لباسكال لامي ونيكول جنيسوتو
محمد الحداد
"إلى أين يتجه العالم؟".. هذا سؤال يطرحه حاليا الجميع، من النخبة أو من عامة الناس، والإجابة عنه تأتي في الغالب مُتشائمة، حتى في البلدان الغنية والمتقدمة. من هنا، كانت المراهنة على جواب إيجابي ومتفائل أمرا مثيرا يجلب الانتباه، هذه على الأقل المراهنة التي أقدم عليها باسكال لامي المدير العام السابق لمنظمة التجارة العالمية. إن تسييره لهذه المؤسسة المحورية في الاقتصاد العالمي المعولم، فضلا عن خبرته السابقة؛ باعتباره أحد المفوضين في إدارة الاتحاد الأوروبي، تجعله في موقع خاص ومتميز لتقديم وجهة نظر غير مألوفة بل معارضة للشعور السائد؛ استنادا لأرقام ومعطيات كثيرة تزخر بها مساهمته في هذا الكتاب.
ويزعم باسكال لامي أننا لو وضعنا أمامنا الخارطة التي تصدرها سنويًّا منظمة التجارة العالمية لبيان نسبة اندماج بلدان العالم في العولمة، وقارناها بالخارطة التي تصدرها سنويا مفوضية شؤون اللاجئين التابعة لمنظمة الأمم المتحدة، وهي ترسم مناطق العالم المشمولة بموجات الهجرة المكثفة لأسباب اقتصادية أو مناخية أو أمنية، لرأينا تقاطعا واضحا بين المناطق الأقل اندماجا في العولمة والمناطق الأكثر تعرضا للهجرات الجماعية. يستنتج لامي من هذه المقارنة أن العولمة ليست المشكل، بل غيابها هو الذي يحدث المشاكل التي تبعث فينا اليوم الشعور بالخوف من المستقبل والتشاؤم حول وضع العالم ووجهته.
ويعزر لامي رأيه بالعودة لملابسات نشأة العالم الحالي، أو النظام الدولي الجديد، كما أطلق عليه مع نهاية الحرب الباردة بين العملاقين سابقا. فيذكر أن مآل تلك الحرب لم تحسم بالسياسة، ولم تسقط المنظومة الاشتراكية لأسباب سياسية، وإنما حسمت بالاقتصاد، فلم ينجح الاقتصاد الاشتراكي في مواجهة اقتصاد السوق، وخرج العالم من رعب المواجهة النووية المدمرة بفضل هذا النجاح الاقتصادي. وعليه، فإن عالم اليوم ينبغي أن يراهن مجددا على اقتصاد السوق والتجارة الدولية لإحلال السلام والأمن. إن المنافسة الاقتصادية إذا حصلت في إطار العولمة لا تؤدي للمواجهة مهما كانت ضراوتها، هكذا يؤكد لامي بقوة، مواصلا النظرية التي نشرها فلاسفة الأنوار واقتصاديو السوق منذ القرن الثامن عشر، واختزلتها العبارة المشهورة لمونتسكيو "حيثما حلت التجارة تراجعت الحروب". في رأيه، لا توجد اليوم أية إمكانية لقيام صراع خطير بين الولايات المتحدة والصين رغم المنافسة الاقتصادية الضارية بينهما؛ لأنهما متكاملان اقتصاديا؛ حيث تستفيد الصين من الثراء الأمريكي لغزو الأسواق ببضائعها وبيع منتوجاتها، بما يعمق العجز التجاري للولايات المتحدة، ويدفع إلى إفلاس العديد من مؤسساتها الصناعية، لكنها بالمقابل تودع سنويا في المصارف الأمريكية عشرات المليارات من الدولارات المترتبة على نجاحها الاقتصادي، بما يمثل موردا ماليا ضخما للولايات المتحدة يسمح لها بالتعويض عن العجز الاقتصادي، وفرض عملتها وسياستها المالية على الصين، وعلى العالم كله. على العكس، يمكن أن تندلع يوما ما مواجهة بين الولايات المتحدة وروسيا، والسبب في ذلك أن روسيا بلد ضعيف الاندماج في الاقتصاد العالمي المعولم، أو مع بلدان أخرى أقل منها اندماجا في هذا الاقتصاد، مثل كوريا الشمالية أو إيران. فكلما كانت المصالح الاقتصادية قوية ومتشابكة خفت إمكانات الصراع وقويت نسبة الأمن والاستقرار. والحل لما يبدو اليوم فوضى في النظام العالمي يتمثل، من وجهة نظر المدير العام السابق لمنظمة التجارة العالمية، في توسيع مجال التجارة واقتصاد السوق والعولمة الاقتصادية.
وبالمثل، يتجه لامي إلى الاحتجاج، مستندا لكم هائل من الأرقام والمعطيات الاقتصادية، إلى أن المناطق الأكثر اندماجا في العولمة والتجارة الحرة لم تغنم في مستوى الأمن والاستقرار فحسب، وإنما كسبت الرهان أيضا في مجال محاربة الفقر. تثبت الأرقام والإحصاءات أن أكثر من 700 مليون شخص خرجوا من الفقر أثناء الفترة الممتدة بين 1990 و2010، أي تلك التي يشار إليها عادة بالعولمة، وأن موازين القوى العالمية خلال هذه الفترة أصبحت أكثر تكافؤا مما كانت عليه في عهد الحرب الباردة، فقد ارتقت العديد من البلدان المصنفة سابقا ضمن العالم الثالث إلى مصاف القوى الاقتصادية التي يحسب لها ألف حساب؛ مثل: الصين والبرازيل وبلدان أخرى. وبفضل ازدهار هذه البلدان، تنامت الطبقة الوسطى في العالم فشملت 1.8 مليار شخص سنة 2009، وسترتفع إلى 3.2 مليار شخص سنة 2020، لتصل إلى 4.9 مليار شخص سنة 2030. فعلى عكس ما يقال عادة، لا يترتب على الوضع الحالي ضمور الطبقة الوسطى بل تصاعدها، وإن تراجعت هذه الطبقة في المناطق ضعيفة الاندماج في العولمة. ويمثل تنامي هذه الطبقة في آسيا وأمريكا الجنوبية فرصة ثمينة لاقتصاديات العالم كله. على سبيل المثال، أصبح الصينيون اليوم يسافرون للسياحة في كل بلدان العالم، وقد أنفقوا سنة 2010 أكثر من 50 مليار دولار في البلدان التي استقبلتهم، وتضاعف مبلغ هذا الإنفاق أكثر من أربعة مرات بعد ذلك، فبلغ سنة 2015 أكثر من 220 مليار دولار. إنه رقم هائل تستفيد منه الصناعات السياحية في البلدان التي فهمت تطورات العالم ووفرت لنفسها سبل الاستفادة منه.
وإذا كان الأمر بهذا الشكل، فلماذا يشعر الناس حيئنئذ بالتشاؤم والخوف عندما يطرح عليهم سؤال: إلى أين يتجه العالم؟
قد نستخرج من تحاليل بسكال لامي في هذا الكتاب عدة إجابات عن هذا السؤال. أولها: أن تراجع الفقر في العالم تزامن مع تنامي التفاوت الاجتماعي بين الطبقات "الشعبية" والطبقات الأكثر ثراء؛ بما جعل الشعور بالتفاوت يتغلب على الشعور بأهمية الخروج من الفقر. وثانيها: أن العولمة تجعل كل مشاكل العالم معروضة على أنظار الجميع، فتطغى الأوضاع السيئة على وعي الناس أكثر مما تبرز الأوضاع المتحسنة والمتطورة، فالرأي العام لن يهتم بعشرات ملايين الأشخاص العاديين الذين يعولون أسرا عادية بقدر اهتمامه ببضعة آلاف من اللاجئين أو المعدمين أو المتشردين الذين تنقل وسائل الإعلام يوميا صورا عن مأساتهم. وثالثها: أن مناطق العالم تتفاوت في الاستفادة من النظام الحالي، والآسيويون أكثر تفاؤلا لأنهم الأكثر استفادة، بينما المناطق الأكثر تشاؤما هي الأقل استفادة، وهي أساسا روسيا والشرق الأوسط وإفريقيا جنوب الصحراء. ورابعها: غياب حكامة سياسية للعولمة، ويقترح في هذا المجال التخلص من وهم إنشاء مؤسسات عالمية لتوفير هذه الحكامة، والمراهنة على مبادرات تقدم عليها مجموعة من الدول في قضية معينة ثم تتسع لدول أخرى إلى أن تشمل العدد الأكبر من دول العالم، كما حصل مع الاتفاق العالمي حول المناخ الذي قادته فرنسا.
يُمكن توجيه نقديْن رئيسييْن إلى هذا التحليل الذي يقدمه لامي. أولا: إن مسألة التفاوت والحيف التي يعترف الجميع بحدتها اليوم ستواصل الارتفاع؛ لأن النظام الحالي لا يوفر من ذاته سبل معالجتها، فالدعوات إلى تشجيع سياسات تضامنية وتكافلية تظل مجرد أماني طيبة؛ لأن السؤال الأساسي يتعلق بتحديد الجهة التي ستتولى عملية التعديل وتوفر التمويلات المناسبة لذلك. لا يوجد في المستوى العالمي هيئات مكلفة بالقيام بهكذا تعديل، وبما أن التجارة حرة فلا يمكن إعادة ترتيب مخرجاتها لتخفيف الضغط على الأقل استفادة منها. أما الدول الوطنية التي كانت تمارس هذا الدور في السابق فقد تقلصت قدراتها حاليا، لأن جزءا من مواردها المالية قد سحب منها نتيجة سياسات الخصخصة وتدويل رؤوس الأموال ودفع الضرائب خارج البلدان الأصلية، فضلا عن مظاهر أخرى أكثر خطورة استشرت في الفترة الأخيرة، مثل الملاذات الضريبية وتفوق الاقتصاد المالي على الاقتصاد الانتاجي وتفوق إيرادات الوراثة على إيرادات العمل بسبب المضاربة، فلم تعد الدول قادرة على توفير المساعدات الاجتماعية والصحية ودعم المواد الأساسية للمحتاجين، وغالبا ما تضطر إلى التخفيض من مكاسب العمال والتغطية الصحية ومبالغ التقاعد حتى في البلدان الأكثر ثراء. ثانيا: إن المناطق التي أشار إلى كونها الأقل اندماجا في العولمة هي المناطق التي تضم أكبر مخزون عالمي في الطاقة؛ فإذا كان جزء من ضعف اندماجها يجد تفسيرا له في اعتمادها المفرط على تصدير الطاقة دون تطوير مجالات اقتصادية أخرى، فهل يمكن التغافل عن جانب آخر مهم في المسألة، وهو وضع الطاقة في نظام التجارة العالمية، وهل ينبغي أن تعتبر مجرد بضاعة للتبادل أم هي ثروة وطنية يمتلكها أصحابها؟ وعليه، أفلا تكون الحرب الخفية حول الطاقة سببا في المشاكل الاقتصادية للمناطق التي يشير إليها من جهة، وسببا أيضا لعدم الاستقرار في هذه المناطق التي تخضع باستمرار للابتزاز قصد توفير الطاقة بأرخص الأسعار؟
لقد جاء الكتاب في شكل محاورة بين باسكال لامي ونيكول غنيسوتو الباحثة المتخصصة في الدراسات الأمنية، رئيسة مجلس أمناء المعهد الأوروبي للدراسات العليا في الدفاع. بالنسبة إليها، لا يمكن تحليل وضع العالم من وجهة نظر اقتصادية بحتة، كما يفعل لامي، بل العامل السياسي في رأيها هو العامل المرجح. وهي تعرض في هذا الكتاب وجهة النظر الأكثر انتشارا بين القراء، أي وجهة النظر المتشائمة حول وجهة العالم ومستقبله. فهي تشير إلى أن مبيعات الأسلحة ما فتئت ترتفع في السنوات الأخيرة لتبلغ حاليا مبلغا شبه خيالي (1600 مليار دولار)، ولم تعد توجد دولة عظمى قادرة على ضبط الأوضاع والتدخل الحاسم عند الأزمات. ومع أن الولايات المتحدة تظل البلد الأقوى في العالم ويساوي إنفاقها على الأسلحة نصف الإنفاق العالمي ونملك 800 قاعدة عسكرية موزعة على كل القارات، فإنها لم تعد قادرة ولا راغبة في لعب دور شرطي العالم. أما المؤسسات الدولية فهي وريثة الحرب العالمية الثانية، ولم تعد تعكس موازين القوى في العالم؛ وبالتالي لم تعد قادرة على التحكم فيه وتعديل مساراته أو مجرد التخفيف من أزماته. فالمؤسسات المالية الدولية يسيطر عليها الأمريكان والأوروبيون رغم أن مركز الاقتصاد العالمي أصبح في آسيا، ومجلس الأمن الدولي لا يتسع لقوى صاعدة ومهمة مثل الهند أو البرازيل. لا يوجد حينئذ نظام سياسي عالمي واضح المعالم يمكن أن يوجه العولمة الاقتصادية، ولا يمكن التسليم بالنظرية التي تقول بأن اقتصاد السوق سيفرز في العالم كله أنظمة ديمقراطية، فالصين قوة اقتصادية كبرى دون أن تكون ديمقراطية، ونظام التسيير "البوتيني" (نسبة إلى الرئيس الروسي) المتميز بالحزم والفردانية يغري بلدانا كثيرة في العالم.
وانطلاقا من هاتين الرؤيتين المتعارضتين يستعرض كل من باسكال لامي ونيكول غنيسوتو الوضع في المناطق الأهم في العالم (الولايات المتحدة، أوروبا، الصين، الهند، روسيا، اليابان، أمريكا اللاتينية، إفريقيا والشرق الأوسط) والرهانات الأكثر تحديدا لمستقبله (اللاجؤون، الطاقة والتغيرات المناخية، الإرهاب، الأمن السيبرني، المحيطات، الحكامة، الأمن والديمقراطية). لا يتسع المجال هنا لعرض النقاشات الثرية بين المتحاورين في كل هذه المسائل، من منطلقين مختلفين يعلي أحدهما شأن السياسة والثاني شأن الاقتصاد، لكن نشير على سبيل المثال إلى بعضها. في ميدان الطاقة، ثمة شبه اتفاق على أن منطقة الشرق الأوسط وروسيا ستظل المخزون الرئيس للطاقة في العالم على مدى العقود القادمة، وتحتوي روسيا وإيران وقطر وحدها على نصف المخزون العالمي من الغاز، ويحتوي الشرق الأوسط على 70 بالمائة من مخزون النفط، أما الطاقات البديلة فتتمثل حاليا في الغاز الصخري (غاز الشيست) الذي وعد الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب بتشجيع استخراجه إلى أن يمكن الولايات المتحدة من تحقيق الاكتفاء الذاتي في الطاقة سنة 2020، لكن هذه الطاقة مكلفة في مستوى البيئة وقد تؤدي إلى أضرار مناخية جسيمة. ثمة أيضا إمكانية اكتشاف كميات مهمة من النفط في القطب الشمالي تقدر بـ13 بالمئة من الموارد العالمية، لكن استغلالها مرتبط أيضا بتراجع الكتلة الثلجية التي تحدث تقدما للمحيطات والبحار يترتب عليه اندثار المدن الساحلية. فرغم كل ما يقال، سيظل الشرق الأوسط منطقة استراتيجية في مجال الطاقة لفترة طويلة قادمة، وسيظل نفطه أساسيا في تحريك الاقتصاد العالمي، فحتى لو استطاعت الولايات المتحدة تخفيض حاجتها إليه، فإن الصين التي تمثل قاطرة الاقتصاد العالمي حاليا سيتزايد طلبها عليه، وبالمثل ستظل أوروبا بحاجة إلى الغاز الروسي رغم علاقاتها المعقدة مع نظام بوتين.
موضوع آخر تقاربت حوله وجهات نظر المتحاورين؛ هو: نهاية الهيمنة الغربية على العالم، وضرورة الاستفادة اليوم من كل التجارب الثقافية والحضارية والبحث عن حكمة عالمية مشتركة لإدارة عالم متصدع، فالعامل الثقافي أصبح مهما وينافس العاملين السياسي والاقتصادي، والعديد من الدعوات الانفصالية مثلا أو المشاكل الدولية العالقة لا يمكن فهمها إلا بالعودة إلى خلفياتها الثقافية. فالتقارب والحوار بين الثقافات جزء ضروري من الجهد العالمي لتخفيف الاحتقان وتوجيه الطاقات لما فيه خير الجميع. لكن ذلك لن يمنع بروز أشكال جديدة في الصراع مستقبلا. منها مثلا الصراع على السيطرة على المحيطات والجزر الصغيرة، فهذا الشكل الجديد الذي نرى ملامحه اليوم في الصراع بين الصين واليابان يعود إلى أهمية المحيطات والجزر مستقبلا في تحديد المياه الإقليمية للدول وبالتالي توسيع مجال هيمنتها على الطرق التجارية او استغلال مصادر الطاقة في المحيطات، لكنها تؤجج أيضا صراعات ثقافية قديمة مثل ما يحصل بين الصين واليابان.
وسواء دارت الصراعات حول الطاقة، كما في الشرق الأوسط، أو حول الجزر والمحيطات، كما في شرق آسيا، أو لاعتبارات أخرى كثيرة ومتنوعة، فإن العالم يشهد تشظيا واضحا ووضعا غير مسبوق في مستوى إدارة الصراعات، يتعارض مع مسار توحيد وتنميط الاقتصاد ليكون معولما وخاضعا لقواعد غير قابلة للنقاش. ولعل من أهم مقترحات المدير السابق لمنظمة التجارة العالمية مفهوم (polylatéralisme) أي مبادرة مجموعات من الدول لطرح حلول لمجموعات من المشاكل والعمل تدريجيا على إقناع الدول الأخرى بها؛ باعتبارها آلية بديلة عن حلول فردية لم تعد مجدية ومؤسسات دولية لم تعد قادرة. إن التحليل المتفائل الذي يقدمه شخص ذو خبرة مرموقة في العمل الدولي ينشط على الأقل النزعة نحو المبادرة والتجديد، بدل الشلل الذي يصيب الفكر والحركة سبب الخوف من المستقبل. فهذا بعض ما يغنمه القارئ في الكتاب.
----------------------
الكتاب: "إلى أين يتجه العالم؟".
- المؤلف: باسكال لامي ونيكول غنيسوتو.
- الناشر: باريس، منشورات أوديل جاكوب، 2017، باللغة الفرنسية.
