أسماء عبدالله القطيبي
في مقاله "المجتمع الخيري وفعالية منظومة القيم في التجربة التاريخية " يناقش صلاح الدين الجورشي مفهوم الخير ضمن منظور إسلامي، معتبرا - استنادا على الأدلة الدينية- الخير هو أساس الطبيعة البشرية، وأن التحدي الذي يواجهه البشر منذ نزول سيدنا آدم من الجنة إلى الأرض هو تهذيب نزعة الشر المغروسة فيهم، والتي إن وجدت بيئة خصبة نمت وترعرت وعاث صاحبها في الأرض فسادا، وإن مما يعين المؤمن على كبح جماح النفس الأمارة بالسوء هو الجزء الذي وعده الله في الآخره، ألا وهي الجنة، النموذج المثالي للحياة السعيدة التي لا يكدر صفوها أي مكدر.
ناقش الجورشي في مقالته مفهوم المجتمع الخيري والإنسان الرسالي، والذي تتمثل أبهى صوره في الرسول، حيث كان المُجتمع متحركا بوحي سماوي تحت قيادة حكيمة من الرسول الأمين، وبذلك أصبح المجتمع الإسلامي مجتمعا خيرا، هذبت فيه النفوس، وأصلحت به الأحوال، وآزر الناس بعضهم بعضا، ثم بعد أن توفي الرسول حدث شرخ كبير في نسيج المجتمع الإسلامي، وصل إلى حد التقاتل بين صفوف المسلمين أنفسهم، وهذا ما يمكن تفسيره بعدة تفسيرات يهمنا منها أن نزعة الشر مهما هذبت في النفس البشرية تبقى حاضرة، مستعدة للظهور إذا ما هيأت لها الظروف، لذا فإنَّ أولئك الذين لم يأخذوا من الدين روحه، ومن أسلم منهم بقصد المال والجاه والرفعة انبروا يظهرون رغباتهم الخفية في التملك والإيذاء؛ حيث إن حب الخير لا يرتبط بنظام معين أو بوجود القدوة (كالنبي محمد في هذا المثال)، وإنما من إحساس الشخص بالمسؤولية تجاه نفسه ومجتمعه، وارتكازه على ثوابت ومنظومة أخلاقية، ومتى ما فقدت هذه العناصر أصبح المجتمع مهددًا على شفا حفرة من الظلم والطغيان.
إن علينا التسليم والإقرار بأن المجتمع النبوي كان مجتمعا مثاليا، وأنه من غير الممكن أن يستمر بطبيعته تلك وفقا لنظام الحياة، وتبدل الظروف والأحوال والأجيال، ولكنه كان نموذجا تاريخيا مهما ومازال، فكما يقول صلاح الدين الجورشي :" إن المجتمع النموذجي الذي تحقق في مرحلة من مراحل التاريخ تبقى قدرته في الإلهام، ولكنه لن يكون قادرا على التكرار والاستنساخ، مهما كانت درجات الإخلاص والتقيد بتفاصيل ذلك النموذج"، وإننا نرى في واقعنا المعاصر كيف فشلت كثير من الأنظمة، وحتى المجموعات، التي حاولت أن تكون مجتمعا يشبه المجتمع النبوي دون الالتفات للاختلاف الزماني، والمكاني، والحضاري، والثقافي بين المجتمعين، بل إن النظام الذي حاول ذلك أخرج أفرادا مشتتين، غير قادرين على التواصل مع الواقع ومع التطور الحاصل في العالم، وغير قادرين على تلبية ما يطلب منهم من التزام ومسؤوليات صارمة. ومن بين هؤلاء خرج المتطرفون، سواء الذين غالوا في الدين وأباحوا الدماء باسمه، أو الذين رفضوا الدين بالكلية كردة فعل على الأزمة الفكرية التي وضعوا فيها.
إن الإسلام الذي يحث على الخير وضع من ضمن تشريعاته الزكاة كركن أساسي من أركان الإسلام، وهو العمل الخيري الثابت الذي ألزم به الأغنياء في أي زمان ومكان لفئات محددة من الناس. ثم إنه حث على العمل الخيري في الوقف، والصدقة التي لا تقتصر على المال الذي هو زينة الحياة الدنيا ومتعتها، وإنما تشمل الأفعال الإنسانية البسيطة كإماطة الأذى عن الطريق، والتبسم. بحيث لا يعذر أي فرد من العمل الخيري الذي يقدمه في مجتمعه. وحيث إن الحاجة المادية في فترة النبوة والدولة المدنية الحديثة كانت تتمثل في بناء المساجد، وحفر الآبار، وإطعام الطعام، كان النبي ومعه أصحابه يحرصون على توجيه أموال المسلمين إليها، وبالطبع فإنه مع تبدل الأحوال وتعاقب الأزمان تغيرت مصارف الصدقة، فكما نرى في زماننا هذا فإن المساجد قد كثرت وتقاربت، فلم يعد المجتمع بحاجة إليها كحاجته إليها سابقاً، بينما أصبح التعليم مثلاً ضروريا رغم تكلفته الباهظة – ولم يكن كذلك في عصر النبي والصحابة -، لذا فإن فهم روح الصدقة ومعناها سيدرك أن تمثل سنة النبي هو في وضع الصدقة في مكانها الصحيح، لا في تقليد الفعل نفسه. كما أن التقارب الذي حصل بين المجتمعات المسلمة وغير المسلمة يجعل الفرد المحب للخير مستشعرا لمعاناة الإنسانية، متلهفًا لمساعدة الآخر بغض النظر عن ديانته، وهو ما لايتنافى مع مبدأ الإسلام في عمل الخير، والذي ما أتى إلا ليكمل مكارم الأخلاق التي نادت بها كل الديانات السماوية.
إن المجتمع الخيري هو المجتمع الذي يتبارى فيه أفراده لفعل الخير لأنهم يحسون بأثره في نفوسهم، وفي تبدل أحوال المجتمع للأفضل، وهذا لا يتأتى إلا بوجود منظومة إدارية أمينة تساعد على تحقيق ذلك بإنشاء دور للزكاة ودوائر للوقف، وجمعية خيرية موثوقة يطمئن إليها الناس، ويلجأ إليها المحتاج، وهذا لا يتحقق إلا في الأنظمة العادلة، الواعية بأهمية مثل هذه الشراكة، دون أن يؤدي ذلك إلى تهاونها بدورها في تحسين أحوال الناس المعيشية، وتأمين عيشة كريمة للمحتاجين والأيتام. ومتى ما تحقق ذلك وصلت المجتمعات إلى نموذجها المثالي الخاص، وحققت مقاصد الدين وروحه الحقة.
