«ولا بد لليل أن ينجلي»

فاطمة بنت ناصر

يأخذنا الكاتب محمد الشيخ في تجوال مُثْرٍ عبر الزمن؛ حيث يتناول في مقاله -المنشور بمجلة "التفاهم"- "القيم الدينية والقيم العقلانية في عصر الأنوار الأوروبي"، موضوعاً غاية في الأهمية، خاصةً إذا ما قاربناه بواقعنا العربي اليوم.

فبالعودة لنهاية القرن السابع عشر، الذي شهد انتصارَ الأنواريين أو المحدثين على القدماء المحافظين، نجد أن هذا الانتصار قد أتى بعد مواجهات كبيرة بين أنصار التيارين. فالقدماء المحافظين الذين يمثلون السلطة الكنسية حاربوا الأنواريين، وانتقدوهم نقداً لاذعاً، وواجهوهم بشتى الوسائل، وكذلك الأنواريون نقدوا وسخروا من القدماء المحافظين وكل من يعادي الأنوار.

قيم الأنوار و"الخروج من ظلمة الليل الطويل"

دعونا قبل الشروع في استعراض قيم المعادين للأنوار، نستعرض أهم قيمهم ومبادئهم التي تمت معاداتهم بسببها. إن عصر سيطرة الكنيسة على الشعوب الأوروبية كان بمثابة عصر ساد فيه الظلام؛ حيث كانت الشعوب تتبع ضوء قنديل الكنسية الوحيد الذي احتكرته لتستطيع السيطرة على الجموع. ونجد أن من ثاروا ضد هذا العصر كانوا يمجدون قيما رئيسية ثلاثا: الكونية، والعقلانية، والفردانية.

قيم معاداة الأنوار

كما أن للأنواريين مدارس متعددة، فللمعادين لها مذاهب مختلفة أيضاً.. وأبرز معارضي الأنواريين هم المتدينون، وينقسمون في معارضتهم معهم إلى قسمين:

1- الفرنسيون من أتباع الطائفة الجنسينيين، واليسوعيون الكاثوليك (عداؤهم شبه مطلق للأنواريين).

قام هؤلاء بمحاربة الفكر التنويري بالقول والفعل. فقد كانوا يصفونهم بأقذع الصفات، ويصفون كتابات الأنواريين بأنها كتابات "مارقة" . فحاربوهم من على منابرهم وعلى لسان أكبر رؤوسهم، فالبابا بنفسه قام بإدانه كتبهم. وأبرز هذه الكتب المغضوب عليها: كتاب المفكر الفرنسي مونتسكيو "روح الشرائع"، وكتاب العالم الفرنسي بوفون "روح الشرائع"، وكتاب الفيلسوف المادي الفرنسي هلفسيوس "في الروح"...وغيرها الكثير. التشكيك وتكفير المفكرين ونعتهم بأنهم يتبعون دين الطبيعة وليس الدين المسيحي هي من سمات خطاب هذه الفئة، وهذا النوع من القذف جعل المفكر مونتسكيو صاحب كتاب "روح الشرائع" يكتب كتاباً آخر ينفي فيه اتهامات الكنسية، ويعلن فيه احترامه للدين وقيمه، وأنه ليس ضدها.

2- الألمانيون من أتباع الطائفة اللاهوتية البرتستانت (عداؤهم غير مطلق، ويدعون إلى تطبيق التنوير في اللاهوت، أو ما يسمونه باللاهوت المتنور). هذه الفئة لم ترفض مبادئ التنويريين، بل رأوا فيها ضرورة وسعوا في التوفيق بينها وبين الدين الذي هو بأمس الحاجه للتطوير وعدم الوقوف في حقب الماضي.

 

القيم المتعارضة في مواجهة بعضها

- أولاً: الكونية المطلقة في مواجهة النسبية المسورة

تقول أبرز المقولات في معارضة كونية القيم وهي للمفكر هردر: "لا توجد لحظتان في العالم متماثلتين"، و"لا إنسان يشبه الآخر. وبالمثل: لا بلد ولا شعب ولا تاريخ وطني ولا دولة يشبهون غيرهم"؛ وبالتالي فإن القيم لمناهضي التنوير لا يمكن أن تكون كونية؛ فالعقل الذي صاغها هو عقل أوروبي مختلف من حيث النشأة عن العقول الأخرى التي تسكن العالم. كما أنهم يقفون ضد كونية القيم، بإشهار سلاح آخر هو الترويج لفكرة "القومية" ووحدة "الأمة"، التي ترى في فكرة الكونية وتوحيد قيم الشعوب تهديداً لوحدة الأمة، ومدخلاً من مداخل تفتيتها. أما الكونية، فتسعى لخير الإنسانية جمعاء؛ حيث لا تمييز يسبِّبه دين أو عرق.

- ثانيا: الفردانية كمهدد لترابط المجتمع

يمجد أعداء التنوير فكرة تبعية المجتمع لسلطة عليا؛ سواء كانت سلطة الدولة أو سلطة دينية؛ فالمجتمع بنظرهم هو نتاج لجهد تجتمع فيه كل القوى بقيادة السلطة (السياسية/الدينية)، وما الفرد سوى أحد مسامير قيام هذه الآلة التي تُصنع بها منجزات الدولة ونهضتها. فالفرد يأتي في المرتبة الثانية دوماً، والدولة هي المركز الكوني الذي يسخر فيه الفرد ذاته من أجل خدمته. أما التنويريون، فيرون أن الفرد هو المركز، وما الدولة سوى أداة مسخرة لخدمة هذا الفرد. والفرد مستقل ومتفرد بذاته، ولا يجب أن نخضعه عنوةً للسلطة الجمعية.

- ثالثا: العقل سُلطان يقود ولا يقاد

يُعْلِي التنويريون شأن العقل، ويرون أهمية تسخيره للنقد لكل مجالات الحياة. فالنقد ليس بالأمر المذموم، ولكنه المحمود الذي سيحسن كل مذموم ويكمل كل منقوص. أما أعداء التنوير، فيرون أن إعمال العقل هو أساس البلاء والشرور. فهو في اعتقادهم المحرض الأول لكسر المعهود، وتسخير الميل للتغيير في النفوس؛ وبالتالي هو المهدد الأول لنظام حكم الشعوب. كما أن العقل في وجهة نظرهم هو العضو الذي يحيل كل المقومات الحية الحسية إلى جليد بارد، فتنقطع الأواصر التي تربط الفرد بمجتمعه ليعيش في فقاعته وحيداً. ومن أبرز المعادين لحركة التنوير: بورك الذي وصف الحركة "بالمؤامرة الفكرية"، هدفها تحطيم الحضارة المسيحية والنظام السياسي القائم والنسيج المجتمعي الواحد. ويرون أن هيمنة العقل البارد تطفي روح الجماعة المتوقدة فتتوانى عن خدمة أمتها.

 

الوسطيون أو "اللاهوتيون المتنورون"

مَثَّل هذه الفئة رجال الدين من الطائفة البروتستانتية من مختلف الدول الأوروبية التي نادت بالتنوير. وقد قام هؤلاء بمراجعات شجاعة لمفاهيم مسيحية كانت غير قابلة للمساس في السابق، كمفاهيم :"الخطيئة الأصلية" و"اللطف الإلهي" و"الأعمال الصالحة"...وغيرها. فمثلاً مفهوم "الخطيئة الأصلية" جعل الخطيئة قدراً محتوماً على البشر، وهي الرؤية التي تبناها القديس أوغسطين، وفيها تتحمل البشرية هذه الخطيئة بشكل متوارث وأزلي. فقام اللاهوتيون المتنورون بتبرئة الناس من هذه الخطيئة، وبهذا حولوا مفهوم "الخطيئة الأصلية" من عقيدة إلى رمز يدفع المرء للبذل والعطاء ليصلح من شأنه، وليتحول من شخص مغلوب الإرادة موسوم بالخطيئة والضعف الأبدي، إلى فرد قادر على التحكم بنوازع نفسه الأمَّارة بالسوء، وبها يتحول الفرد إلى مسؤول مخير وليس فردا مسير. أما التغيير الجذري، فهو النقلة النوعية التي أجراها "اللاهوتيون المتنورون" في نقل الدين من المجرد العام العقائدي المجتمعي، إلى دينٍ معنيٍّ في المقام الأول بالفرد وتعاطيه الشخصي مع الدين، وليس بهيمنة الدين وفرضه على العام. كما أن مكارم الأخلاق والفضائل ليست مرهونة بالدين كما كانوا يعتقدون ويروجون في السابق، ولكن هناك إمكانية لقيام الفضيلة بدون الدين.

......

ختام

وبإسقاط ما مرت به أوروبا على العالم العربي، نجد أن بوادر ظهور الوسطيين موجودة بتنامي الدعوات إلى إصلاح الخطاب الديني. والرهان يبقى على مدى تقبل النتائج؟ فهل سنقبل بوجود كافة الأطياف الثلاثة بيننا (التنويريين، أعداء التنوير، الدينيين المتنورين)، أم ستقطع الرقاب والألسنة المخالفة كعادتها؟

أخبار ذات صلة