تطبيق نظريات الماوردي على المجتمعات الحديثة

سعيد الشعيلي

يمكننا تعريف المجتمع بأنه مجموعة من الأفراد تعيش في موقع جغرافي واحد، تربط بين أفراده عوامل مشتركة، كاللغة والعادات والتقاليد. ولكل مجتمع قوانين وأعراف تنظم طريقة العيش بين أفراده، ويلزم جميع أفراد المجتمع التقيد بها، فحتى الجاهلي كان يلزم نفسه بما تُلزمه به القبيلة:

وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد.. وفي العصر الحديث، ومع ظهور المجتمعات المدنية، وجدت منظمات دولية تعمل على سن القوانين بما ينظم العلاقة بين الدول. ووضعت كل دولة قوانيها المحلية بما يضمن المعيشة الكريمة لأفرادها. ولكن حتى قبل ظهور المجتمع المدني لم يغفل الإسلام عن وضع أسس العيش والتعايش بين أفراد المجتمع المسلم. وفي مقال منشور بمجلة "التفاهم" بعنوان "المجتمع الخيري الصالح بحسب الماوردي والنظام القيمي في التجربة الإسلامية"، يتحدث الكاتب عن سمات المجتمع المسلم ويبتدئ بالقرآن الكريم.

القرآن الكريم حدَّد بعض سمات المؤمنين في سورتي "الفرقان" و"الرحمن". فعباد الرحمن في سورة "الفرقان": "يمشون على الأرض هونا"، "وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما"، لا يسرفون ولا يقترون، أي أن منهجهم في الحياة منهج معتدل. وفي سورة "الرحمن" هم لفروجهم حافظون، وعلى عهدهم محافظون. ويرى الكاتب أن الفلسفة التي يقوم عليها مجتمع المؤمنين تقوم على ركنين أساسيين: الإيمان والعمل الصالح، ولا يتحقق أحدهما إلا بالآخر.

وينتقل بعد ذلك الكاتب إلى مناقشة موضوع القدر، وكيف يمكن من خلال مفهومه الصحيح فهم العلاقة مع الله -عز وجل- من حيث حرية الإنسان في القيام بما يشاء، وبدأ بالمعتزلة الذين سموا أنفسهم أهل العدل والتوحيد. العدل مع المعتزلة هو الدفاع عن صورة الله سبحانه وتعالى، فإذا كان العبد مسؤولا عن أفعاله فينبغي أن يكون هو الذي استقل بفعلها، فليس من العدل أن ينال العقوبة أو المثوبة على شيء لا يد له فيه. أما أهل السنة وأصحاب الحديث، فقد ذكر الكاتب قصتهم مع محمد بن عبدالملك الزيات الذي كان يعذب خصومه في التنور؛ فإذا سئل الرحمة بهم قال ساخرا ومستكبرا: "لا رحمة؛ لأن الرحمة خور في الطبيعة". فلما وضع في التنور صاح طالبا للرحمة. ثم يقارن الكاتب بين مركزية قيمة العدل في نظام المعتزلة الكلامي وقيمة الرحمة عند أصحاب الحديث. وهنا حقيقة لا أفهم ما المغزى من حشو كل هذه المقارنات، والحديث أيضا عن القدر ومفاهيمه عن المذاهب الإسلامية عند الحديث عن سمات المجتمع المسلم، إلا إذا كان الكاتب يقصد من وراء ذلك أن كل هذه المفاهيم أثرت على مفهوم العدل عند المسلمين وهو ركيزة أساسية من ركائز قيام المجتمعات المتحضرة.

في الجزء الأخير من المقال، يتحدث الكاتب عن الماوردي والمجتمع الخيري من خلال كتابه "أدب الدنيا والدين". يحوي الكتاب خمسة أبواب: فضل العقل وذم الهوى، وأدب العلم، وأدب الدين، وأدب الدنيا، وأدب النفس.

ورؤية الماوردي هذه للمجتمع الخيري -حسب ما يرى الكاتب- شيء لم يسبق إليه، فهو يرى أن صلاح الدنيا قائم على أمرين: ما "ينتظم به أمور جملتها، وما يصلح به حال كل واحد من أهلها"، فهما شيئان لا صلاح لأحدهما إلا بصاحبه. فالذي تصلح به الدنيا ست قواعد وإن تفرعت: (دين متبع، وسلطان قاهر، وعدل شامل، وأمن عام، وخصب دار، وأمل فسيح(.

يُمثل الدين إحدى قواعد صلاح أمر الدنيا باعتباره "نظاما أخلاقيا يصرف النفس عن شهواتها، ويعطف القلوب عن إرادتها حتى يصير قاهرا للسرائر وزاجرا للضمائر، رقيبا على النفوس في خلواتها". وناقش الماوردي تحت هذه القاعدة مسألة الأولية بين العقل والشرع، ليرى أن قول الله تعالى "أيحسب الإنسان أن يترك سدى" يعني أن الدين لا يأتي إلا بعد كمال العقل. أما القاعدة الثانية وهي السلطان القاهر، فلأن الناس لا بد لهم ممن يجمعهم على كلمة سواء، وتكون له السلطة ليردع من تسول له نفسه أن يحيد عن الطريق، مثلما جاء "إن الله ليزع بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن". فالسلطان هنا ليس حافظا للناس وحسب بل هو حافظ للدين أيضا. فإذا عدل عدل الناس وإن جار جاروا. ومن هنا، تأتي أهمية العدل والأمن فلا تنمية ولا تقدم دونهما. وهاتان القاعدتان تسريان في كل زمان ومكان، فلا توجد بلاد جار سلطانها إلا وفقدت أمنها، ولا توجد بلاد فقدت أمنها إلا وخرب عمرانها، وإذا خرب عمرانها تفرق عنها الناس أشتاتا حتى تبيد. وهنا لا بد من وقفة تأمل أمام ما يحدث في دولنا العربية بعد ما سمي بـ"الربيع العربي"، بدأ الربيع العربي بسبب جور بعض الحكام وعدم عدلهم، فاستعرت نيران الحرب في دول كانت آمنة مطمئنة، فأصبح الناس فيها لا يجدون قوت يومهم، ولا يأمنون الخروج من دارهم وتبدلت حالهم للشدة بعد الرخاء. كل هذه القواعد مرتبطة ببعضها من أجل تحقيق نمو المجتمع وازدهاره، إذا فقدت واحدة أصاب المجتمع الخلل. وإذا أسقطنا ما جاء به الماوردي على المجتمعات الحديثة، لاتضحت لنا مكامن الخلل في عصرنا الحديث. ففيما يتعلق بالدين، تطور الغرب حتى ملك كل شيء، لكنه تخلى عن الدين، فأصبح شبابه يعاني من الفراغ النفسي والاضطراب الفكري، وارتفعت معدلات الجريمة والقتل والسرقة، مع أن المجتمع مدني في حضارته. أما فيما يتعلق بالسلطان القاهر لربما لم يقصد الماوردي به السلطان الدكتاتوري حسب ما يفهم، وإنما صاحب الحكم القوي، القادر على إرساء دعائم العدل، وكم من سلاطين ملكوا البلاد فلما عجزوا عن تطبيق القوانين، والضرب على المفسدين ما أغنى الناس سلطانهم شيئا.

ومن عجيب ما توصل إليه الماوردي قاعدته الأخيرة في تحقيق الرخاء: الأمل الفسيح. والمقصود بها أن العدل والتنمية تفتحان منافذ الأمل لدى الناس بحيث يقبلون على اقتناء ما يقصر العمر عن استيعابه؛ مثل: المساكن، والدور، والتجارة التي تبقى بعد أصحابها، إذ لولا الأمل لما تفرغ الناس وشمروا عن ساعد جدهم من أجل ما يدركون أنهم لن يعيشوا من أجله مدى الدهر. ولما حدث هذا التراكم الذي نراه اليوم في الصناعة والزارعة وعمارة الأرض. هذه القواعد الست كما يقول الماوردي: "هي التي تصلح بها أمور الدنيا، وتنتظم أمور جملتها، فإن كملت فيها كمل كل صلاحها".

أخبار ذات صلة