«الرد والدليل في نصرة الدين الذليل»

ليهودا اللاوي

فوزي البدوي *

هذا كتاب جديدٌ، يصدر عن مركز جورن جولدشتاين الدولي لدراسة الفكر اليهودي، المنضوي تحت جامعة بن جريون في النقب، في السلسلة الموسومة بمكتبة الفكر اليهودي، بإشراف البروفيسور حاييم كرايسل، وهو نصٌّ في غاية الأهمية، يجب أن يهتم به العرب والمسلمون؛ ليس فقط لأنه جزء من تراثهم اليهودي الأندلسي الذي كتب بالعربية، ولكن لأنه يكشف عن وجه من وجوه العلاقة التي قامت بين العرب واليهود والمسيحيين في شبه الجزيرة الإيبيرية في مجال الجدل الديني. وبالرغم من أن النص معروف منذ مدة طويلة ككثير من النصوص التراثية، إلا أن الترجمة التي قام بها مايكل شفارتز تجعل منه نصا جديدا؛ فهو إذن ليس بكتاب قديم يعاد نشره، ولا بطبعة حديثة لإصدار قديم، بل هو كتاب جديد لمن يعرف أهمية هذا الكتاب بالنسبة للعلاقات الإسلامية اليهودية، وهو ما سنبينه في هذا المقال.

وقد قدم له البروفيسور دانيال لاسكر -وهو من الباحثين الإسرائيليين المعاصرين، الذين تخصصوا بمسائل الجدل اليهودي-المسيحي في جامعة ابن جوريون في صحراء النقب، وعضو جمعية الدراسات اليهودية العربية- وقد انصب اهتمامه على الجدل اليهودي الداخلي بين اليهود الربانيين والقرائين، وبين اليهود والمسيحيين في الفضاء الإسلامي، ومسائل الجدل الإسلامي اليهودي عموما.

أما البروفيسور مايكل شفارتز، فهو أستاذ الفلسفة الإسلامية الذي اشتهر بترجمته لكتاب الربي ابن ميمون "الأندلس دلالة الحائرين" إلى اللغة العبرية، وقد نشره إلى العربية التركي المحقق حسين أتاي عن كلية الإلهيات بأنقرة.

و"الخزري" كتاب ألفه من عرفه العرب باسم أبي الحسن اللاوي، وهو كتاب كنا بصدد الإعداد لنشره مُعرَّبا، أو منقولا إلى الخط العربي، اعتمادا على النص الذي حققه حجاي بن شماي، ولكن سبقنا إلى ذلك الباحث منير بشير اعتمادا على هذه الطبعة، وقد كتب عنها البروفيسور حسيب شحادة من جامعة هلسنكي تقييما فليرجع إليه، فعدلنا عن ذلك بعد أن قضينا فيه سنين عددا.

وكتاب "الرد والدليل في نصرة الدين الذليل"، المعروف اختصارا بـ"الكتاب الخزري"، هو من كلاسيكيات الفلسفة اليهودية الوسيطة، نسبة إلى حوار بين حبر يهودي وكبير مملكة الخزر المعروفة تاريخيا بانتساب جزء من اليهود إليها، حينما سأله قائلا: سئلت عما عندي من الاحتجاج على مخالفينا وأهل الأديان، ثم على الخوارج الذين يخالفون الجمهور، تذكرت ما قد سمعته من حجج الحبر الذي كان عند ملك الخزر الداخل في دين اليهود منذ أربعمائة سنة على ما شهد، وجاء في كتاب التواريخ أنه تكرر عليه رؤيا كان ملاكا يخاطبه، ويقول له إن نيتك مرضية عند الله، لكن عملك غير مرضٍ، وكان يجتهد جدا في التعبد في دين الخزر، حتى إنه كان يخدم خدمة الهيكل والقرابين بنفسه بنية صافية خالصة. فكلما اجتهد في تلك الأعمال جاء الملاك في الليل يقول له نيتك مرضية وعملك غير مرضٍ، فسبب له ذلك البحث عن الأديان والنحل وتهود آخراً هو وجمهور الخزر. وكان من حجج الحبر ما أقنعني وطابق اعتقادي فرأيت أن أثبت ذلك الاحتجاج كما وقع והמשכילים יבינו (والفاهمون يفهمون).

والحقيقة أن قصة تهود ملك الخزر كانت معروفة بين يهود الأندلس من خلال المراسلات بين حسداي بن شبروط طبيب عبد الرحمان الناصر بملك الخزر، ذلك أنه عندما علم حسداي بوجود مملكة يهودية مستقلة، حرص على مراسلة بلاطها للتواصل معهم، بعد أن علم بوجودهم من سفيري ملك الصقالبة إلى بلاط قرطبة. وأرسل حسداي معهم رسالة إلى ملك الخزر يصف فيها موقع الأندلس وعلاقاتها الخارجية، وسأله أن يمده بالمعلومات حول الخزر وأصولهم وسياساتهم وقدراتهم العسكرية، وغير ذلك. غير أن بعض المؤرخين مثل يتسحاق باير شككوا في الرسالة، وقالوا بأنها كتبت في القرن السادس عشر وأنها ليست من أعمال ابن شبروط". وإن اعتبر شفارتز أنها ذات أصول حقيقية وذهب مذهبا مغايرا لمذهب هذه المؤرخ في كتابه عن تاريخ اليهود في إسبانيا المسيحية.

والكتاب يشتمل على مقدمة وخمسة مقالات، عرض فيها موقف كل من المسيحي، ثم العالم المسلم، ثم الحبر اليهودي الذي اعتقدت الأبحاث اللاحقة أنه الحبر يوسف سنغري، وقدم عليهم جميعا في الترتيب قول الفيلسوف في مواضيع عديدة منها الخلق والصفات، ومنها مثلا قول الفيلسوف هو صفتي الرضا والبغض: "ليس عند الله رضا ولا بغض. لأنه تعالى منزه عن الإرادات والأغراض. لأن الغرض يدل على نقصان المغرض. وأن تمام غرضه كمال له، ومهما لم يتم فهو نقصان. وكذلك هو منزه عند الفلاسفة عن علم الجزئيات. لأنها متغيرة مع الأحيان. وليس في علم الله تغير فهو لا يدريك، فضلا عن أن يدري نيتك وأعمالك، فضلا عن أن يسمع صلاتك ويرى حركاتك. نعم وإن قالت الفلاسفة أنه خلقك فعلى المجاز، لأنه علة العلل في خلقة كل مخلوق لا لأنه مقصود من قبله". ومن الواضح كما يقول حسيب شحادة في مقال له عن الترجمة العربية "أن الهدف الأساسي للمؤلف الشاعر والطبيب، الحبر أبي الحسن اللاوي، هو الرد على الديانتين السماويتين الأخريين، المسيحية والإسلام من جهة، وعلى القرائين، الخوارج الذين كتبوا عادة مؤلفاتِهم بالعربية وبحروف عربية من جهة ثانية".

 وما يهمنا في هذا العرض النقدي ليس متن الكتاب في الحقيقة، فهو معروف، ويمكن العثور في مظان كثيرة على تفاصيله، وإنما يهمنا أهمية هذه الترجمة الجديدة، مقارنة بالترجمات العبرية المعروفة السابقة عليه، والتي نعتقد أنها قد بلغت بهذا النص شأوا بعيدا يجعلها بدون منازع أفضل طبعة أكاديمية يمكن التعويل عليها بالنسبة إلى طلاب الدراسات الإسلامية اليهودية وجمهور المتخصصين، فهذا النص الذي فرغ من ترجمته وتحقيقه الدكتور شفارتز قبل وفاته سنة 2011، وقدم له دانيال لاسكر بمقدمة فريدة تمكننا من فرصة جيدة لمناقشة الترجمات السابقة وفرصة للوقوف على فرادة الترجمة الأخيرة.

كانت أول ترجمة عبرية لهذا الأثر المهم قد قام بها يهودا بن طبون شيخ المترجمين اليهود في القرون الوسطي، وهو من عرف بهذا الأثر الأندلسي بين يهود أوروبا في القرن الثاني عشر للميلاد ونقل المناخ الفكري اليهودي الأندلسي بالعربية إلى اللغة العبرية، التي ظلت قيد الاستعمال في الممالك المسيحية. وقد كان لوقع الدفاع عن اليهودية والذود عن فكرة الشعب المختار وحب صهيون الذي تغنى به أبو الحسن اللاوي في كثير من أشعاره التي جهلها المسلمون في أيامه لقلة معرفتهم باللغة العبرية، إضافة لسيرة حياة اللاوي نفسه وما روي من أسطورة استشهاده على أبواب القدس ما جعل لهذه الترجمة الأولى مكانا متميزا جعلها تبقى لقرون طويلة معتمد الأوساط اليهودية المشتغلة بتاريخ اليهودية في القرون الوسطى شرحا وتعليقا.

ومع ازدهار الدراسات اليهودية في القرن التاسع بفعل مدرسة علم اليهودية باسم "علم اليهودي" Wissenschaft des Judentums  أو الدراسة العلمية لليهودية وهو ما عرف بالعبرية آنذاك باسم "حوخمات يسرائيل " أو حكمة إسرائيل، التي ظهرت بين مثقفي اليهود ونخبهم المتنورة بين سنتي 1810 و1820 من القرن التاسع عشر، وفصلوا أهدافهم فيما كتبوه في المجلة التي اتخذوها لسان حالهم وهي "مجلة علم اليهودية" الصادرة سنة 1822، وقد آلت جماعة مدرسة "علم اليهودية" على نفسها الرجوع للتراث اليهودي لغة وأدبا وفلسفة لتتولاه بالدرس والتمحيص والنقد، وكان لهذا الرجوع أياد بيضاء على الدراسات الإسلامية في جزء منها، لما كان من صلات بين التاريخ اليهودي الوسيط والإسلام حتى إن الكثير من زعماء هذا التيار كانوا رؤوس الاستشراق الحديث ورعاته. وهكذا بدأ الاهتمام بنص الخزري فنشر النص الأصلي نشرا أكاديميا من قبل هارتفيغ هيرشفالد (1854-1934) اعتمادا على مخطوط مكتبة البودليان البريطانية وكان باللغة العبربية أو بـ"العربية اليهودية" التي أشرنا اليها آنفا مع نص ابن طبون وأصلحها حتى توافق النص العبربي مع بعض التغيير في نص ابن طبون العبري وترك كل المواضع الإشكالية التي عسر عليه فهمها كما هي دون تغيير.

وقد لقيت طبعة هيرشفالد لترجمة ابن طبون صدى كبيرا حينما استعملها أفراهام زيفروني واتخذها أساسا لطبعته هو للخزري وقد اعتمدت الكثير من الطبعات المعاصرة طبعة زيفروني بأن اعتمدتها دون غيرها وقد أشار الباحث الفلسطيني السخنينى نبيل بشير إليها في الطبعة العربية للكتاب.

ولكن ما لبثت أن غطت طبعة الباحثين دافيد صبي بنعاط وحجاي بن شماي على طبعة هيرشفالد ومثلما يقول دانيال لاسكر: "فإن نص ابن طبون هو ترجمة جيدة بالرغم من بعض الهنات فهو يتبه فيها منهجه المعروف القائم على الحفاظ على الترتيب النحوي للجملة وترتيب الكلمات كما ورد في الأصل العربي ما أمكن ذلك بل ويترجم أحيانا الكلمة العربية بما يرادفها في اللغة العبرية وهي من هذه الزاوية أفضل من الأصل المحفوظ في اللغة العبربية التي نسخت في دمشق منذ أكثر من 300 سنة بعد صدور النص الأصلي، ويمكن القول إن الطلاب المحترفين والمتخصصين في الفلسفة اليهودية الوسيطة، أو ذوي الصلة الوثيقة بالعبرية الوسيطة، سيجدون أن هذه الترجمة قد حققت أهدافها بأن جعلت هذا النص متوفرا بالنسبة إلى من لا يتقن العربية"، ولكن لاسكر ينبه إلى "أنها تضل طبعة غير معتمدة على أفضل المخطوطات المتوفرة لهذه الترجمة وهي ليست أفضل مما يقدم اليوم للتعريف بأهمية فكر أبي الحسن اللاوي".

وهكذا.. ظهرت ترجمة د. يهودا بن شموئيل سنة 1973 محتوية على مقدمة وتميزت بأنها طبعة مشكولة، إضافة لاحتوائها على شروح قصيرة وفهارس وقد اشتهرت كما يقول دانيال لاسكر: "بوضوح لغتها العبرية وسهولة مأخذها حتى تقبلها جمهور قراء العبرية الحديثة بالرضا، غير أن عيبها هو أنها نشرت في كتاب الجيب، مع تقييدات مختصرة، فحققت لا محالة مبيعات جيدة، وظلت عمدة الطلاب والباحثين والأكاديميين ردحا من الزمن"، لولا عدم دقة الترجمة في كثير من المواضع، وميله إلى التهوين من آراء أبي الحسن اللاوي "حول ما يعتبره فرادة الشعب اليهودي وخصوصيته؛ ولذلك ترجم الكلمة الواحدة بأكثر من كيفية في أحيان كثيرة مما جعل من الصعب -كما يقول لاسكر- على قارئ النص فهم وإدراك هذه العبارات التي فوتت على المتخصصين الانتباه إلى خصوصية السياق الإسلامي الذي كتبت فيه".

ثم ظهرت طبعة عميد المحققين الإسرائيليين يوسف كافح سنة 1977، وهو المتخصص في تاريخ النصوص اليهودية في الحقبة الإسلامية المعروفة بالعصر الذهبي في الأوساط اليهودية، بعد أن تحرج من نشرها إكراما لزميله قبل أن يرتد ليشنع بها في نهاية المطاف، وكانت خاصية طبعته تقوم على ما درج عليه في كل أعماله تقريبا من مقابلة النصين العربي والعبري، جنبا إلى جنب في صفحة مزدوجة أي فيما يمكن تسميته بالطبعة الإزائية Synoptique على غرار ما عرف في بعض طبعات الأناجيل وتتفق أراء الكثير من المتخصصين بشهادة لاسكر بأن "هذه الطبعة لم تكن في مستوى ترجمات كافح لنصوص أخرى بالرغم من أنه بدأ في ترجمة نص الخزري عندما كان طالبا في يشيفا مركاز هاراف (1947-1948)، تحت إشراف الربي دافيد كوهين (1887-1972) فكانت ترجمته للخزري من كبواته في هذا المجال الذي برع فيه".

وكانت قد ظهرت من قبل طبعة أخرى للخزري تبدو وضعها الربي يتسحاق شايلاط سنة 1946، عرف في الأوساط البحثية بتمكنه من نصوص اليهودية في العصر الوسيط وحاول فيها قدر الإمكان السير على خطى ابن طبون حذو القذة بالقذة مع نفس إيماني ودعوي لافت قعد بها أن تكون طبعة أكاديمية بحسب المدققين.

ثم ظهرت أخيرا ترجمة د. مايكل شفارتز الأخيرة مستلهمة نفس خطه التحقيقي الذي بدأه مع دلالة الحائرين لابن ميمون القرطبي فجمع كما يقول لاسكر طرفين قلما ظفر بهما محقق ومترجم؛ هما: المقروئية والدقة مع فسح المجال للمعجم الجديد الذي عرفته اللعة العبرية الحديثة، كما عمل على إبراز الكلمات التي تظهر في اللغتين العبرية والعبربية في ذات الوقت من خلال استعمال البنط العريض حتى يعلم القارئ أن هذا من عمل يهودا اللاوي وليس من عمل الباحث شفارتز".

وقد أفلحت هذه الترجمة الجديدة بشهادة المتخصصين في تدارك عثرات من سبقها من الترجمات ووفقت في بيان شدة ارتباط نص الخزري بالسياق العربي الإسلامي من جهة المفاهيم والتصورات وقد بين شفارتز اعتراضاته على سابقيه وهناتهم وحاول تدارك هذه النقائص بأن وضع فهرسا للمفاهيم العربية كثيرة التردد وبين السياق الذي استعملت فيه في كل مرة مع شرح هذه المفاهيم في معجم خاص ذيل به الكتاب مع صبر خاص ولافت على الإحالات البيليوغرافية في كل مرة رأى من المفيد أن يزود بها القارئ. وكانت فعلا عظيمة الفائدة ناهزت أكثر من ثلاثين صفحة. ومثلما قال دانيال لاسكر وآخرون عن حق في عبارات جميلة: "لقد كنت أعتقد زمن صدور عمله عن دلالة الحائرين عن جامعة تل أبيب سنة 1997، أنه بالرغم من أفضليته فإنه قد يصعب أن يجد لنفسه مكانا بين الترجمات العبرية الأخرى بسبب مناخ الريبة عند القراء اليهود من الكتابات الجامعية والإحالات غير اليهودية ولكن شفارتز كذب تكهناتي وصار أفضلها على الإطلاق، وكذلك هذه الترجمة للكتاب الخزري، فهي تستحق حقا أن تعتبر أفضل ترجمة عبرية حتى اليوم، ولا يمكن الاستغناء عنها بتاتا".

... إن هذا النص مهم جدا للدارسين العرب، وهو يكشف عن مرحلة مهمة من تاريخهم الأندلسي قلما اهتموا بها، وقد آن الأوان أن يبذلوا الجهد والوقت ليسهموا في التعريف بهذا الذي يشكل جزءا من تاريخهم، تحقيقا ودرسا وترجمة، لعلهم بذلك يكفرون عن بعض تقصير عبَّر عنه ابن حزم الأندلسي بكثير من المرارة في رسالته في الرد على ابن النغريلة اليهودي.

-----------------

- الكتاب: "الرد والدليل في نصرة الدين الذليل".

- المؤلف: يهودا اللاوي (أبو الحسن اللاوي).

- ترجمة: مايكل شفارتز.

- الناشر: منشورات جامعة بن جوريون بالنقب بئر السبع، أبريل 2017.

 

 

* أستاذ الدراسات اليهودية بجامعة منوبة تونس

أخبار ذات صلة