«أعداء وجيران: العرب واليهود في فلسطين وإسرائيل»

0.jpg

 لإيان بلاك

محمد السماك

في ذكرى مرور مائة عام على صدور وعد آرثر بلفور (وزير خارجية بريطانيا في ذلك الوقت)، بمنح فلسطين وطناً قومياً لليهود، صدرت مقالات ودراسات في بريطانيا وفي العالم العربي حول خلفيات ذلك الوعد التاريخي، الذي قلب الحياة في الشرق الأوسط رأساً على عقب. ولكن الكتاب الجديد حول هذا الموضوع الذي صدر عن الصحفي البريطاني إيان بلاك مسؤول قسم الشرق الأوسط في صحيفة "الجارديان"، يلقي الضوء على الصورة الخلفية للوعد الذي أبدت رئيس الحكومة تيريزا ماي اعتزازها به.

فالوعد الذي يتألف من 67 كلمة فقط، زجَّ بالمنطقة كلها، وليس فلسطين وحدها في أزمة لا يبدو أن ثمة خلاصاً منها في المستقبل المنظور.. يعترف المؤلف في كتابه بأنه رغم كل خلفيات الحركة الصهيونية ونشاطاتها في القرن التاسع عشر، فإن الثاني من نوفمبر 1917 يشكل البداية الحقيقية الأولى لقيام إسرائيل.

ويعترف المؤلف أيضاً بأن هذا الوعد كان ثمرة عوامل عديدة: المخططات الاستعمارية، والدعاية الحربية، والمؤثرات التوراتية والتعاطف مع الحركة الصهيونية على أنها حركة إنقاذ لليهود من الاضطهاد الذي كانوا يتعرضون له في العديد من الدول الأوروبية.

ويقول المؤلف إنه في الوقت الذي ينظر فيه الإسرائيليون اليوم إلى وعد بلفور على أنه الوعد الذي أدى لولادة الدولة، فإن الفلسطينيين ينظرون إليه على أنه تجسيد للخيانة العظمى التي لا يزالون يدفعون ثمنها حتى اليوم.

ولاحظ المؤلف أن الوعد في صياغته أبدى حرصاً والتزاماً بعدم مسِّ الحقوق المدنية والدينية للجماعات غير اليهودية في فلسطين. ويقف المؤلف طويلاً أمام عبارة الجماعات غير الدينية، ليشير إلى أن هذا النص كان متعمداً لتجنب استخدام عبارة الشعب الفلسطيني الذي كان في ذلك الوقت يشكل –كما يقول المؤلف نفسه- 90 بالمائة من السكان. أما لماذا تجنّب اللورد بلفور ذكر الفلسطينيين بالاسم؛ فذلك لأن الوعد قام على أساس أن فلسطين هي أرض بلا شعب. فكيف يسمي الشعب الذي كان يعيش على هذه الأرض؟ ولأنها أرض بلا شعب، فإن منحها لشعب بلا أرض له ما يبرره، خاصة وأن هذا الشعب يتعرض للاضطهاد في كل أرض (سوى الأرض العربية والإسلامية).

ولكن في العام 1952، نشرت وزارة الخارجية البريطانية وثائق سرّية عن فترة 1919-1939، بما فيها تلك التي تتعلق بتوطين اليهود في فلسطين.. ويتضمن المجلد الرابع من المجموعة الأولى، في الصفحة السابعة نقلاً عن مذكرة وضعها آرثر بلفور في عام 1917 ما يأتي: "ليس في نيّتنا حتى مراعاة مشاعر سكان فلسطين الحاليين، مع أن اللجنة الأمريكية تحاول استقصاءها. إن القوى الأربع الكبرى ملتزمة بالصهيونية. وسواء أكانت الصهيونية على حق أم على باطل، جيدة أم سيئة، فإنها متأصلة الجذور في التقاليد القديمة العهد والحاجات الحالية وآمال المستقبل، وهي ذات أهمية تفوق بكثير رغبات وميول السبعمائة ألف عربي الذين يسكنون الآن هذه الأرض القديمة". أما بالنسبة للاستيطان اليهودي في فلسطين، فقد أوصى في الجزء الأخير من هذه المذكرة بما يلي: "اذا كان للصهيونية أن تؤثر على المشكلة اليهودية في العالم، فينبغي أن تكون فلسطين متاحة لأكبر عدد من المهاجرين اليهود. لذا؛ فإن من المرغوب فيه أن تكون لها السيادة على القوة المائية التي تخصّها بشكل طبيعي؛ سواء كان ذلك عن طريق توسيع حدودها شمالاً (أي باتجاه لبنان) أو عن طريق عقد معاهدة مع سورية الواقعة تحت الانتداب (الفرنسي)، والتي لا تعتبر المياه المتدفقة من "الهامون" جنوباً ذات قيمة بالنسبة لها. وللسبب ذاته يجب أن تمتد فلسطين لتشمل الأراضي الواقعة شرقي نهر الأردن".

ولماذا قررت بريطانيا منح الحركة الصهيونية الأرض الفلسطينية، فتلك قصة أخرى:  في العام 1916 كادت ألمانيا أن تسجل انتصارات عسكرية على جبهات الدول الأوروبية كافة. فالجيش الروسي بدأ ينسحب من المعركة مخلفاً وراءه عشرات الألوف من القتلى. أما الفرنسيون، فقد استسلموا بعد أن فقدوا في معركتي "ميوز" و"صم" أكثر من 700 ألف قتيل. أما بريطانيا، فقد فقدت معظم أسطولها البحري، وانعزلت عن العالم ولم يبق أمامها سوى أحد أمرين، إما قبول شروط ألمانيا لوقف القتال أو تغيير المعادلة العسكرية بشكل جذري عن طريق تغيير موقف الولايات المتحدة الأمريكية بزجّها في الحرب. لم تكن شروط ألمانيا المتفوقة مقبولة في لندن. ولم يكن زجّ الولايات المتحدة في الحرب ممكناً. ثم إنه لم يبق في بريطانيا من المواد الغذائية ما يكفي سوى أسابيع قليلة.

وخلال هذه الفترة الحرجة، قدم يهودي إيراني يدعى جيمس مالكوم عرضاً باسم المنظمة الصهيونية إلى مارك سايكس أحد نواب وزير الحربية البريطاني.

حمل العرض تواقيع حاييم وايزمن الصهيوني البولوني، وناحوم سوكولوف الصهيوني الروسي وصموئيل لاندمان الصهيوني البريطاني، بالإضافة إلى جيمس مالكوم نفسه.

وبموجب هذا العرض، تعهدت المنظمة الصهيونية العالمية بحمل الولايات المتحدة الأمريكية على الدخول في الحرب ضد ألمانيا، مقابل الحصول على وعد من بريطانيا بإنشاء وطن قومي يهودي في فلسطين.

وللتأكد من قدرة المنظمة الصهيونية على أداء هذا الدور المهم، قام وزير الخارجية جيمس بلفور في مايو من عام 1916 بزيارة رسمية إلى الولايات المتحدة (وكندا). هناك فوجئ بلفور بقدرة المفاتيح اليهودية على فتح أبواب البيت الأبيض والكونغرس أمامه. وتعرف لأول مرة على فعالية الإعلام الذي تسيطر عليه الحركة الصهيونية ومدى تأثيره في عملية صناعة القرار الأمريكي.

عاد بلفور من زيارته مطمئناً إلى أن المنظمة الصهيونية قادرة على الالتزام بما تعهدت به. وبناء على ذلك وافق مجلس الدفاع البريطاني على العرض / الصفقة. وفي 16 أبريل 1917، أعلن الرئيس الأمريكي ويلسون دخول أمريكا الحرب بحجة أن ألمانيا أغرقت سفينة شحن أمريكية في بحر المانش تدعى "ساسكس".

قلب اشتراك أمريكا بالحرب الوضع في أوروبا رأساً على عقب.. فانهزمت ألمانيا بعد انتصار، وأصدر بلفور وعده المشؤوم.

والسؤال الآن هو: كيف أقنعت المنظمة الصهيونية الرئيس الأمريكي بدخول حرب لا علاقة لبلاده بأي شأن من شؤونها؟ الجواب ببساطة هو أنه في العام 1912 كانت الولايات المتحدة الأمريكية تخوض انتخابات رئاسة الجمهورية. وكان وودرو ولسون مرشح الحزب الجمهوري ضعيفاً جداً، لدرجة أنه كان فاقداً كل أمل بالنجاح، وكان الحزب الديمقراطي مسيطراً على الوضع سيطرة تامة. هنا تدخلت المنظمة الصهيونية، وتعهدت لولسون بتأمين فوزه إذا ما تعهد هو بدوره بتأييد مطالبها بإعلان الحرب على ألمانيا، وتمت الصفقة. وبموجبها، استطاع الصناعي الصهيوني برنارد باروك أن يشق الحزب الديمقراطي إلى حزبين، شعار أحدهما الوعل والثور، وشعار الثاني الحمار.. وبذلك فقد الديمقراطيون بانقسامهم سيطرتهم على الموقف فخسروا معركة الانتخابات، وفاز ولسون بتفوق.

بدل دخول الولايات المتحدة الحرب موازين القوى، فبدأ التراجع الألماني حتى خسرت ألمانيا الحرب، وربحت الصهيونية العالمية وعد بلفور.

ولكن إضافة إلى هذا السبب السياسي-العسكري الأساسي، كانت هناك أسباب أخرى:

ففي الأساس كانت بريطانيا قلقة من جراء هجرة يهود روسيا وأوروبة الشرقية الذين كانوا يتعرضون للاضطهاد. وفي العام 1902، تشكلت "اللجنة الملكية لهجرة الغرباء". استدعي هرتزل إلى لندن للإدلاء بشهادته أمام اللجنة، فقدم مطالعة قال فيها: "لا شيء يحلّ المشكلة التي دعيت اللجنة لبحثها وتقديم الرأي بشأنها سوى تحويل تيار الهجرة الذي سيستمر بقوة متزايدة من أوروبا الشرقية. إن يهود أوروبا الشرقية لا يستطيعون أن يبقوا حيث هم فأين يذهبون؟ إذا كنتم ترون أن بقاءهم هنا -أي في بريطانيا- غير مرغوب فيه، فلا بد من إيجاد مكان آخر يهاجرون إليه دون أن تثير هجرتهم المشاكل التي تواجههم هنا. لن تبرز هذه المشاكل إذا وجد وطن لهم يتم الاعتراف به قانونياً وطناً يهودياً".

اقترح تشرمبرلين  -وكان رئيساً للحكومة- منطقة العريش لتكون وطناً لليهود. ولكن لجنة الخبراء الصهيونيين رفضت الاقتراح لأن العريش تفتقر إلى المياه، ثم لأن توطين اليهود فيها يثير مشاكل لبريطانيا مع مصر. ثم اقترحت الحكومة البريطانية برئاسة اللورد آرثر بلفور هذه المرة، تقديم يوغندا لتكون الوطن الموعود. ولكن المؤتمر الصهيوني السادس لم يقبل الاقتراح لافتقار يوغندا إلى عنصر الجاذبية اللازم لاستقطاب اليهود ولحثّهم على الهجرة إليها.

في ذلك الوقت كان همّ الحكومة البريطانية وقف تدفق اليهود من أوروبا الشرقية. لذلك؛ قدمت مشروع قانون إلى مجلس العموم لوقف الهجرة في العام 1904، ثم اضطرت لسحبه تحت ضغط المعارضة. وأعادت تقديمه ثانية في عام 1905 وأصبح قانوناً في العام التالي.

هنا.. كان لا بدّ بعد تشريع وقف الهجرة من تأمين ملجأ بديل، فكان قرار بلفور بمنح فلسطين وطناً لليهود. كان لويد جورج رئيساً للحكومة وآرثر بلفور وزيراً للخارجية عندما وضع التشريع التوطيني، كانت بريطانيا تعتبر احتلال فلسطين ضرورة إستراتيجية، إلا أن طموحها الاحتلالي كان يصطدم بمبادئ الرئيس الأمريكي ودرور ولسون، حول حق الشعوب في تقرير مصيرها. فجاء وعد بلفور بمثابة عملية التفافية على هذه لمبادئ، وذلك باحتلال فلسطين من خلال توطين اليهود. وهكذا صدر الوعد في الثاني من نوفمبر 1917 ليعطي من لا يملك ما لا يستحق.

كان بإمكان بريطانيا التدخل لمنع تهجير اليهود من أوروبة الشرقية، إلا أنها وجدت أن لها مصلحة في توظيف هذه العملية في برنامج توسعها في الشرق الأوسط، فحوّلت قوافل المهاجرين إلى فلسطين بعد أن منحتهم الوعد بالوطن وبعد أن وفرت لهم الحماية والمساعدة اللازمتين.

لا تتوقف دراسة المؤلف إيان بلاك حول وعد بلفور وخلفياته فقط، لكنها تواكب المراحل التي مرّت بها إسرائيل منذ بدء العمل في تنفيذ الوعد حتى ذكراه المئوية، بما في ذلك الحروب العربية-الإسرائيلية وتداعياتها، بدءاً بالنكبة الكبرى (1948م)، ومبادرات الأمم المتحدة وتعثراتها، وانتهاء بمشروع الدولتين الذي لا يبدو أن ثمة ما يدعو للأمل في أن يبصر النور.

ويعزو المؤلف رأيه إلى أن حكومة بنيامين نتنياهو الحالية هي أكثر حكومات إسرائيل منذ عام 1948 حتى اليوم تطرفاً وتشدداً. فالتوسع الاستيطاني في الضفة الغربية والتوسع التهويدي في القدس، لا يتركان أي مجال للاعتقاد باحتمال قيام دولة فلسطينية.

وفي العام 1947، عندما وقعت الحرب العربية-الإسرائيلية الأولى، هجّر الإسرائيليون 700 ألف فلسطيني من أرضهم. ويزيد عدد هؤلاء اليوم على خمسة ملايين. وخلافاً لقرارات الأمم المتحدة فإن إسرائيل تحرمهم من حقّ العودة.

وفي العام 1967، شنت إسرائيل حرباً توسعية شملت كل الضفة الغربية بما فيها القدس وصحراء سيناء حتى قناة السويس، ومرتفعات الجولان السورية بما فيها جبل الشيخ المطل على دمشق. ويقول المؤلف إن شمعون بيريز -الذي أصبح رئيساً لإسرائيل فيما بعد- اقترح يومها تهديم الجدار التاريخي العثماني حول القدس القديمة.

ولا يرى المؤلف من هذا التوسع الإسرائيلي سوى أنه يشكل خطراً على الديمقراطية الإسرائيلية، لأن إسرائيل لا تستطيع -وهي ترفض- منح الفلسطينيين (مسلمين ومسيحيين) حقوقاً مساوية للحقوق التي يتمتع بها اليهود في إسرائيل.

ومن خلال ذلك، يتحدث المؤلف عن الانتفاضتين الكبيرتين للشعب الفلسطيني تحت الاحتلال: انتفاضة 1987 وانتفاضة 2000. ويقول إن إسرائيل خمدت الانتفاضتين بالقوة العسكرية.. وإنها كانت "أبعد ما تكون عن اللطف"(؟).

ويعترف المؤلف أيضاً أنه في منتصف الثمانينات من القرن الماضي (1980) تعرّض ما لا يقلّ عن عشرة بالمائة من سكان الأرض المحتلة إلى الاعتقال والمساءلة.. وأن كثيراً منهم حوكموا أو سجنوا. ومع ذلك، يتوقف المؤلف إيان بلاك باهتمام أمام رمزية الاسم الذي أطلقه الفلسطينيون على العملية الفدائية التي قاموا بها في عام 1972 ضد الفريق الرياضي الإسرائيلي في ميونيخ في ألمانيا. وكان الاسم هو: "عملية ايكريت وبيرام". وهما اسمان لقريتين فلسطينيتين سكانهما من المسيحيين احتلتهما إسرائيل في العام 1948.

ويروي المؤلف أن اريال شارون -وزير الدفاع السابق- شكل فرقاً من العملاء السريين بوصفهم من المقاومين للاحتلال الإسرائيلي في غزة. وكانت مهمة هؤلاء الكشف عن مجموعات الفدائيين الحقيقيين؛ حتى تتولى طائرات الهليكوبتر العسكرية مطاردتهم وتصفيتهم من الجوّ.

ومع ذلك، لم يجد شارون بُداً من الانسحاب من غزة وتصفية المستوطنات اليهودية فيها. ويخلص المؤلف إلى القول في الفصل الأخير من كتابه إلى أن مشروع الدولتين (إسرائيل وفلسطين) لا يزال مجرد مشروع.. ويعترف بأن هذا المشروع لن يبصر النور، طالما أن في إسرائيل حكومة يمينية متطرفة كتلك التي يترأسها نتنياهو.

----------------------------

- الكتاب: "أعداء وجيران: العرب واليهود في فلسطين وإسرائيل (1917-2017).

- المؤلف: إيان بلاك.

- الناشر: "أتلانتيك مونثلي برس"، 2017م.

عدد الصفحات: 608 صفحات.

أخبار ذات صلة