحاول مجموعة ما إقصاء الآخر بسبب اختلافه أو النظر إليه بنظرة استعلاء. إن التعدد حقيقة وواقع لا مفر منه. ويبقى الرهان على العقائد والإيديولوجيات ومدى تقبلها للتعدد. ولكن من الإنصاف ذكر أن بعض الآيدولوجيات أيا كانت تدعو إلى تقبل الآخر على اعتباره جزءا مكملا ولكن التابعين لها ينحرفون عن هذه الدعوة بالفرض والترهيب، ولنا في المنظمات الإرهابية التي تدعي وتقر أنها عقائدية بحتة مثال في ذلك.

لا يمكن أن تستطيع الذات العيش بمنأى عن الصراعات وهي تركز على الآخر والكيفية التي يؤثر فيها الآخر على خياراته في العيش وفرصه في الحياة. ومن جانب آخر لابد من معرفة أن مسألة الاعتراف المطلق بالآخر كذلك مستحيلة فنحن لا ننطلق هنا من المدينة الفاضلة التي يعيش فيها الأبطال المثاليون! ويشير الكاتب هنا إلى أن الاعتراف المطلق بالآخر يعد شيئًا من التشكيك بالذات، وهذا ما لا يمكن فرضه على الأديان تحديدا. لابد من الوصول إلى نقطة الاتزان في المنتصف؛ فعوضا عن التركيز على الآخر المختلف، من المفترض أن تلجأ الذات لنقد ذاتها أولا دون إساءة أو استنقاص للمعتقد. وتعد الشفافية مطلبًا حتى يتم الاعتراف بأوجه القصور والنقص والخطأ في بعض الأحيان في سبيل إيجاد حل منطقي لهذه المسائل. وإن وجدت أوجه القصور هذه فذلك لا يعني التوجه إلى الآخر ومحاولة إيجاد أو خلق الثغرات. وبالعودة إلى تقسيمات النظر نحو الآخر، قد يكون التجاهل المبني على فكرة أنَّ الآخر هو مجرد امتداد لنا صالحا إلى حد ما في سياقات تقبل الآخر بطبيعته ومعتقداته حيث إن الاختلاف هنا لا يشير إلى ضرورة التنازع، وبالتالي يقود ذلك كافة الأطراف إلى تقبل الحقيقة دون محاولة تغييرها من فرض آيدولوجية أو عقيدة معينة. من ناحية أخرى تُؤثر الكيفية التي ننتقد بها الآخر على المسألة برمتها، فمن وجهة نظر شخصية قد يكون السبيل الوحيد لجعل الطرف الآخر قادرا على تقبل النقد هو نقد الذات نقدا حقيقياً أولاً ومن ثم السماح للطرف الثاني بنقدنا على أن يكون النقد من الطرفين هدفه البناء لا الاستنقاص، وبعدها من الممكن أن نتجه إلى طرح سياقات التعاون وما شابه. لكن الواقع اليوم مع الأسف يبتعد عن هذا السيناريو، ونجد كافة الأطراف مُختلة التوازن حيث إنِّه من المُهم أن نذكر كذلك أن الوصول لنقطة الاتزان هذه – من تقبل الآخر ونقد الذات والسماح للطرف الثاني بانتقادنا – ليس بتلك السهولة ولكنه مربط الفرس في نهاية الأمر.

 

 

أخبار ذات صلة