موت أوروبا الغريب: الهجرة، والهوية، والإسلام

Picture1.png

دوجلاس موراي

فينان نبيل (كاتبة مصرية)

"الموت الغريب لأوروبا" قصة قارة توشك على الانتحار عمدا أودون قصد، الكتاب ليس مجرد تحليل للحقائق الديموغرافية والسياسية، بل هو أيضاً قراءة شاهد عيان لواقع قارة في وضع التدمير الذاتي معتمدًا في ذلك على السفر عبر القارة بأكملها،( برلين وباريس والدول الإسكندنافية وامبيدوزا واليونان)، لسماع قصص أولئك الذين وصلوا إلى أوروبا من بعيد. والتوغل في القضايا الأعمق التي تجعل من زوال القارة أمرا ممكنا، سواءً الهجمات الإرهابية الجماعية، أو التآكل المطرد للحريات، الفشل المخيب للآمال في إدارة التعدد الثقافي.

افتتح موراي كتابه بعبارة صارخة هي" أوروبا تنتحر"، متهماً قادة أوروبا وساستها بمشاركة الإعلام أنهم جروا الشعب تجاه طريق الإبادة الإثنية والعرقية، ويذكر عددا من العوامل في أوروبا تسببت في قبول ساكني أوروبا الأصليين "ظاهريا" لفكرة "التعدد"، من هذه العوامل، فقدان أوروبا الإيمان بمعتقداتها وتقاليدها وشرعيتها، مع تنامي الشعور بالذنب الذي نما في تربة خصبة على خلفية "الهولوكوست"، يصرح موراي "إن أوروبا باتت تشعر بشدة بالذنب تجاه ماضيها أكثر من أي قارة أخرى في العالم اليوم"، ويعتبر هذه الحالة بحد ذاتها أزمة حضارية، وأن مصير أوروبا محفوف بالمخاطر بسبب زيادة التدفق الجماعي لغير الأوروبيين، تحت سياسة الإعفاء الاجتماعي الحالية وتصنيف أوروبا كوطن لكل من يطلب ذلك وليس للأوروبيين وحدهم، خاصة من هؤلاء الذين استولت أوروبا على أراضيهم تاريخيًا.
 

يدحض موراي في كتابه أكاذيب تدعي أن أوروبا تتقدم نحو مستقبل أفضل، واختار فترة عشر سنوات ما بين (2002-2012) وهي فترة تدفق الملونين(غير البيض) إلى لندن، فقد أصبح "البيض" أقلية في لندن، وأصبحت "إنجلترا وويلز" موطنا" لثلاثة ملايين" مهاجرا إضافيًا، لا يتحدث شخص بالغ منهم الإنجليزية. وتضاعف عدد المسلمين من "1.5 مليون" إلى "2.7 مليون بين عامي (2001- 2011) دون أخذ تعداد المسلمين من الهجرة غير الشرعية في الاعتبار، وهم يشكلون العنصر الأكبر منها، يرى أيضًا أن الشعب البريطاني "تغير تمامًا" وأنه بحلول 2011، أصبح مختلفا جذريا عما كان عليه لعدة قرون، وعبرت ردود الفعل السياسية والإعلامية عن هذه التغيرات السكانية بنبرة واحدة هي "الاحتفاء"، فالسياسيون والصحفيون اصطفوا للدفاع عن زيادة التنوع، وصفقوا لتعدد الثقافات على اعتبار أنه لم يكن شيئا جديدا، وروجوا لأكذوبة أن بريطانيا والدول الأوروبية كانت دائمًا "متنوعة"، وهو ما يرفضه "موراي"، مشيرا إلى أن الألفية السابقة تحديدا في الفترة ما قبل(1950)، احتفظت بريطانيا بثبات سكانها بشكل غير عادي، فقد كان أهم تدفق في الجزيرة البريطانية خلال الألفي عام الماضيين من "السكسونيين"،و"النورمان"،و"الإيرلنديين"، وكلهم يتبعون غرب أوروبا وأبناء عمومة البريطانيين وهناك تقارب جيني معهم، هذه الطبيعة الثابته لبريطانيا تم تدميرها مؤخرا مع سلسلة الإجراءات التي دفع بها البرلمانيون بشكل متسارع دون التشاور مع الجمهور البريطاني، فقد مكن قانون الجنسية البريطاني 1948 للوافدين، وقانون الكومنولث سمح بأول موجات الهجرة من أفريقيا والهنود لدخول بريطانيا تحت حجة سد النقص في الأيدي العاملة، وبين عامي(1948 -1952) دخل حوالي(20000) من السود إلى بريطانيا، وبحلول عام 1957، ارتفع الرقم إلى(42000)، وكشفت التقارير الحكومية أن فكرة أن السود كانوا يساعدون في سد النقص في اليد العاملة لا تستند إلى أساس سليم. ففي تقرير عام (1953) لموظفي الخدمة المدنية أكدوا فيه" أن السكان الجدد يجدون صعوبة في تأمين فرص العمل ليس بسبب تحامل البيض عليهم، ولكن لأن الوافدين لديهم "مخرجات منخفضة"، وتتسم حياتهم بعدم المسؤولية "والبطء العقلي"، وأن الرجال السود أكثر تقلباً في المزاج من البيض، وعدم الانضباط، وأكثر إثارة للعنف، ويفتقرون القدرة على التحمل، ولا يصلون إلى المعايير المطلوبة من قبل أرباب العمل البريطانيين.

في عام 2014 أثبتت الأبحاث في السياق التاريخي لقوانين العلاقات العرقية، أنها ليست قوانين عارضة أو تشريعات مخصصة، بل كانت هذه القوانين جزءًا من تقليد طويل من محاولات اليهود لتغيير التركيبة العرقية لبريطانيا والتحرك نحو حظر "التشهير الجماعي"، يدرك موراي تمامًا أن المنظمات اليهودية تشكل عنصرا هاما من عناصر القوى الموالية للهجرة، قائلا "إنه يصدمني حقا اكتشاف أن العديد من الجماعات اليهودية والقادة اليهود أخذوا يؤدون دورا بارزا في الترحيب باللاجئين"، يبدو أن موراي وضع نفسه في نمط الفلسفة المعادية للإسلام - والسامية - وهو النوع الذي لا يزال شائعا في اليمين. قدم موراي أمثلة للنفوذ اليهودي، فيشير إلى "باربرا روش"، "من أصول يهودية شرقية"، كمهندسة رئيسية للدولة "متعددة الثقافات" تحت قيادة "توني بلير" وأنها لقبت كل منتقديها "بالعنصريين"، وبعد عشر سنوات من إصلاحات الهجرة المؤثرة للغاية، قالت روش في إحدى المقابلات:" أحب التنوع في لندن"، ومثالا آخر لدور اليهود هو الأكاديمي اليهودي، الروائي، والصحفي "ويل سيلف"، الذي اعتبر الهجرة نوعا من الزخم الثقافي، قال سيلف لجمهور هيئة الإذاعة البريطانية: إن أولئك الذين يعارضون التعددية الثقافية " عنصريون يكرهون الناس، وخاصة أصحاب الجلود السوداء والبنية.

فشل موراي في إيجاد علاقات منطقية بين العوامل المختلفة، فنجده تارة يصورها بأنها بدافع "الانتقام" المتأصل البلدان التي احتلتها أوروبا،وهو ما يبدو متناقضا مع أطروحته" الانتحارية"،فيقول "فإذا كان "الانتقام" حافزا جزئيا للتحول الأخير لبلدنا، فإن ما نمر به ليس حادثا، أو مجرد تراخ بل عمل تخريبي داخلي ومتعمد.

يشير مواري في الفصل الثالث بعنوان "الأعذار التي قلناها لأنفسنا". وهو امتداد موسع للمبررات الواضحة للتعدد الثقافي الذي "أقنع به الأوربيون أنفسهم .إلى أن الشعوب الأوروبية، جميعها، قد تغذت لعقود من الزمن على أكاذيب وحجج باطلة حول "التعددية الثقافية"، منها، أن أوروبا تعاني من "مرحلة الشيخوخة"، وأن "الهجرة لها منفعة اقتصادية"،وأنها تجعل المجتمع "أكثر ثقافة"، وأن العولمة تجعل الهجرة الجماعية أمرا لا مفر منه ولا يمكن وقفه، وفند هذه الادعاءات بشكل ثاقب وموجز، مستعينا بمجموعة من الإحصاءات ليثبت أن المهاجرين يشكلون عبئا ضخما على الموارد المالية الوطنية،وأن الإحصائيين الحكوميين يقومون بتدوين أرقامهم من أجل إنتاج روايات مسيسة عن التقدم الاجتماعي، ويقول موراي، "إن الهجرة الجماعية كلفت الشعب البريطاني حوالي( 160 مليار جنيه إسترليني) بين عامي(1995- 2011) ".

يرى أن الحجة القائلة بأن "أوروبا في مرحلة الشيخوخة" وتحتاج إلى تدفق من الشباب تحتاج معالجة دقيقة، مشيرا إلى استطلاعات الرأي التي تشير إلى أن الأوروبيين يريدون أن يكون لديهم المزيد من الأطفال ولكن يجدون صعوبة بسبب الضغوط الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، ويضيف موراي أن التعددية الثقافية نفسها لها تأثير محبط على رغبة الأوروبيين في إنجاب أطفال لأن ذلك يقلل من الشعور بالأمن، ويجعل الأزواج أقل تفاؤلا بشأن المستقبل، حتى لو كان ذلك على مستوى "اللاوعي". ويرى أنه على الحكومات الأوروبية أن تعالج مشكلة انخفاض معدلات المواليد بشكل يبتعد عن السطحية، وأن تضع سياسات تشجع على الإنجاب. خلص موراي إلى أن أوروبا لا تعاني من نقص في اليد العاملة، بل إنها تواجه مشكلة مع الشباب "المتعلمين" الذين ينظرون إلى العمل اليدوي نظرة متدنية، ويعرض حلا لمشكلة السن المزعومة في أوروبا، بدلا من استيراد سكان جدد، هو التحول إلى سياسات تشجع التكاثر والأسرة، وإعادة تعليم شبابنا بعيدا عن توقعات الحياة المادية المفرطة.

وحول الحجة القائلة إن "التنوع" يثري الثقافة الأوروبية" فهو يرى أن ذلك يعني أن "المجتمعات الأوروبية هي أماكن مملة ولا يطرقها الكثير، على الرغم أنه في الواقع، تمتلك أوروبا "انتشارا قائما بالفعل للغات والثقافات وحتى المأكولات الأوروبية"". كما أننا نستطيع أن نتعلم عن الثقافات الأخرى عن طريق السفر إليهم، وليس "بتشجيع العالم على أن يأتي إلينا" .

يفند موراي مغالطة أخرى هي الإيحاء بأن "قيمة المهاجرين تتزايد مع تزايد أعدادهم" فيقول إنك لو تناولت طعاما تركيا مرة كل عام لن يضيف إلى قيمته شيئا إذا تناولته ألف مرة، كما يقول إن هناك 100000 صومالي وباكستاني يدخلون أوروبا سنويًا وهذا لا يعني أنهم يضاعفون الإثراء الثقافي 100000 مرة، ويضيف إذا كانت أوروبا قد تعلمت بالفعل من المطبخ الهندي واكتسبت ما تريد اكتسابه، فلا حاجة إلى الاستمرار في استيراد المزيد من الهنود إلى مجتمعنا من أجل استمرار التمتع بالطعام الهندي. ولعل حجة موراي الأكثر قوة ضد فرضية "التلاقح الثقافي" هي تعليقه الموسع على جرائم المهاجرين، المنتشرة في جميع أنحاء الكتاب فهو يلقي الضوء بشدة على ما ينشر في الصحف، من حالات الاستغلال الجنسي الجماعي من قبل العصابات المهاجرة. وتقارير الشرطة والحكومة المحلية، حول الاعتداء الجنسي على الفتيات الأوروبيات احتل فيه المهاجرون مركزا متقدمًا بلا منازع لسنوات.

يرى موراي أن مصطلح "التعددية الثقافية" قد يُفهم بين قطاعات واسعة من الجماهير على أنه موقف "مهذب" لا يمنع الناس من خلفية ثقافية مختلفة أن تعيش في بلادهم، ويدعمون التعدد الثقافي وفقا لهذا التعريف، بينماهناك طبقة أعمق من الخونة والمخربين تنشر أن" التعددية الثقافية"،هي أن يكون " مستقبل المجتمعات الأوروبية بوتقة انصهار كبيرة"، حيث يذوب الأوروبيون البيض باطراد في النسيان". في حين أن الجماهير الأوروبية تعتقد أنها تتبني التعريف الأول، يعمل هؤلاء على تعزيز الثاني، فهو يرى أن هناك تلاعبا خفيا، وأن التعددية الثقافية هي عدوانية ومكافحة لأوروبا، مستشهدا بما كتب الفيلسوف والسياسي الأمريكي صمويل هنتجتون "أن التعددية الثقافية في جوهرها مناهضة لنهضة الحضارة الأوروبية. إنها في الأساس أيديولوجية مناهضة للغرب".

فحتى عندما تكون الدول منفتحة وتشجع الهجرة الواسعة النطاق إلى حد "الانتحار"، فإنهاعلى الرغم من ذلك "تُصور على أنها بلدان عنصرية،ويمثل لذلك بوزيرة التكامل السويدية، "منى ساهلين"، التي تحدثت في مسجد كردي في عام 2004 لجمهورها قائلة" إن العديد من السويديين كانوا غيورين منهم لأن الأكراد لديهم ثقافة وتاريخ غني وموحد، في حين أن السويديين لم يكن لديهم سوى أشياء سخيفة مثل مهرجان ليلة منتصف الصيف ".

أصّل موراي لجذور كراهية النفس وطغيان الشعور بالذنب "عنوان الفصل العاشر" مسلطا الضوء على أهمية التمثيل التاريخي والثقافي من( 1930 – 1940) في تعزيز الشعور بالذنب بين الأوروبيين، مما أدى في نهاية المطاف إلى إصرار "أن أوروبا ليس لديها أي خيار سوى أن تقبل كل شخص يريد أن يأتي، وعدم السماح بذلك يكون"نازية معاصرة"، ولكن هذه الفترة التاريخية الخاصة هي مجرد جذر، وقد نشأ عنه العديد من الفروع. "فالأوروبيون اليوم ينظرون لأنفسهم، أكثر من أي شعب آخر أنهم يحملون ذنوبا تاريخية محددة التي تشمل ذنب الحرب، وذنب المحرقة ". يقول موراي:" لقد كان الشعور بالذنب الأوروبي مفيدا للغاية لأعداء شعبنا " وأن تضمين فكرة الخطيئة الأصلية في أي أمة هو أفضل وسيلة ممكنة لتوليد الشك الذاتي".

يحاول موراي تقديم بعض الاقتراحات لسياسات قد تساعد أوروبا في البقاء على قيد الحياة مثل "الترحيل، والتحولات الثقافية،وتجريم التشهير بالأمم كما هو الحال في بلدان مثل تركيا"،ولكنه كان واقعيا صريحا حيث قال "إنه يضع هذه المقترحات في مجال التمني". يرى مواري أنه بحلول منتصف هذا القرن، في حين تظل الصين والهند، وروسيا، وأوروبا الشرقية كماهي، وأوروبا الغربية في أفضل الأحوال تشبه الأمم المتحدة على نطاق واسع، لن تكون هناك أوروبا طالما أن ساستها وإعلامييها مقتنعون أن وطنهم مدين للبشرية - ديون لا يمكن أن تدفع إلا من خلال إنكار الذات.

الكتاب يعد تحذيرا هاما بشأن تدهور الشعوب الأوروبية؛ يقدم موراي رؤيتين لأوروبا الجديدة -إحداهما متفائلة، - ترسم صورة لأوروبا في أزمة وتقدم خيارا لما يمكن أن تفعله، فيؤكد أن الثقافات والمجتمعات الأوروبية من أجل النهوض عليهم الاعتماد على أنفسهم، مع التركيز بشكل خاص على السلبيات، والثانية متشائمة تتبنى مقولة شبنجلر أن "الحضارات مثل البشر يولدون، يزدهرون لفترة وجيزة، ثم يموتون ويتحللون".

يأتي كتاب "الموت الغريب لأوروبا "في وقت تحتاج إليه الثقافة الأوروبية، بالتركيز على آثار الهجرة الجماعية المستمرة من أفريقيا، والهند وشبه الجزيرة الهندية، والشرق الأوسط . الكتاب لا يساعد في تأسيس المستقبل، ولكنه يساهم في فهم الماضي، ويؤكد بطريقة واضحة أن أطروحة التعددية الثقافية محكوم عليها بالإعدام في أوروبا، وقد يدق الكتاب ناقوس الخطر من تنامي تيار فكري يرفض الهجرة الجماعية لأوروبا ويعكس "عنصرية" تجاه تيارات الهجرة من المسلمين، تظهر بين الحين والآخر في صورة أحداث عنف تجاههم وإن كانت أحداث فردية.

المؤلف: دوجلاس كير موراي مؤلف بريطاني وصحفي ومعلق سياسي. وهو مؤسس مركز التماسك الاجتماعي.

--------------------------------------------------------------------------------

الكتاب: موت أوروبا الغريب: الهجرة، والهوية، والإسلام

المؤلف: دوجلاس موراي

الناشر: اكسفورد-لندن-2017

اللغة: الإنجليزية

 

Douglas Murray-The Strange Death of Europe: Immigration, Identity and Islam- oxford-London-2017.

 

أخبار ذات صلة